رواية مقيده بالاحزان -12
*( القيد العاشر )*
بعد أن أطفئ نار الحياء الملتهمة لجسده الهزيل .. وعى على حمقه .. وسذاجته.. لقد نسي ثيابه في معمعة شروده ...لم يعرف كيف يتصرف..
( هل يناديها ؟! ) اقتراح طرحه له عقله .. لكن سرعانما نفض رأسه عن هذه الفكرة الغبية .. بصوت أخر أخترق فكره ( وش بتقول عني ؟ لا ما بناديها .. بحاول أروح للكبت بدون ما تحس )
فتح الباب ببطء.. لحد يتسع لمجهر عينه لك تمسح المكان ..
لحسن خظه وجدها في الشرفة منهمكة في الحديث في الهاتف..
فتنفس الصعداء.. ولف بسرعة الفوطة لتستر عورته ... وهرع بخطوات صامته نجو دولابه الذي لا يبعد سوى قرابة عشر خطوات عن الحمام..
خلال ممشاه هذا ..كان قلبه يقرع كطبل من شدة خوفه على أن تلتفت فتراه شبه عاري..
أخيرا لامست أنامله مقبض الدولاب.. فشعر بشيء من الهدوء يغلف قلبه..
حين فجئ بشهقة تأته من خلفه.. ليلتفت من فوره جهة صاحبة الصوت.. فيفجع بشمسه .. التي تحدق به والصدمة تشل مياها .. أبتلع ريقه بصعوبة .. وهو عاجز تماما عن فعل شيء.. فعقله قد أستسلم هو الآخر لوطأ المفاجأة الغير السارة ..
هربت ببصرها نحو الأرض
وهي تتصبب عرقا غزيرا ..
في حين أنه هو أخيرا وعى لنفسه
ودس يده داخل دولابه
وانتشل بدون أن يرى ما أختار قميصا وبنطالا ..
ارتداهما بلمح البصر..
ليقول وشفتاه ترتعشان من الحمرة التي ألهبت وجنتيه:-
- أنا آسف.. نسيت ملابسي.
ثم أزدرد المزيد من لعابه الذي بدأ بالنفاذ
لم ترد عليه ضلت منكسة الرأس .. خانقت لثوبها الطويل المنسدل كقطعة واحدة على جسدها بأناملها المغروسة به من حيث ركبتيها ...
خلل أصابعه خلال خصلات شعره القصيرة .. محاولا أن يتشرب هذا الخجل الكاوي لكل ركن من جسده.. وقال .. وقد دفع بالكلمات مجبرتا من حنجرته الجافة بلهيب ريح الحياء:-
- تقدرين ترفعين راسك .. أنا لبست ملابسي .
غرس أسنانها في شفتها السفلى.. وهي تجاهد لأجل أن تعيد نفسها الذائبة في بؤرة الخجل.. ومن ثم رفعت رأسها ببطء.. في حين أن رموشها ضلت ترفرف بلا توقف .. لتقع عيناها أخيرا عليه فتفلت ضحكت من فمها بدون وعي منها فتضع كلتا يديها على فاه الضاحك .. كاتمة بذلك قهقهاتها الهاربة منها...
لينظر لها وعلامة استفهام كبيرة ترسم على وجهه..
فيسألها قائلا بنبرة لم تسلم من التعجب الذي يعيشه:-
- ليش تضحكين ؟!!
دفعت برأسها إلى ميمنتها .. وهي تقاوم ضحكاته الثائرة في فمها ... ورفعت سبابتها مشيرة إلى قميصه ..
ليتبع هو ببصره أصبعها
فينتبه إلى قميصه المقلوب ..
فيجد نفسه هو الأخر يستسلم لموجة الضحك ..
__
أخذت ترمش بأهدابها من شدة التوتر.. وهي تريد أن تقول ما في قلبها .. لكي تستكين ...
أخيرا بعد أن لمحت المستشفى من على الأفق .. جمعت قواها .. ودفعت بها نحو حنجرتها .. لتنظر له من تحت غطاء رموشها وتقول لها .. وهو المنهمك برؤية مناظر واشنطن من وراء شباك سيارة الأجرة..:
- حميد ... شكرا ..
دار برأسه حيث تجلس بقربه من جهة اليسار.. وعيناه يعكسان التعجب..
وقد ترجمه بسؤاله:
- على أيش؟!!
تحنحنت قبل أن تجيبه :
- على كل شيء عملته معايه.. ولأنكِ.. ولأنكِ .. ( وتبسمت ضاحكة وهي تسترجع ذكرى الصباح في خلدها ) ضحكتني من قلب.
وضع يده على وجهه يخفي حمرت خديه .. وهو يقول بصوت خفة نبرة:
- ما أتفقنا بأنكِ بتنسين ها الشيء؟
ابتعلت شفتيها محاولة منع قهقهاتها من الخروج .. ومن ثم قالت:
- أنا آسفة ..
ليبتر جملتها بقوله..وقد حرر وجهه من حمرة الخجل:
- لااااااا .. ترانكِ ترتكبين جريمة في حقي..
حدقت به باستغراب .. لم يخلو من الخوف..
حين أسعفها بالتوضيح بقوله .. وهو يخط ابتسامة طمأنينة على شفاهه:
- هناك شيئين ممنوعين في العائلة عندنا.. بأن نقول كلمة شكرا و آسف.. هذيلا الكلمتان تقدرين تقولين محرمتين عندنا تماما.. وبما إنك فرد من العائلة الآن فهذا القرار ساري عليك بعد.
وخصها بغمزه
أذابت حواسها ..
لكن لم تمنع تلك الضحكة التي انفلت من فمها ...
__
في تمام الساعة 4 عصرا بتوقيت العين أحد زهرات دولة الإمارات ..
على غير عادتها قامت فاطمة بتبخير البيت وتنظيف المجلس وتجهيز ( الفواله ) لزوج المرتقب ..
وللعلم فقط ذهبت تعطي إخطارا لحدها وجددها بقرارها الذي لا رجعت فيه, وبأن صالح وأبنه في الطريق لإتمام شعائر الزواج ...
بوجه تحجرت معالمه قالت بجرأة تستفز سامعيها:
- يدي أنا خلاص بعرس اليوم وبآخذ ولد صالح أحمد,
والحين بيوون ومعاهم المطوع والشهود.
أنفض أبومحمد من مقعده متكأ على عصاه .. وزأر في وجهها قائلا.. وشياطين العالم تقفز أمامه:
- ينيتي أنتي ولا شوو؟
لترد عليه بهدوء زاد من ثورانه.. وهي تبعث له بعينيها رسالة تحدي واضحة :
- نعم, وإذا ما عرستني بأحمدوه بقتل عمري تراني, والله لموت ما أريد ها البيت يوم أمي تخلت عنا وعرست بغريب بدون موافقتنا, أنا نوب بعرس ما لي خص فيكم ولا في أحد.
لتجحظ عيناه من هول ما سمع ... ويعم الصمت الملتهب ثنايا المكان .. ومن ثم يعود أبومحمد يلملم شتات نفسه المحطمة من ضربة الصدمة المؤلمة.. ويرد عليها بنظرة تحدي تفوق نظرتها.. وبصوت علت طبقته عن سابقتها: - والله يا فطوم إني بأتبرا منج يالخايسة إن خذيتي ولد صالح هذا البخيل, يالغبية هذولا يبونك خدامة لهم,وولده صغير وفاشل شوو تبيبه ؟!!
لتشمخ بأنفها إلى الأعلى وهي ترد على جدها بصوت أعلى من صوته :
- ما لك خص فيه وفيني, أنا أريده خلاص, والله بأنتحر تراني وبيكون موتي بسبتك.
شعر ساعتها أبو محمد بأن الدنيا تدور من حوله .. وقلبه يقرصه بقوة .. وهو يبذل قصار جهده لكي يتمالك نفسه من أن يهشم عصاه على رأسها ...
انتبهت أم محمد لزوجها الذي يصرخ وجهه المتغضن من الألم.. فأسرعت نحوه وأمسكته .. وقد رمت سهام عيناها المقطبتان الحاجبين:
- وش فيك فطوم .. أنت ياهل .. وهذا يريد يضحك عليك صالحوه ... بتركين أهلك عشان ولد صويلح الخديه ...
بصعوبة بالغة رفع يده المرتعشة والتي برزت عروقها النافرة .. آمرا أم محمد بصمت .. وقال بصوت قد خفت حدته بسبب الوهن الذي أجتاح بدنه: - خلاص سوي اللي تبينه, أنا وأمج ما لنا شور عليج, وأنسى هالبيت, وأهل هالبيت, ومحرم عليك هالبيت إلى يوم الدين.
لتبتسم ابتسامة نصر وتقول بكل وقاحة :
- فكه, المهم أعرس.
لتتسع عيني أم محمد من الدهشة التي احتلت كل خلية في جسدها .. وقد خصت نفسها بقولها:- ( من هذه البنت ؟!! )
وفي المغرب, بدأت مراسم الرحيل في جو قاتم اللون, فاطمة أعطت حقائبها وجميع ممتلكاتها الشخصية لصالح المتبسم بمكر والذي بات حماها بعد أن عقد قرانه بأحمد .. في مراسم حزينة.. لم يتخللها لا غناء ولا أهازيج .. بل قلوب مثقلة بالوجع والحزن ...
لم يخرج رابح من هذه الزيجة إلا أبو صالح الذي لم يكلفه مهرها سوى ألف درهم والذي أيضا تحجج بأنه لا يستطيع دفعه الآن بسبب ديون متراكمة على ظهره .. وبأنه بأقرب وقت سوف يسدده ... حين ينفرج الحال.. هي لم تجادله في هذا الأمر ولا أبو محمد .. الذي أصبحت بنسبة له من عداد الموتى منذ تجرأت وتحدته ..
رحلت فاطمة من البيت الذي قضت كل حياتها فيه وكل من جدها وجدتها غاضبون عليها .. وحتى أنهم لم يودعوها .... ومنعوا أخويها حمدان وحامد حتى من موادعتها .. وهم غير مدركي لسبب رحيلها المفاجأ ولا حتى غضب جديهما على فاطمة ....
على بعد شارعين .. وبتحديد في بيت تداعت أعمدته .. واهترأت جدرانه .. وتقشرت صبغته ... ليبدو لناظرين له بأنه سكن لبهائم .. وليس لبشر...
فحالته البنيانية لا تشجع على العيش فيه..
نظرت باشمئزاز إلى هذه الخرابة المسماة بمنزل.. وقالت بتقزز:
- هذا أهو البيت إلي بعيش فيه؟!
نظر إليها صالح بطرف عينه .. ورسم ابتسامة ساخرة على شفاهه وقال:
- نعم يا شيخة .. هذا البيت إلي بتعشين فيه... وإذا مو عاجبك .. بيت يدك ينتظرك ..
وأطلق تلك الضحكة المصمت للآذان
والتي هزت وتر حساس في داخلها
فاختارت الصمت
والخنوع للأمر الواقع ...
أخذت تنظر إلى زوايا المنزل .. لتجد أن منظره الخارجي أفضل بكثير مما في جوفه ... فقالت وهي تكتم أنفاسها عن الرائحة الكريهة التي خنقت خلاياها الشمية:
- وين غرفتي ؟
ليقول صالح وهو يرمي بجسده المترهل على أقرب فرشة .. فيمد عليها جسده.. :
- أحمد قوم شلها غرفتكم.
ليرد أحمد بصوت يميل إلى الهمس وهو منكس الرأس :
- أنا بطلع صوب ربعي, مواعدنهم, الغرفة على إيدج اليسار أول وحدة وهي مفتوحة, صح مب مرتبه نظفيها, لا ما عندنا خدامة باي.
ألقى بجملته .. وهرول راكضا إلى الخارج .. قبل أن يردعه أحد عن فعله..
لتسكن زوايا عيناها المنغمستان بلون العسل الدهشة ...
وقبل أن تستوعب الذي جرى ...
جاءها صوته الخامل .. يزيدها من جرعات الدهشة في أوردتها:
- روحي يا بنتي غرفتج رتبي أغراضك, وعقب روحي المطبخ سوي لنا عشاء, هناك غداء الظهر, عيش ودياي سخنيه لنا يكفينا, لا تزيدن عليه شيء, وصح بندي الليت عقب ما تطلعين من غرفتك والمطبخ يوم ما تكونين موجوده فيهم, و كل مكان لازم تبندي الليت ما أريد ادفع كهرباء على الفاظي .
لقد غمسها كلام صالح أكثر في عالم الذهول فهي عروس جديدة .. يجب أن
تقضي شهر العسل الآن في فندق .. أو منتجع .. وزوجها يجب أن يكون
بجانبها في هذه اللحظة .. لكن لا شيء من هذا القبيل صار.. كل صور
العروس السعيدة تحطمت أمام قبضة الصدمة التي هشمت أحلامها الوردية.
__
في بيت فقد حب الأهل ... ومسكت به يد شيطانية بقبضة من حديد...
برزت عروق جبينها وهي تنادي بدون مجيب:
- ميري وينج يا الحمارة يا البقرة, قومي حطي العشاء لا بارك الله فيج ولا في اليوم اللي دخلتي هالبيت صدق نصاب راعي المكتب وحدة بقرة يايب لنا ويقول زينه وتعرف كل شيء.
لترد عليها الخادمة بنكسار ورهبة من عصفها الثائر الذي يلوح بالأفق:
- نعم مدام, خلاص أنا حطى عشاء من زمان.
لتضع أصابعها على أنفها, وقد عصرت قسمات وجهها بتقزز جلي :
- أففففففففففف, قومي عن ويهي يا الحمارة, تفووووووووو عليج من وحدة خايسة, وش ها الريحة أف روحي عني بعيد.
لترد والجزع يراقص جسدها الهزيل:
-هذا ريحة مطبخ, أنا يبطخ أكل بس, ما في يرووح مكان ثاني.
لتشب حصة نار وهي تقذفها بكرات اللهب من حنجرتها:
- وترددن عليه يالبقرة.
وتقوم حصة وتضرب الخدامة ضرب قوي وبنعالها على وجه الخدامة المسكينة, دون أن تأخذها رأفة عليها وعلى بكاءها الذي يهد جبالا.
بصوت طغت عليه موجة البكاء المرير, أخذت تقول ميري:
- حرام عليك مدام, أنا مسكينة في بيبي صغير مال أنا يريد فلووس مشان مدرسة.
لتنهرها حصة بعد أن أثخنتها بالضرب المبرح:
- قومي عني يا البقرة, ما أريد أشوفج يلاه رووحي من قدامي, لا بارك الله فيك ولا في الساعة إلي يبتها فيك, لسان ها الطول ولا فايدة منكِ.
__
بعيناها الصغيرتان التين ترسمان الرجاء.. قالت مريم :
- ماما أريد أروح البيت, ملل هني .
كان قلبها يبكي دما لرؤية أبنتها بهذه الحال, لكن لم تظهر وجعها لأبنتها لكي لا تتضايق أكثر, فقالت بروح مرحة نقيظة تماما لما يخالجها, وهي تلف يدها تحت رأس صغيرتها:
- حبيبتي لازم تتعالجين مشان نرجع للبلاد.
مت شفتيها بضيق, قبل أن تقول بقلة حيله:
- طيب أريد أكلم فطوم وحمدان وحامد ويدي ويدووه.
قبلت رأسها الذي بدأت خصلات شعرها اللاتي تزينه تفقد رونقها, ومن ثم قالت وهي تغتصب ابتسامة صفراء:
- أزين, فالك طيب حبيبتي.
وشرعت شمسة بضغط أزرار الهاتف بخفة, ليرد عليها بعد طول صياح, صوت أبيها الذي وهنت طبقته:
- ألو..
لترد شمسة بترحيب بالغ:
- ألو هلا ابووي شحالك وشحال امي وعيالي؟
قالتها بلهفة تنبض في كل خلية بجسدها.
جعل نبرته أكثر صلابة بجهد جهيد.. حتى لا تحس شمسة بشيء:
- الحمد لله كلنا بخير, وأنتِ بشرينا عنكم وعن مريم, عسى الأمور كلها طيبة؟
نظرت إلى مريم الممتدة بجوارها على السرير, والمتطلعة بعيناها المشرعتان لسماع صوت أخوتها وجديها, فمسحت شعرها, وزينت شفتيا بابتسامة باهتة, وهي تقول:
- الحمد لله, الدكتور يقول أنها تقدر تتعالج, وخير إن شاء الله, دعواتكم.
ليجئها صوته المتضرع عبر أسلاك الهاتف:
الله يساعدها ويشفها.
هجد أبو محمد لدقائق, وهو يشاور نفسه..
أيلقي القنبلة عليها, أم يؤخر انفجاره؟
لكن في كلى الحالتين سوف تعلم, ولم يكن التأخير سوى مخدر, سوف يزول تأثيره مع القوت, الأفضل بأن تقول لها, قبل أن تسمع من الغريب, فتشتد صدمتها حينها...
هكذا شار عليه عقله...
فعزم قراره.. وفي داخله بركان يكوي نفسه التي لم تخمد ولو لثانية منذ أطلقت عليه فاطمة رصاصة الغدر.. ليقول وقد انقلبت نبرة صوته 180 درجة:
- بنتي شمسه.. أنا عندي سالفة.. بتعصبين منها بس...
وصمت .. وهو يبحث عن طريقة يوصل فيها الخبر بأسلوب يكون رحيما على أبنته التي تنهال عليها المصائب من كل صوب.. فما عادت تقوى على تحملها...
وضعت يدها على قلبها المقبوض.. والذي كما يبدو هذه علامة منه على القادم المشئوم الذي سوف يفجعها به أباها..
ابتلعت ريقها الذي بات كسكاكين تقطع حنجرتها .. وهي تقول بصوت راجف:
- خير أبوي.. وش هناك؟
أستشف من صوتها الخوف.. لكن لا مرد من أكمال ما بدأه.. فألقى الخبر دفعة واحدة.. فهذا برأيه أفضل حل:
- بنتج فطووم عنيدة, وما ارتاحت, إلا لما سوت إلي برأسها, ولله يا بنتي غصب عني وافقتها, أخاف تقتل عمرها.
أشدت انقباض قلبها, الذي شدت قبضتها عليه, وهي تقول بروح الخوف التي سكنت جسدها المثخن بالوجيعة:
- وش سوت بويه؟
أخذ أبو محمد نفسا عميقا .. زفره دفعة واحدة .. تابع أياه بكلماته:
- هددتني إنها تقتل عمرها إذا ما عرستها بأحمد ولد صالح, ولا قدرت عليها خفت تسويها هالمينونه.
خرجت عينها من محجريهما وهي تقول بذهول يغلف حروفها الناطقة:
- شوووووووووووووووووووووووووو, مستحيل يابوي بنتي ما تسويها وتفضحني جي, شوو...
ليهُز رأسه بأسى, وهو يقول بخيبة أمل تقطر مع كل كلمة ينبس بها:
- أيوه, والله سوتها وعرست, وقالت عادي تقتل عمرها, خفت تخرب سمعتنا وملجت عليها بولد صالح العصر, والحين هي عندهم, انا من صوبي تبريت منها, وبيتي ما تدخله حتى لو طلقها ولد صالح, أما من ناحيتك, فأنتِ حرة, أنتِ وبنتج مالي خص بينج وبينها.
أطلقت تنهيدة طويلة.. مشبعة بالوجع الخيانة والغدر.. قبل أن تقول بوهن تسلل في نفسها المثخنة بجراح الزمن, والدمع يتقافز من مقلتيها:
- حرام عليها, أنا في وين وهي وين, لو كنت عندها ما خليتها تسويها, هي صغيرة ولا تعرف للعرس ولا للمسؤولية, وصالح يريدها خدامة له وولده.
ليرد بحرقة, لم تسمل من طبقة عدم التصديق:
- شووو نسوي, خليها تعرف النعمة اللي كانت فيها, البنت مينونه خلاص تفكر بس تنتقم منج.
باستسلام روح تعبت من القتال, ابتلعت دموعها, لما لاحظت الخوف ينعكس على وجه مريم القابعة بجوارها, وقالت بقلة حيله:
- الله يسامحها, ...و... و يوفقها.
كره عجزه عن مواساة ابنته الوحيدة.. لكن ما بيده حيله .. فما كان منه إلا أن يغير الموضوع لعله يريحها من الجحيم الذي ألقته بها أبنتها ولو لدقائق:
- ها أخبار مريم يا بنتي؟ أعطيني إياها إذا قربك, اشتقت لسوالفها.
كأنها لم تسمع ولا حرفا مما قالها والدها.. حيث أنها كانت في كينونة الخيانة التي كمذاق الحنظل.. لتقول:
- سلم على أمي, وقولها لا تسوي بعمرها, شيء, فطوم اخترت حياتها بعيد عنا, وهي تتحمل مسؤولية اختيارها, خلاص انسوا فطوم بنتي ... ( كم أوجعها.. دمرها.. ألهب جوفها ما سوف ترميه على مسمع أبيها... لهذا أرادة دقيقة تشحذ فيها قوتها الهاربة منها.. لتمد بها كلماتها التي سوف تكون بمثابة سكين تنحر روحها قبل جسدها ) ماتت خلاص.
__
دخل عليهما مبتهج الوجه.. محمل بالخيرات بين يديه..
لينشر بدخوله بهجته النابعة من ألم يفتك بجسده المريض...
- حميد : مريم , كيف حالكِ يا حلوة؟
لترسم تكشيرة وهي تقول:
- أريد البيت وخواني, هني ملل.
لتنظر إليها شمسة مقوسة الحاجبين إلى أعلى:
- الحين كلمتيهم كلهم, ليش تقولين هالكلام؟!!
لتجيبها والضيق يشوه وجهها الملائكي :
- لا مو كلهم, فطووم ما كلمتني, يدووه تقول راقدة.
لتتغير خطوط وجهها مرة واحدة.. إلى حزن يغمها.. وهي تقول بانكسار واضح.. لم يغفل عنه رادار عيناه:
- خلاص, بعدين بتكلمج.
لتناشد حميد, الذي هجمت عليه بنظراتها الطفولية, التي يشع منها الرجاء: - عمي حميد أريد أرووح الحديقة وألعب.
ليقول لها .. وابتسامه واسعة تحتل أكبر حيز من وجهه:
- إن شاء الله , عقب ما تصحين ويقول الدكتور انج تقدرين, بنروح كل مكان تردينه... لكن الحين وش رأيك نأكل أس كريم ..
وأخرج من الكيس الأيس كريم... لتنفجر أسارير مريم .. وترد بحماس غير عادي:
- هييييييييي.. أيس كريم ...
فتنسى آلامها ووجعها.. وتقفز صوب حميد.. وتأخذ منه الأيس كريم... ومن ثم تباغته بضمها له وهو المنحني لها لكي يعطيها الأيس سكريم... وتقبله على خده.. فيشعر بدفء السعادة الصافية تتلاعب بروحه..
كانت تتابعهما .. وابتسامة تشق طريقها على شفتيها المغتمتان بدون علم منها...
كان كل من حميد ومريم يلتهمان الأيس كريم بشره غير عادي ... وهما يتحدثان بلا كلل ولا ملل.. وتعلو ضحكاتهما بين الفنية والأخرى ... ليبعثا جو العائلة الذي افتقدته شمسة منذ زمن.. شمسة التي فضلت بأن تصبح متفجرة فقط .. فهي قلما ما ترى صغيرتها متحمسة وسعيدة لهذه الدرجة ...عز عليها بأن تقاطعهما لكن موعد الزيارة يوشك على الانتهاء... فقالت مجبرة بالكاد يلامس طبلت أذنه:
- حميد ممكن طلب؟
ليرد عليها بوجه بشوش:
- أنتِ تأمرين يا أم حمدان.
طأطأت رأسها بخجل, وهي تقول:
- ما يأمر عليك عدو..بس أريد أنام عند بنتي الليلة, لو تقول لهم يخلوني أرقد عندها هي صغيرة وتخاف لوحدها.
انتقع وجهه بالحزن, حين قال:
- أنا كلمت الدكتور, بس .. رفض قال ممنوع للأسف, يقول هي تحتاج تبات لوحدها ... عشان تعتمد على نفسها .. تعرفين عشان الياي.
لتهب مريم وهي نافخة صدرها بكل ثقة:
ماما أنا كبيرة ما أ خاف عادي.
ليلف يده على رأسها ويطبع قبله عليه, ويضعه على صدره, وهو مفرج صراح ابتسامة على محياه:
- فديت الشاطرة أنا, إلي ما تخاف من أحد, يا بطلة بيب لج باجر الصبح ألعاب وووووووووايد.
لتبتسم لكن باقتضاب.. وقد خدر وجهها الخوف :
- الله يعيني بس, أنا إلي أخاف من دونها أنام, مو هي ما أتحمل بعدها عني.
__
في بيت صالح الساعة 1 ليلا..
دخل أحمد البيت وهو يركض كعادته.. خوف من أن يلتقطه رادار أبيه لتأخره برجوع...
هرع من فوره نحو حجرته, وفتح الباب, ليصدم برؤية النظافة تشع في أركان غرفته على غير العادة, وتهجم على أنفه رائحة البخور التي لا تمت صلة أبدا بغرفته التي تكيفت خلاياه الشمية على رائحتها العفنة ...
وفكر بأنه أخطأ في الغرفة..
ولكن اتضحت له الرؤية لما سمع صوت حانق من خلفه .. ليلتفت ليجد فاطمة تشيط غضبا :
- وين كنت ؟
أحمد ببرود أستفز عنجهيتها:
- جب جب, ما ناقص غير ياهل تسألني وين كنت.
وأنها جملته بضحكة استخفاف.
اتسعت عيناها وهي ترد عليه بضيق يغضن وجهها:
- شوو؟ لا يكون نسيت من أنا.
لينفجر أحمد ضاحكا, ويرد عليها من بين ضحكاته بالغصب:
- ههههه.. لا ما نسيت, أنتِ فطوم بنت الجيران .
لتجتمع الدماء في وجهها , وهي تقول ومن خلف أسنانها:
- لا والله, أنا حرمتك.
ليعود لهجة الخاملة:
- أدري, لسوء حظي.
لتبرز عروقها في جبينها, وهي تصر على أسنانها قائلة:
- ليش لسوء حظك؟!! وش قصدك؟ مب أنت و أبوك إلي راكضتوا ورايه وتبوني بأي طريقة أوافق, أنتِ لازم تحمد ربك مليون مرة في اليوم لأني وافقت.
قالتها وهي ترفع أنفها فوق السحاب..
ليرد عليها بعدم أكتراث.. وهو يشير لها برحيل قائلا:
- روحي عني وشلي قشك, وأطلعي من حجرتي.
لتنظر إليه كالبلهاء وهي تقول:
- شوو؟ أنت من صدقج تتكلم؟!!
ليجيبها بتهكم وهو يمد جسده الهزيل على السرير الضيق المتهالك:
- لا ألعب, قومي يلاه فارجي, أنا تعبان وأريد أنامممممممم.
كانت غارقة لقمة رأسها في بئر الصدمة حين قالت بتوهان يخنق نبرتها:
- وين أروح؟ ما شي مكان, أنت رووح, أنا هذي غرفتي من اليوم, إذا مو عايبنك, لا ترقد عندي, رووح الصالة, ونام هناك.
ليرسم وجهه المستهتر لأول مرة الضيق.. وهو يتأففففففففف قائلا.. وقد قام من على السرير:
- أبرك الصالة عن مقابل ويهج يا البقرة, وإن عرفت أنج خبرتي بويه بقتلج, وأنتي مالج خص بي طووول تسمعين, أنا لو أموت ما أخذك يا أم لسان, لكن وش أسوي أبوي غصبني أدبس بك عشان تغادين خدامه لنا.
وخرج عنها بعد أن رمى عليها بقنبلته
لتصهر عيناها دموع القهر
وتنكسر عنجهيتها المزيفة ...
__
كانت تدس الطعام في فمها مجبرة .. وعيناها تسبحان في عوالم أخرى .. لاحظ هو شرودها الذي صاحبها منذ خرجا من المستشفى.. فسألها لعله يفك هذا الغم المقطب لوجهها:
- شمسة, ممكن أعرف وش فيك...؟ من طلعنا من المستشفى وأنت شاردة .. ومو معي.. هل أنتِ خائفة على مريم؟
ازدردت اللقمة ببطء... وهي تلملم شتات أفكارها التائهة .. قبل أن ترد عليه .. بصوت دنت نبرته:
- تقدر تقول كذيه.
تسلح بالابتسامة .. الذي يعتقد بأنه أحس دواء لداء الحزن.. وقال:
- لا تخافين يا شمسه .. الدكتور أملنا خير.. بس أنتِ لا توسوسين بس.
رفعت رأسها المنكس.. وردت عليه ببسمة صفراء..
قبل أن تقول خاتمة الطعام..
- الحمد لله, شبعت.
ليليها هو .. وقد أطلق تنهيدة قبل..:
- وأنا بعد... خلينا نروح لغرفتنا نرتاح.. فاليوم كان طويل.
هزت رأسها بمعنى نعم .. وقامت ليتبعها هو .. ويضع الحساب على الطاولة ...
ويهمان برحيل..
وعندما باتا في المصعد الخاوي إلا منهما .. قال بعد كر وفر دام طويلا في حرب بينه وبين نفسه الآمرة له بالحديث.. قال بصوت هامس:
- شمسه.. ممكن أطلب منكِ طلب؟
رفعت بصرها جهة بتوجس.. فأجابته بهز رأسها بالإيجاب .. فلسانها قد تجمد في فمها..
أنزل رأسه لثواني إلى الأرض.. قبل أن يدخل فوج من الأكسجين في صدره .. ويزفره آخذا معها كلماته:
- أرجوكِ .. إذا كان شيء مضايقك قول لي.. فحن .. فنحن .. ( لا يعلم لما تراجعت تلك الكلمة عن الخروج للعلن.. لكن إصراره على خروجها .. أجبرها على الرحيل إلى أذني شمسة مجيرة ) أخوه .
زادت من انحناء رأسها للأسف.. وهي تكتفي بلغة الإشارة للجواب عليه بنعم...
ليكملا ما تبقى من الطريق بصمت رهيب...
__
ما إن دخلا الغرفة .. حتى عادت شحنات الخجل تجثم على صدريهما ...
فقال وهو يريد بأن يكسر هذا الصمت .. ويخفف من حدة الجو المشحون السائد في المكان:
- شمسة أنا أريد أنام اليوم على الأرض, متعود على نومتها, أكثر من الكنبة, ممكن ترتبين لي الفراش.
ليشتعل وجهها بحمرة .. وهي تشعر بالخجل ينخر جميع أعضائها .. وقد تصورت في خلدها بأنه تعب من نومت الكنبة البارحة.. فقالت بصوت علا لأول مرة :
- حميد أنا إلي بأنام على الكنبة, حلفت, ها المرة دوري.
ليرد من فوره برفض قاطع:
- لا والله, أنا أصلا أحب الراقد على الأرض في البيت دوم أرقد على الأرض, ( وأفلت ضحكة ليرطب الجو .. ويقنعها بكلامه أيضا ) السرير ما أقربه إلا يوم أكون مريض, وأرتاح أكثر على الأرض مثل أبوي الله يرحمه, فهو إلي عودني على ها العادة, لا تستحين مني أنا أخوج شوو ها الكلام مرة ثاني ما أريد أسمعه.
لينهي جملته كالعادة بختم البسمة الذي يرصع شفتيه.. لتنظر إليه بنصف عينيها .. فهي لا تزال تشعر بحياء من جمائله التي تهل عليها .. وهي لا تفعل جزائها شيئا بالمقابل..
فلم تجد في مقدورها في هذه اللحظة إلا نسج كلمة واحدة .. للأسف لا تملك سواها:
- حميد .. ش...
ليصلب يده أمام وجهها تماما .. وهو يقول :
- وش قلنا الصبح.
فتدغدغ شفتيها ابتسامة ..
وهي تضع أناملها على شفتيها .. وهي تقول:
- والله نسيت.
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك