رواية مقيده بالاحزان -16
قواها المسلوبة لم تسعفها على أكمال حروفها المتبقية
وحتى قبضتها الضعيفة
تخلت عن قيدها
وأطلقت صراح ساقه
واستسلمت رموشها
لسكون
وأسدلت ستار جفناها النافذتان القوى
__
كان يهم برحيل
حين أستوقفه صوتها المنادي باسمه:
- دكتور خالد..
ألتفت إلى خلفه
ليجدها تقف أمام غرفة حميد
وهي ترسم الحياء على تعابير وجهها الثلاثيني
تبسم لها وهو يقول:
- خير شمسة .. في خاطرك شيء..
ابتلعت ريقها الذي اجتاحته نوبة جفاف ... وقالت بصوت هامس النبرة:
- خير إن شاء الله.. بس حبيت أشكرك على زيارتك لحميد .. وعلى وقفتك معنا..
زاد من حيز ابتسامته .. وهو يقول:
- أفع هذا واجبي .. وبعدين أنا كان عندي مؤتمر هني.. فقلت أستغل الفرصة وأتطمن على حميد وعلى مريوم ..
لتقول :
- تسلم ..
ومن ثم رضخت لصمت .. وبدأ التردد يلعب بتفكيرها ..
لاحظ خالد هذا الشيء .. فقال وهو يحاول بأن يشجعها على البوح بما يجول في خاطرها:
- خير شمسة في خاطرك شيء..
حنت رأسها إلى الأسفل .. ووهج الخجل يحرق ورقتي خديها.. وهي تتلاعب بأناملها المتراقصة لعلها تتمالك بفعلها هذا التردد والحياء الذين يفتكان بها لحظتها..
عادت تزدرد ريقها.. وقد أطلقت صراح تلك الكلمات الغاصة لحلقها :
- دكتور خالد .. حابة أسألك عن حميد.. لما دخلت عليكم الغرفة.. كان يبكي صح.. بس.. بس حاول.. حاول أنه ما يبين لي هالشيء.. هو شيء صار .؟
طأطأ هو الآخر رأسه وقد زفر تلك الأنفاس التي تحشرجت في صدره
وقال بعد صمت ألصق شفتيه لبرهة:
- أيوه .. شيء صار .. أنا حاولت ما أقول له حتى يركز في علاجه .. بس لما شافني أصر عليه يعرف أخبار أمه وأخواته ..فطريت أقول له ...
رفعت رأسها بحركة لا إرادية وهجمت عليه بسؤالها والجزع يشد كل خطوط وجهها:
- شو صار لأمه وأخواته؟
تبعها هو الآخر برفع رأسه
وقد بل ريقه
قبل أن يقول والحزن يلتهم صفحة وجهه:
- أمه تعبانه وايد ... ورافضة تأكل .. وحتى تتعالج .. حاولنا أنا وبناتها معها بلا فايدة ..
لتفلت جمله من بين شفتيها:
- بسبب حميد ؟
ليأتيها الجواب بهز رأسه بالإيجاب.
شعرت باللوم يغرس سكاكينه الحادة بكل خلية بجسدها
أخذت تتلمس بدنها المنكمش بسبب مرارة تأنيب الضمير وهي تقول بحرقة تلهب فمها:
- أنا السبب .. كنت أفكر بنفسي ببنتي .. وما أهتميت بالمشاكل إلي سببتها لحميد بسبب هالزواج.. حتى أني ما فكرة أسأله عن مشاعره.. والوجع إلي أصابه بسبب مقاطعة أهله له.. صدق أني أنانية .. وما أفكر إلا بنفسي ..
جاءها صوته الرجولي .. الدافئ .. الذي حرص على أن يلامس الأمل في قلبها :
- شمسه .. أنتِ مالك ذنب بالي صار.. كان حميد مقرر يسافر ويترك أهل بدون ما يخبرهم .. كان يريد يجعلهم يكرهونه .. قبل لا تدخلين أنت ومريم حياته .. يعني مالك ذنب أبدا ..
لترفع رموشها الآتي أرختهما لثواني .. وتسمح لتك الدموع المتدارية من ورائها برؤية النور.. وتقول بنفس نكهة المرارة:
- ولو .. هذا مو مبرر.. هو وقف عندي وآزرني .. وساعدني بدون مقابل.. وأنا .. وأنا ..ما قدمت له شيء..
هنا بتر جملتها بصوته المتهلل بالفرح:
- بالعكس .. أنتِ قدمتِ له أكبر هدية .. وهي الأمل .. خليتيه يحس بأنه في أمل بأنه يعيش .. ينتصر على هالمرض.. أنتِ يا شمسه ساعدته أكثر مما تتصورين .. وساعدتي أهله بعد .. بأنه بيشوفوا ولدهم مرة ثانية..
نظرت إلي ميمنتها حيث يقبع من وراء هذا الباب الشاخص حميد وقد عضت على شفتها السفلى .. قبل أن تقول بنبرة تغرق في بحر اللوم:
- لكن بعد أن خليت الكل يبكي ويعيش المر .. لازم أعمل شيء...
لتنظر نحوه بإصرار وعزيمة تنحتان عيناها اللامعتان.. وتكمل قائلة:
- لازم ... حتى أرتاح وأريح حميد وأمه وأخواته ..
ثارت ثائرته على صديقه الذي لم يركد منذ أن دخل صاحبه محملا بشخص غير مرغوب به في البيت
فقال بصبر قد نفذ:
- بس صدعت راسي وأنت رايح ياي .. أقعد وخلنا نفكر..
توقف صاحبه الذي خرق الأرض بقدماه اللتين لم تستريحان من الحركة .. وقال والذعر يجعد زوايا وجهه:
- كيف أتوقف ... يا ربي منك أحمد .. ليش يبتها لنا.. إذا ماتت علينا شو بيصير.. وبعدين أنت رحت عشان تجيب جوازك وأوراق الثبوتيه مالتك.. ليش يبت لنا هالبلوه .. إلحين إذا يو أهلي شو بقول لهم...
أقترب من رفيقه.. وضع كفيه على كتفي صاحبه .. وقال بهدوء يناقض الريح الهوجاء الفاتكة بفكره وروحه :
- هدي شوي يا عبيد .. أهلك ما بيون من العمرة إلا بعد يومين .. مو هذا كلامك .. وحن ما بناقعد إلا ليلة وحده فهدي.. تراني والله أنا مو ناقص.. أنا خايف أكثر منك ..
بدأت أنفاس عبيد الفارة منه .. تتراجع .. حين لدغ مسمعهما صوت أنين قادم من وراء الباب الموصد..
نظر كليهما نحو مصدر الصوت..
ومن ثم تلاقت عيناهما مع بعض
والقلق يتلاعب بقسمات وجهيهما..
حين قال عبيد الذي عاودته نوبة الذعر:
- روح شوفها .. أنا ما لي دخل بك وحرمتك ..
تصبب جبين أحمد عرقا
حين رد بكلمات متعثرة :
- يا ربي .. وش بلشت نفسي به..
ليدفعه عبيد حاثا له بالمسير مجبرا جهتها
وقائلا:
- يلا شوفها .. لا تموت علينا ..
استجاب رغما عن رغبته لأمر صاحبه
وبخطى متذللة دخل الغرفة الشبه معتمة
كانت تفتح عيناها النصف مشرعتان ولمحت الذعر الصارخ به قلبها يجمد تعابير وجهها الندي
وهي ترفع يديها نحو الأفق البعيد بحثا عن منجد
غير مدركة لما حولها
فعقلها سجن في عالم الماضي الذي بكت بدل الدموع دما على خطئها الفادح طوال أيام حجزها الجائر والتي أستمر لأسبوع كامل .. ذاقت فيه طعم المهانة والذل .. والجوع كذلك .. في تلك الظلمة القاتلة لشخصها برويه مؤلمة..
أقشعر جسده من مرآها
وأحتار في فعله القادم
أيمضي إليها
أم يهرب كالعادة
لكن صوتها الوهن الذي أخترق قلبه الرحيم والمنادي باسمه أنها صراعه الداخلي..
هرول نحوها بدون قيود الخوف
التقف تلك اليدين الهائمتان بدون وجهة معينة
وقال بصوت ملئه الرجولة :
- أنا هني فاطمة لا تحافين ..
لتهجم عليه متشبثة به بكل ما أوتيت من قوة
رغم ضعفها
فقوى الهلع تدب في كل ذرة بجسدها
خنقته بقبضتها الحديدة
وأذابت دموعه المتجمدة .. بمناجاتها له :
- لا تتركني مرة ثانيه .. لا تتركني ...
بكى قلبه عليها
فاستجاب لندائها
بضمها إلى صده لأول مرة والتي كانت كالخلقة بين ذراعيه
وهمس بأذنها قائلا:
- ما بتركك لا تخافين .. بأكون قربك .. نامي أنت بس .. نامي ..
وأخذ يمسح على شعرها المنسدل كالشلال على كتفها بكل حنان
لتنام قريرة العين وابتسامه طمأنينة تعانق شفتيها الجافتان ..
__
دخل ونور السعادة يشع من وجهه الذي شحب بسبب براثم العلاج الذي تسرب إلى جسده
لكنه ألتطم بوجهها المتيبس
النازف لدمع
لكن الصمت كان له مكان على شفتيها المرتعشتان
نظر صوب جهة عيناها اللتين تكادان تخترقان السرير الخاوي من رفيقته المرحة
فصرخ قلبه بإنذار حاول أن يتجاهله
لكن صوته الذي أصم مسمعه
جعله يسألها لعله يكتم ذلك الشك الذي ينحر قلبه:
- وين مريم ؟!!
لا جواب يريحه من ما يقبع في صدره من خوف
فلجأ إلى الهجوم عليها بقبضتيه الحديديتان التين هشمتا ذراعيها
وأخذ يهزها بهسترية وهو يصرخ بنفس السؤال الذي يحرق جوفه:
- وين مريم ؟.. تكلمي يا شمسه ..وينها؟..وينها؟!!
نظرت صوبه بمقلتيها التائهتان في عوالم أخرى
وخنادق من الدمع تخترق وجنتيها
فتحت فمها لتخرج الصمت منه
فتعاود الكرة
فتفجر قنبلة في وجهه بصوتها المتحشرج بالدمع:
- ماتت..
فتتحطم الملامح الجامدة أمام حشد الحزن اللاهب لصدرها ..
سرت رعشة نابعة من قلبه لجميع أطرافه
قبل تفرز الدمع من جفنيه
وهو مسمر بصره صوب شمسه المنهارة تماما
دقائق صامتة إلا من صوت شهقات البكاء مرت عليهما
حين انفجرت أخيرا شمسه صارخة
ساكبة بحمم البراكين على حميد المتبلم لا يعلم ما يفعل بكلام جارح
- أنت إلي لازم تموت .. أنت إلي كنت ما تريد تعيش .. هي كانت لازم تعيش مو أنت .. هي ... هي ..
وهي تنهال عليه بقبضتي يديها ضربا على صدره
المكبل بغصات الحزن ..
فأغمض عيناه فهو لم يعد قادرا على تحمل رؤيتها بهذه الحال أكثر من ذلك
وأحاطها بذراعيه رغم نفورها منهما
إلا أنه تمكن من تقيدها
وغرسها في صدره
ليمتص جرحها الدامي الذي أنفتق
والذي لم يسلم هو الآخر منه
لتهاوى بطاقتها المتآكلة نحو الأرض تابع هو إياها
وقد رضخت لسحر حضنه
وكتفت بالنحيب
الذي هز الغرفة بمن فيها
__
أحاط يدها الراجفة بيده
لترفع عيناها جهته حيث يقف على ميمنتها
وابتسامة قوة يمدها بها ..
فشقت ابتسامة مترددة على شفتيها هي الأخرى
حين قال محفزا لها :
- همه أهلك .. لا تخافين ..
أخذت نفسا عميقا تشبع به رئتيها المخنوقتان بالقلق..
ليأتيها صوته السائل:
- ندخل..
هزت رأسها بمعنى نعم وهي مغمضة العينان..
حين تحركا صوب الباب المغلق ..
__
واقفة كجثة مسيرة .. لا تدب فيها أي علامات الحياة .. في وسط مكان لا ينام .. ولا يعرف معنى السكون ... حين تجرأ وسلل أأنامله الخشنة من بين أصابعها الباردة .. وقد أشع وجهه بالبسمة .. لعله يخرجها من قوقعة الحزن التي دخلت بها منذ رحيل غاليتها .. وقال بنبرة تقصد بأن يدعمها بروح الأمل:
- الحمد لله على سلامتك ..تو ما نورت الإمارات ..
لم يجد تجاوبا منها
فتسلل الحزن الذي ضل يقاومه إلى قلبه
لكن لم يرضخ له
لا بد من أن يعيدها إلى الحياة
رغم وجعه وحرقته على فقد مصدر الفرح مريم
فعاود يحرك شفتيه .. بصوت جاد .. نابع من داخله .. ويأمل بأن يلامس وتر حساس في داخلها:
- شمسه أنت قادرة تتجاوزي هالمحنة ... امرأة مثلك وقفت أمام كل ذيك المصاعب .. وخلتني أقاتل المرض.. وخليت أمي ترضى عني وأخواتي .. حرمة مقاتله مثلك.. قادرة تعدي من هالأزمة .. وبعدين مريم عند رب العباد .. عصفور من عصافير الجنة .. يعني أهي في مكان أحسن بمئة مره من ها الدنيا وما فيها ...
بخطوة واحدة بات مواجها لها.. وشبك يده الأخرى بأناملها وشد قبضتهما بيديها .. وهو يكمل قائلا.. وقد برقت عيناه بعزم لا يردع:
- وبعدين أنا معاك .. ما بخليك .. أبدا ...
لترفع الستار بعد طول انتظار كاشفتن عن عيناها المحمرتان .. فتلاقت عيناه العازمتان .. بعيناها التين لا يمكن فك طلاسمهما ...
تبسم وهو يحس بأنه وصلف إلى مبتغاه
ففتحت أخيرا شفتيها التين لم تذوقان طعم الكلام منذ أيام ..
وقالت بهدوء رهيب:
- انتهى دورك .. الحين أنت حر ... السبب إلي تزوجان عشانه .. ما صر له وجود... يمكنك الحين أن تطلقني .. وأنا شاكرة لك على كل إلي عملته لي..
لتحرر بعد ذلك أصابعها من خيوط أنامله الآتي تجمدن من وقع الصدمة ..
ورحلت من أمامه غير آبهة لردت فعله ...
وهو الواقف كالتمثال
لا يدري ما الذي يجدر به فعله ...
__
هوى بعصاه على الأرض بكل قوة الغضب التي تقبض عليه بقبضة حديدة ..وهو مقطب الحاجبين .. ثائر العينان .. محلا طاقة الغضب تلك إلى كرات من النار يقذفها عليها:
- بلك قوة ويه يايه لبيتي .. بعد أن تحدتيني .. وكسرتي كلمتي ..
أنكست رأسها وهي تندس وراء ظهر أحمد والخجل ينهش بوجهها..
ليقول أحمد بصوت لم يخفى على سامعيه بأن الخوف يغلفه:
- يدي .. فاطمة وأنا مالنا ذنب.. أبوي ضحك علينا .. واستغلنا .. فلا تلومها ولا تلومني...
شرع عصاه في وجه أحمد الذي سرت رعشة في بدنه
وقال أبو محمد الذي شرر عيناه:
- جب أنت .. قلت ما لك ذنب ... إلا لك ذنب ونص .. يلا برى .. ما أريد أشوف ويهكم أنتم الاثنين .. يلا ..
وأشار بيده الخرة لهم بالرحيل
حين تدخلت أم محمد يقدها قلب الجدة العطوف وهي تمسك بذراع أبو محمد متوسلة له:
- يا بو محمد .. أهي يا هل .. وعرفت خطاها .. ويت تعتذر .. فسامحها .. وأنت قلبك كبير ..
بسرعة الضوء أتفت نحوها .. وقال مزمجرا:
- تريدين بعد أن سودت ويهي .. وخلت الناس يتكلمون عنا أسامحها .. أنت فيك مخك يا مره ..لا والله ما..
ليقاطعه بسيف كلامات قائلا:
- لا تحلف يا بويه الله يخليك ... مثل ما قالت لك أمي .. أهي يا هل .. وأحمد بعد.. والحين يو يعتذرون .. بعد أن عرفوا خطاهم ... وبعد أبويه أنت ريال طيب ومسامح وأنا أكبر دليل .. بعد إلي سويته بك أنت وأمي .. سامحتوني ..قولبكم أنتم ما تعرف الكره .. أنا أدرا بهالشيء..
زفر بغضب وهو يقول وقد لانت لهجته الثائرة:
- أنت غير يا محمد .. أنت كان معمول لك عمل ... والحمد لله .. خلانا نلقى ذاك الحجاب لما أمك كانت تنظف بيتك ..
ليعود يلطم فاطمة المحتمية بظهر أحمد بسياط لسانه:
- أما هذه .. فما لها عذر ..
بخطى واسعة بات واقفا بين أبيه وأحمد وقال بكل حكمة:
- يا بويه الله عز وجل يعفو ويسامح عبده .. مهما كانت خطاياه لما يستغفره العبد ويطلب عفوه .. فما بالك نحن البشر .. يا بويه أستعذ من الشيطان .. وسامحها .. وأنا عارفة بأن فاطمة بتسمع الكلام بعد إلي صار .. إذا ما بتسامحها عشان ولا عشان أمي ولاعشانها .. عشان شمسة إلي كافنها إلي فيها .. أبويه لازم في هالوقت الصعب .. نوقف مع بعض قلب واحد .. لأنا كلنا الحين محتاجين بعض أكثر من قبل ..
تكسرت تلك الطبقة الصارمة
تحت هجوم الدمع
ليتهاوى أبو محمد على الكنبة
تتبعه أم محمد التي على نشيجها
فتخرج فاطمة المتسائلة من وراء حصن أحمد
وعيناها مشرعتان
وقلبها ينبض بعنف موجع في صدرها
ونبس لسانها بسؤال لا إرادي:
- مريم صار لها شيء؟
لدور صوبها خالها..
فتفجع بدمع المتراكم الذي يغلف عيناه
فتصيب الإجابة مقتلها
فتصرخ بأعلى طبقة من صوتها:
- لااااااااااااااااااااااااااااااااا
__
نظرت من تحت رموشها نحوه
وقالت.. والكبرياء يمدها بالقوة:
- إذا تريد ترجعني عشان أمك طلبت منك هالشيء..
رفع رأسه الذي كان منحنيا
وقال من فوره مدافعا:
- لا مو عشان كذيه يا ريم .. أنا ظلمتك .. أنتِ مالك ذنب في إلي صار.. تعذبتي وايد بعد ما طلقتك .. الناس تكلموا عنك .. أقل شيء أسويه أني أرجعك ..
شبكت أناملها مع بعض .. وهي تجاهد من أجل ألا تنهار ..
ولكي تطلق رصاصة تحديد المصير من جوفها صوبه:
- وهي .. بتطلقها ..
حدق بها بعينان مشرعتان الأبواب
قبل أن يبل ريقه ببعض اللعاب
قبل أن يجيبها
لكن عقله لم يمده بالجواب
خذله
فجعله يستسلم لصمت دون إرادته
حين تبسمت بمرارة وهي تقول وقلبها يتأوه من الألم:
- ما في حاجة تجاب.. أنت ما بتطلقها.. وأنا ما أرض يكون في حياتك حرمة غيري..
قالتها وقد شمخت بأنفها إلى السماء بكبرياء
وهي تكمل قائلة:
- إلي بينا انتهى يا حميد ... أمكن هذا أحسن لي ولك .. أنا بكمل دراستي وأبني مستقبلي من جديد .. وأنت بتعيش مع المرأة إلي تحب...
لتنهي كلامها بابتسامة مرتعشة
فالقلب الثكل على حب ضاع لازال يحكم كيانها رغم الجلد الذي يرسمه وجهها
لم يجد مكاننا للحروف أمام الصدمة التي خدرت عقله قبل بدنه
__
دخلت الصالة على استحياء
لترفع جفنيها ببطء فتعكس عيناها صورته وهو واقف ينظر جهتها .. يبحث عن لغة لتواصل فيما بينهما
بعد أن طال انتظارها
قررت أن تفتح باب الحديث
فقالت بصوت خفت رنته:
- خير أحمد؟ .. قال خالي بأنك تريد تكلمني.
تحنحن وهو يصلب ظهره .. قبل أن يطلق العنان لسانه بعد جهد جبار:
- والله فاطمة .. أنا كنت أنتظر فترة العزاء تخلص عشان أقول لك بأنه .. بأنه .. حان وقت أننا ننفصل.. لأنه زواجنا بدأ بداية غلط .. و أنا متأكد مثل ما أنتِ متأكدة بأنه هالزواج ما بينجح ...( ليمتص شفتيه لثواني .. راجيا المزيد من الكلمات بأن تنساب على لسانه )
رغم جرف الصدمة الذي هشم خلاياها.. إلا أنها في داخلها كانت مدركة لهذه النهاية..
أرخت جفنيها .. وأطبقت شفتيها ...
ليتملك الصمت المكان لثواني ..
ملء رئتيه بأكسجين الإرادة ... قبل أن يفلته .. وهو يقول:
- فاطمة ... أنتِ طالق ..
أحست بإحساس يفطر القلب مع مقصل تلك الكلمة .. رغم أنها لم تحبه قد .. إلا إن تلك الأيام القلائل التي قضتها معه .. لامست شيء في داخلها .. حلو المذاق .. لكن لم يخلو من حنظل المرارة ..
عاد يدس الكلمات في أذنيها قائلا .. وقد شعر بأن حملا ثقيلا قد أزيح من كاهله:
- يلا .. أنا لازم أروح .. عبيد ينتظرني بره .. مع السلامة ...
ليمشي راحلا ..
ويمر من جنبها
وهي لا تنطق إلا باللغة السكون
حين صفع طبلة أذنها صوت الباب المعلن لرحيله
قالت بدون مقدمات .. أو حتى تهيئة:
- شكرا لك أحمد ..
توقف عن المضي قدما
وأدار بدنه إلى جهتها
فيجدها هي الأخرى تلتفت صوبه
وابتسامة تعاكس الدمع المنساب من عيناها..
وقالت بنبرة تاهت في غياهب المشاعر المكتظة بداخلها:
- أشكرك على كل شيء سويته لي .. وعلى وقفتك معي في الأيام الفايتة .. وأرجوك أهتم بنفسك فأنت إنسان طيب .. وتستاهل كل خير ..
غاص بعيناه في معالم وجهها الباسم
ليرسم بعد ذلك ابتسامة طرفية .. ونحتت عيناه الفرحة .. وهو يقول:
- مشكورة يا فاطمة .. لا تخافي عليه .. ما عدت أحمد الضعيف إلي يتحكم به أبوه .. الحين أنا رايح دبي .. ربيعي لي دبر لي شغل هناك .. وأنا متحمس عشان أبدا حياة جديدة .. فلا تخافي عليه .. وأنتِ بعد فاطمة إنسانة تستاهلي كل خير.. وأنا متأكد بأنه أمك بتسامحك .. بس هي تحتاج وقت بس ...
تقلصت ابتسامتها وهي تذرف المزيد من الدمع .. وتقول بنبرة أدمتها خناجر البكاء:
- صدق تعتقد بأنه أمي بتسامحني ..
ليهز رأسها بمعنى نعم .. وقد تمددت ابتسامته
لتبعث الأمل في داخلها..
__
بخطى متذللة أقبلت نحوها
هي التي اتخذت من غرفتها سجننا لها منذ أن انتهت أيام العزاء الثلاث..
لم تتمكن من رؤية وجهها
فهي موليتها ظهرها
وكما يبدو لم تشعر بدخولها
كان الظلام ينشر بساطه على الغرفة
كبحت جناح خوفها أخيرا
وجهرت بجملتها التي ظلت تتدرب عليها لساعات:
- أمي أنا آسفة ..
لم يبدر منها ولا حركة ظلت على حالها
تتلمس ذلك الفراش الذي هجرته صاحبته .. وطيف دمعة تهيم على وجهها
انتشرت نفضت في بدنها وهي ترى أمها لا تعبه بما قالت
لكنها لم تستسلم .. لم تعد تحتمل تجاهلها لها .. لم تعد تطيق صمتها
تريد بأن تعود الأمور إلى سابق عهدها
فهي تحتاج أمها
أكثر من أي وقت مضى
فهرولت جهتها
وقفت بالقرب منها
وعادت تكلمها والدمع يخنق كلماتها:
- أروك أمي سامحني .. والله أني نادمة .. والله العظيم .. وأنا مستعدة أعمل أي شيء بس سامحني أرجوك .. الله يخليك سامحني .. اشتقت لك واشتقت لحظنك .. وحنانك ... الله يخليك سامحني .. أمي .. ( لتقاطعها عبراتها التي هطلت كزخ المطر وهي ترى أمها لم تاهتز شعرة منها على كلامها )
ركعت على ركبتيها
في لحظة تجمد فيها عقلها
وأمسكت بيد أمها
وأخذت تهوي بها على وجهها .. صارختا بكل جوارحها:
- اضربيني .. اصرخي عليه .. بس لا تسكتين .. لا تتجاهليني .. ارحميني يا أمي والله أني أموت ألف مرة لما تتجاهليني ..
دب بجسدها الحياة .. وهي تسحب يدها من بين قبضة يد ابنتها .. وكشرت أنيابها زائرة بها وبراكين الغضب تثور بصدرها:
- خلاص تبين أضربك .. بضربك .. بضربك ...
ورفعت يدها لكي تنفذ عقوبتها على فاطمة الراضخ للحكم الذي نزل بها
لكن أصابعها المتصلبة
انكمشت
لتشكل كرة
برزت عروقها من شدة انشدادها
وانهمرت دموعها المتكدسة
وهي تعصر وجهها الصارخة بالألم
وبطبقة تذللت للبكاء قالت:
- ما أقدر .. ما أقدر .. والله ما أقدر .. حاولت أكرهك .. بس ما قدرت .. حاولت ما أكلمك بس ما قدرت .. ولا بقدر .. ولا بقدر فأنت البنت الوحيدة إلي بقت لي .. ما عاد لي غيرك يا فطوم .. ما عاد لي غيرك ..
لجزء من الثانية اتسعت حدقتي فاطمة المذهولة وهي تنظر نحو أمها المنهارة وهي غير مصدقة لما دخل مسمعها
إلا أنها ما لبثت إلا وقد ألقت بجسدها صوب حضن أمها الذي اشتاقت له .. وفقدت دفئه ..
لتتلقفها شمسة بكل الحب والحنان الصافي
ونمزجت دموعهما ببعضهما البعض..
مفجرتا لجزء من ما يكتم على صدريهما ..
__
شبكت يديها وهي تصهره بنظراتها المترقبة
قبل أن تقول بعزم لا تهزه ريح التراجع:
- بطول حتى اسمعها منك؟
سلط عليها ضوء مقلتيه وهو يسألها والحيرة تداعب محياه:
- تسمعين شو؟!
ابتلعت ريقها .. وهي تكمل على نفس منوال القوة:
- أنت طالق.. مو هذا السبب إلي خلاك تجي بيت أهلي وتطلب مقابلتي؟!
أرخى شفتيه .. لتشكلان ابتسامة ساحرة.. قبل أن يقول.. وقد أسند ظهره على الكنبة:
- لا .. أنا يت عشان آخذك لبتك .. الحين مر أسبوع على العزاء .. حبيت أخليك فيها في بيت أهلك لأني عارف بأنك محتاجة لهم في ها الفترة..
بحلقت به والذهول يشد قسمات وجهها.. وهي تقول:
- بيتي .. شو قاعد تقول أنت؟! أعتقد بأني فهمتك في المطار بأنه إلي بيننا انتهى ..؟!!
أنحنى إلى الأمام وقد وضع قناع الجدية على محياه.. وقال:
- انتهى بنسبة لك .. مو بنسبة لي... شمسة أنا شايف بأنه نحن الأنسب لبعض .. من أول يوم من زواجنا كنا نواجه صعوبات ومشاكل .. بس ضلينا صامديني ونشجع بعض .. شمسة أنت خليتين أغير فكرتي.. وأوافق على العلاج .. خليت أمي تسامحني وترضى عني من جديد أهي وأخواتي لما كلمتيها بالتلفون .. أنت عملتي أشياء لي ما أعتقد أحد غيرك قاد يعملها لي.. شمسة أنا واقف قدامك الحين بسبب الله أولا .. وبسببك ثانيا .. شمسة إلي بينا ما عاد مجرد أتفاق ومصالح .. هو شيء أكبر من كذيه .. وأنا ما اكتشفته للأسف إلا لما رحت لريم أكلمها عشان ترجع لذمتي بعد أن عاقبتها بدون وجه حق..يومها سألتني .. هل بتطلقها ؟ .. ما عرفت شو أقولها .. ساعتها بس عرفت بأنه إلي بيننا ما كان أتفاق ... هو شيء أكبر بكثير ..
قامت من مقعدها وقد صبغ وجهها بالحمرة .. فبتر جملته متفاجئا بفعلها .. وقبل أن يسألها .. هجمت عليه بكلامها الهائج المائج:
- بس ما أريد أسمع منك شيء... شو ها المهزلة إلي قاعد تتكلم عنها .. أنا تزوجتك لأني كنت محتاجة لريال أسافر معه.. وأنت الله أعلم شو السبب إلي خلاك تتزوج بي.. وبما أن ها السببين ما عاد لهم وجود .. أشوف أنه ما فيه سبب يخلينا نكمل ها المهزلة .. يعني زواجنا مبني على مصلحة وبس ..خلاص .. انتهى الكلام .. ولو سمحت طرش لي ورقة طلاقي بأسرع وقت ممكن..
وأعطته ظهرها وهي تجاهد بأن تتمالك لهيب الدمع الغازي لعيناها .. ومتعجلة الخطى جهة باب الصالة ...
الذي ما أن وضعت يدها على مقبضه حتى قيد حركتها صوته:
- أحبكِ .. هذا السبب إلي يخليني أكمل ها الزواج.. هل تبين أكثر من هذا سبب؟
تخدر كل ركن من جسدها على وقع كلمته التي لم تسمع ما تلاها
أما هو فقد قام من مجلسه
وحث الخطى صوبها
حتى غدا ورائها تماما
يلهب بأنفاسه الثائرة
ويغدق عليها باعترافاته الساخنة:
- نعم أحبك .. ومستعد أنتظرك الدهر كله .. بس مو مستعد أتركك .. مهما قلتِ .. أو عملتِ .. ما بتركك.. لأني أحبك .. لا مو بس أحبك .. بل أموت فيك ...
لم يأته منها سوى صمت رهيب تخلله صوت أنفاسها المتعالية
حين أعماه شوقه لها
وجعله يقيدها بكلتا يديه من خاصرتها
ويسند جبهته على كتفها وهو يقول بكل جوارحه:
- لا تخليني بموت بدونك .. لا تخليني ... أنا محتاجك .. محتاجك ..
حررت أصابعها .. الواحد تلوى الأخرى مقبض الباب .. وهي تسمح لذلك المجهول الذي يكمن في داخلها والذي ناضلت من أجل ألا يخرج من قفصه الذي بنته بنفسها باجتياح كيانها ..
واستسلمت له تماما
ليسيرها كيف يشاء
وفي داخلها تقول.. وقد هربت دمعة من عيناها المنطبقتان:
( سامحني يا سيف )
وحنت رأسها إلى يسارها
لتضعه على رأسه ..
تمتـــــــــــــــ ...
أولا .. ألف مبروك عليكم الشهر
وألف شكر لجميع من وقف معي وشجعني وآزرني حتى وصلنا لنهاية الرواية إلي عارفه أنها لولاكم ما وصلت لخط النهاية ..
وعارفة أنها فيها نواقص كثيرة حابه تدلوني عليها ..
وأخيرا .. أسمحوا لي على أي تقصير .. وعلى التأخير..
واعتذار شديد مني إذا كانت النهاية ليست على قدر توقعاتكم
وفي الختام ..
أكرر شكري النابع من قلبي لك نجمة أنارت صفحتي المتواضعة ...
دمتم بألف خير
تجميع روح زايــــد
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك