رواية سيدة الحرية -16
-مضت ساعة، كأنها خارج الزمن، وأنا على يقين انني لو خرجت من هنا لرأيت الحياة بالخارج متوقفة، ذات يوم
تمنيت لو أن اموت، لكني الآن اتمنى لو أني لم اولد بعد!
.-.
.-.
الساعة الثانية عشر وأربعون دقيقة
انه منتصف الإدراك،ومنتصف الندامة،والسخط !
لمَ تصبح الأشياء عندما تتصل بي ناقصة الاتساق،لم أخلفت الحرية موعدها ورمت بي على مقعد بارد،مع رجل غادر قبل حضور، أيعقل أنها لن تأتي قريباً، هل الأجمل دوماً يأتي متأخراً..!
"حين تصير الحياة كابوساً تصبح الحواس ادوات تعذيب"*غادة
.-.
كنت قد بدلت ملابسي،وملامحي،وإحساسي،وجلست على مقعد يفصلني آخر مثله عن السرير الكبير
وانتظر الرجل الذي تأخر قرابة الساعتين،لا لأتأكد من وجوده،بل لأرى أي جنون دفعه لأخذ غرفة واحده!
-من الأفضل أن يبيت خارجاً
كنت انظر للباب وانا اردد ذلك في داخلي،ماذا يحدث ان تقدمت الآن وأقفلته واستلقيت على السرير ونمت بعمق!
جميل ا ن أعي أن الحرية اقتصرت على رجل واحد، فقط واحد..،إن غادر ملكتها!
تحرك الباب الذي كنت أتخيل فيه جنوني، وعاد الرجل!
.-.
.-.
.-.
أغلقت الباب وتقدمت للداخل،وقفت بالقرب منها
التقت نظراتنا بعمق هذه المرة،وبدا لي انها تنطق بشوقِ لي!
عند ذلك...اصيب لساني بنوبة نطقية!!
-إذا وقفت أمام حسنك صامتاً..فالصمت في حرم الجَمال جَمالُ*
-كلماتنا بالحب تقتل حبنا..إن الحروف تموت حين تقالُ*
اردت ان اقول شيئاً كهذا.. لكني قلت شيئاً آخر :
-"بعد شوي...بيجبون العشاء"
لم يكن منها سوى حركة نفي من رأسها وجملة لم استطع سماعها، لذا استغليت هذا العذر لأقترب منها أكثر
ربما أحست بتحرك الاريكة حيث جلست جوراها،بعد ذلك غطى المكان صوت لاصوت له فبدت لي كحلم..وجميع الاشياء أصبحت غير محسوسة!
ربما حتى هيَ!
ماتراني سأقول الآن!
-"كنتي ماتشربين عصير البرتقال عشان كذا طلبتلك كوكتيل"
وبدأ استعراض الذاكرة سابقاً لأوانه!..ولم اقصد سوى ان تعي أن ابسط شؤونها تهمني!
ما ان أنّبت لساني،حتى قال متجاهلاً:
-" مو كأن الإضاءة هنا عالية.."
تركته ينطق مايشاء،فربما هي لاتسمع على أية حال!
ولاتنظر الي،ولاتتحرك...هل يصيب الخجل الفتيات بالنعاس؟ هل ياترى نامت!
ابتسمت،بل ضحكت، واردت ان ابتعد قليلاً
ما أن وقفت حتى اعادني حشد الكلام في حنجرتي لأجلس قبالتها، لم يتوتر فيها سوى أصابع يدها، كنت حقاً مفلس من الكلام وعاقداً صفقات فاشلة مع عدة مواضيع
طالما أيقنت بقدرتي على الإفصاح عما اريد، دوماً شعوري كان واضحاً كخبر رئيسي يضطجع في صحيفة!
افقد كل الثقة الآن، قلبي حانق جداً على لساني، فكلما مر الوقت أصيب بخيبة جديدة،وليالي السهاد التي أعدتني لموقف كهذا،تضع خيباتها فوق رأسها بإحباط !
هذا اللقاء،وهذا الوقت،وربما ان كذبت سأقول هذه الأريكة وذاك الباب.. جميع الأشياء فكرت بها معكِ منذ أن صار إسمك لايمر عادياً على مسامع قلبي!
اذكر أن رساماً قضى نصف عمره في لوحة رسمها لمعرض عشيقته،وعندما حقق ما أراد اصطف معها،لتبدوا اللوحة صامتة،ويبقى بقية العمر اخرس!
وان أكون هنا دون لوحة عاجزاً حتى عن الصمت.. يجعلني فقط أؤمن ان اللحظات الأجمل بودها أن تصبح لوحة لاتحتاج لأصوات لتنعم بها الذكرى!
عندما ألقت نظرة خاطفة علي،فكرت بلا تفكير
-أتراني أعجبتها هذا اليوم؟ اقصد هل ابدوا شبيهاً بالشخص في قصتها؟
ليتني احمل مسبحة!!
-كان يحمل مسبحة عندما يفكر، ويبدوا انني ان فعلت مثله الآن لرأيتم حباتها منتشرة قرب قدمي!
-"رسيل"
-"الف مبروك..حبيبتي..الف مبروك"
أكاد اقبل رأس الكلمة التي استلذ لساني بها،قبل ان تعجبها! فقد كانت كما خلقها قلبي!
ولم تعقب أبداً، وتدريجياً اكتفيت بمجرد ان تكون تستمع إلي
-"كان الفستان(ضيقت إحدى فتحتي عيني تصنعاً لتفكير كاذب) زايد وزنك"
اتبعتها بنصف ضحكة
-"كنت طالع عشان تاخذين عالمكان براحتك..وش رايك بالغرفة؟"
كنت أتأملها وهي ملقية بعينيها قرب قدمها،متجاهلة وجودي تماماً
تابعت:
-"اليوم بدر اخذ جوالي يصور فيه ولا رجعه تدرين ماخلا شي ماصوره حتى الكراسي"
تعلمين..باستطاعتي الآن سرد كل ماقرأت في حياتي،ووصف كل مالم اشاهده،استطيع أن أقول أي شيء الا عن النابض في داخلي!
.-.
قال حبيبتي!
ذلك الصنف من الرجال،مشتريّ العبارات الأكثر رواجاَ، لاابغض سواهم!
لعلمي أن بدري لايحب التصوير،وانني لم اكره عصير البرتقال من قبل،وانني اقل وزناً بالفستان،وان الإضاءة طبيعية..،يجعلني أود أن اخبره أن يصمت..!
لكنني سمعته يقول ضاحكاً متفاجئاً من نفسه ربما:
-"حاس اني بسجد شكر"
طُرق الباب وقد اهتز جسدي بفزع..،وكان العشاء
أنصت..! لاتفكر ان تتقدم لي بصحن طعامك!
حسناً..! حاول أن تكون لطيفاً إن أردت،وكن غير ذلك ان وددت أيضاً، لن يغير شيئاً حديثك،فأنا لا اشعر بالخوف فقط،ولا بالخجل فقط،ولا بالنعاس وخيبة الأمل..فقط..،اشعر اني سألفظ الطعام ان حاولت إطعامي!
اتجهت أنظاري إليه عن بعد،كان بقدر كبير من الابتهاج،يتعسني ان أكون عكسه تماماً في ليلة كهذه!
الا يجب ان تكون ليلة مرتبطة بالفرح!
نعم..دققت في ملامحه،خلسة! وازداد قلقلي عندما تأكدت انه لم يعد عمر الذي رأيته في طفولتي!
.-.
استلمت العشاء..، كلانا لم يكن قادراً على تناول الطعام ولا الحديث ولاحتى النوم
كي لاازيد الجو شحنة جديدة،قررت ان اصمت حتى تسترخي بعض العضلات!
فما احوج وجهي لاسترخاء.. فقد أتعبته الابتسامات!
نظرت للساعة كانت تشير الواحدة،ثم لعينيها المشيرة بالهلع ،ثم للتلفاز المغلق الذي فتحته مقلباً القنوات والمزاجات
قرب مقعدها كنت أجلس، والتلفاز أمامي ، وكانت تستحوذ على تلك الرقعة بلا امل حتى لتعديل جلستها، أن أعي انها خجولة مني لهذا الحد يجعلني اشعر بنشوة غريبة!
اتابع تغيير القنوات دون استيعاب مايعرض فيها،لست متأكداً ان بإمكان رجل شغف بفتاة..
عندما تكون معه ،يترك عينيها ويتابع التلفاز!
يبدو ان الأقدار ستكون مميزة معنا! وكل مايعرض بدا مميزاً عندما فوجئت بها تتابع التلفاز معي!
فلم تعد الأريكة تشعر بثقلي!
رن هاتفها،فأغلقتْ الشاشة مباشرة،مما اضحكني انها ألقت بنظرة علي وكأنني تخطيت حقوقها!
تجَاهَلَت الهاتف بعد ان هبطت عينيها فجأة
-"الجوال"
قلتها بمكر من يريد نظرة اخرى!
عندها توقف عن الرنين وبدأ هاتفي أيضاً، ذهبت لحيث يوجد مبتعداً عنها قليلاً ، وكان بدر
-"هلااا حبيبي..ههههه ياخي اسكت اصلا مضيع من الصبح ههههه ايه ابشر بس على فكرة مفروض تقول لي يااستاذ ياسيد تعرف انا عريس هههه اوكي الحين.. انا كم بدر عندي هههه"
شعرت بها تلتفت الي مباشرة،فقط بعد أن سمعت اسم أخيها..وأسعدني انه اراد مهاتفتها لتتحدث معي!
.-.
سماعي لاسم بدري يشعرني بأمان،بحق اشعر بالأمان!
احتقرت حينها كذب ذلك المخلوق منذ البداية! ألم يقل ان هاتفه مع أخي!
قبل ان يدعني أتحدث معه عاد ليقول لبدر
-"على فكرة تراها ماتتكلم بس تسمع هههه لالالا آسفين يالشيخ هههه"
اقترب الي ممسكاً بهاتفه،وأمسكت احد أطرافه وتمتمت لبدر بعدة كلمات وأنا مشبعة بالغضب على الآخر ذاك
-"عليكم السلام،بخير،ايه،(وفجأة أردت السكوت حتى أدرك خجلي فوعدني بمعاودة الاتصال وأضفت)وانت من اهله"
بعد أن أغلقت،تورطت بهاتفه
قررت ان اتركه على المنضدة أمامي،..كنت أتأمل جهازه الأسود ولحظت عدة خدوش تبدو حديثة
يبدوا معتاداً على خدش كل شيء.. لم يقتصر على الجمادات!
رتبت المقعد من حاجياتي،وترددت كثيراً قبل أن أتحرك، وأنفذ مافكرت به مباشرة أثناء وقوفي،
رفعت مرتبتيه، وعيناي لاتحاول الإقلاع ابداً!
أن يصبح للمقعد الذي جُهّز ليجلس عليه اثنين سرير طوارئ لفصل احدهما عن الآخر..هو أفضل ماحظيت به هذا اليوم
عندما انزلق السرير للخارج فوجئت بلساني ينعقد أكثر،..فأين لي بغطاء لاختبئ فيه عن ذلك المذهول أمامي؟!
اقترب مني، خطوة بعد اخرى وصل أمامي مباشرة، أقدامي بدأت ترجف حتى كدت اسقط
قال،"وش تسوين؟"
في وضعي الطبيعي لم أكن قادرة على النطق كيف بي الآن!
نظر إلي طويلاً،ثم أدبر وجسده الذي يبدولي كبيراً كظلّ رجل صممت له توقيعاً ذات حدة طباع، يتعملق كلما ازداد هلعي!
ثم ابتعد وأنا اتبعه بعيني رهبة من رد لفعلي،وقف أمام السرير وقال:
-"تعالي"
وكأن من يظنها قبل قليل لاتتحدث،هاهي لاتسمع أيضاً!
اقسم أن أطرافي تهتز،وضربات قلبي كخطوات جيش بدأ معركة!
ثم حمل هاتفه وجاء إليّ فكدت اسبقه بالهروب لولا انه تخطاني وفتح باب الخزانة بجوار التلفاز واخرج وسادة وغطاء!
وضعهم على سرير المقعد وقال:
-"انا بنام هنا"
وكأنه يتحدث بلغة لااعرفها تابعت النظر بعدم استيعاب،أضاف:
-"نامي هناك"
واتجهت أعيننا للسرير،وما ان منحني تلك الموافقة حتى كدت اركض هاربة، استلقيت وأحكمت الغطاء حتى على وجهي وأنا اشعر بالراحة رغم الاختناق..
ربما مرت قرابة الساعة وغفوت
.-.
استيقظت على أذان الفجر،وتلك المرة الأولى التي يوقظني فيها صوت الأذان!
طالما كانت اذنيّ تنام معي!
أخذت استشعر السكون الذي لفَ المكان،تلك المآذن جميلة حد البكاء،..في طفولتي كنت أتمنى خمس مرات في اليوم ان أتسلقها وقت الآذان،وعندما كبرت تمنيت لو كنت مئذنة،ليعم الحق بالنداء!
تذكرت تلك التي حَسَدَت المآذن والأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت!*
رأيته بالظلام يقف قرب النافذة بهدوء..،ظَلّ منكبيه يشكلان نافذة اخرى لاتطل على تلك المآذن التي تصدر من قلبي وتفقدني صوابي!
في صغري سألت امي،عندما رافقني ظلان لي،هل هؤلاء هم الملكين في كتفي؟وعندما فوجئت بظل واحد لاحقاً،اعتقدت أن الآخر يلعب معي لعبة الاختباء،فقفزت كثيراً باحثة عنه!
دوماً عندما اشعر باليأس اذكر طفولتي،وعندما اشعر بالوحدة ابحث عن الظلال!
.-.
.-.
خرجت للصلاة،وكنت في حاجة لأبقى بعد ذلك قليلاً ارتب افكاري دون ان يكون لوجودها تأثير عليَ
لااشعر بالنعاس..،طيلة الليل افكر بملامحها الخائفة جداً مني، لو رآها أحد ما لاعتقد انني تحولت لأسد..! لالا بل نمر.لا ربما هي لاتخاف منذ ذلك بقدر الهلع الذي بدا منها!
وعند انشغالي بتعداد الحيوانات المتوحشة عدت لغرفتنا،وما ان رأيتها نسيت شكل الأسد!
ذلك الشيء المتراب في نفسي،بدأ بالزوال كلما تعذر لي حياؤها بنظرة وجلة!
وكم أحببتها...!!
ظهيرة اليوم التالي
صحوت وأنا أتفقدها،واستيقظت جميع السعادة فيني ما أن تأكد الواقع..كانت نائمة،توضأت وفتحت الستار لتدخل الشمس كاشفة عن امتعاض ملامحها المتفاجأة
خرجت وانا اشعر بتوعك بسيط،ذلك السرير غير مريح بالطبع، أكان خطأها الغير متوقع..ام خطأي لقبوله..ام خطأ الغرفة الواحدة!
بعد عودتي بمزاجي الجيد،رأيتها تجلس قرب المرآة، أطلت النظر إليهما..ورؤية اثنتين منها يفقدني صوابي!
ابتسمت على جشعي وقلت للتي بالمرآة
-"كيف نمتي"
لم تقل شيئا لكنها فعلت الأدهى من ذلك، ابتسمت وخفضت رأسها
أليس من المعيب ان يرتعش قلبي اثر ذلك،واشعر اني سأفقده بسببها!
كدت أقول شيئاً عما يؤيدني قلبي به لكنها قالت
:"خالتي تسلم عليك"
-"الله يسلمها من كل شر.. تبين نروح لها؟"
وسألت على استحياء متجاهلة نظراتي
-"وبيت عمي؟"
قلت مباشرة-"اكيد..اي شي تبيه الحلوة يصير"
لم تكن فقط حلوة،كنت سأصاب بداء السكري بسببها!
وما ان بقيت لي التي بالمرآة حتى اقتربت،وحطت يدي على كتفيها وأنا اقول:
-"الله يخليك لي"
لاادري لم ملكت صوتا لطيفاً، لا لااقصد كصوت فتاة صوتي أجش قليلاً، وجميل لكني لااصلح مطرباً..لاتضحكوا، فأنا سعيد كما لم يسعد بشر قبلي في الخمسين عاماً الأخيرة..
هل تصدقوا إحصائياتي؟
عندما نظرت الي من المرآة،وددت الخروج بإحصائية أكثر دقة، لكني فضلت ان لااكذب أمام حشر الكلمات على طرف لساني..
ربما منذ الأمس علمت ان معدتي الأكثر بديهية!!
-"تجهزي عشان نطلع نتغدى"
حركت رأسها ايجاباً،فقلت
-"وين تحبين نروح؟"
قالت بارتباك-"اللي تحب"
احبكِ انتِ..احبكِ انتِ .. خذي بقلبي مقعداً واغفي هنا وارتاحي!
كدت اغنيها لو ان صوتي لايستدعي للبكاء حينها، حبك يجلب لي كل شعور يجعلني ساخراً من نفسي..وفخوراً بها!
خلال ذلك الوقت وقبل ان نخرج للغداء،كنت اسألها عن أي شيء وتجيب مرة باقتضاب،ومرة بنعم واخرى بلا،وتجيب كثيراً بلا صوت!
وددت ان تُقلع سيارتي،وان أطير معها حيث لاشيء سواها، وجودها يطغى على كل شيء،كدت اجزم ان لا امرأة سواها في هذه الحياة!
ألهذا السبب تغار الحموات!..انني عابث جداً بوجودها،..لن تغضب والدتي بالطبع..اخبروها فهي تحتل الماء في كرتي ان احتلت رسيل اليابسة!
وكنت أقود باتزان..متظاهراً بكوني رزين!
.-.
هناك...
اشعر براحة مذ صحوت، لم أكن كالأمس أبداً...اشعر انني ابتسم لاصادقة لكنني لااجد غير ذلك عوضاً عن صمتي..اعلم أن التصفيق وسيلة مؤدبة لإسكات المتحدث،لكنني لم اقتنع بها ابداً،لذا ابتكرت وسيلة أكثر أدباً لإسكات المتحدث لي، دون الحاجة إلى تبرير!
لايهم اقتناعي بالاخرى ايضاً،لكنه راضٍ بابتسامتي،بل وسعيد
-احياناً لامفر من إجابة،ولا تعويضاً عن سؤال..والآن افكر بشيء خطير...سأحاول التحدث معه تمهيداً لما سأطلب!
وهذا المطعم يبدو مشجعاً للكلام
هناك أماكن جهزت لفتح شهيتك للطعام،واخرى قادرة لإشعال شهيتك للكلام..وهذا المكان يبدوا اخرساً، لكنه يجيد الاستماع
..ولأنها المرة الأولى التي أتناول فيها غداء مع رجل في مكان عام،لم استطع ان آكل شيئاً، وبما انه عمر لم يعدني جهازي الهضمي بخير!
-"اختاري"
مد لي قائمة الطعام وكما يكون"بكل سرور"!!
لكن كلمته-اختاري- كانت جافة لاتستحمل عروس تتناول أول غداء مع زوجها!..كان يجب ان يضيف كلمة مرطبة عليها.. ليست فقط بشراتنا تحتاج على ترطيب، لكن بالطبع..ذلك لايعني أنني أريد الحصول على مرطب منه!
لكنه انتقاد كما انتقد في داخلي قائمة الطعام للونها القبيح،ونوع قماش الكرسي الذي سيرحل معك بعضه،واثر أجوائنا على ألسنة الشعب، ولا انتقد الجو طبعاً لكنني انتقد عدم استخدامهم لمرطبات!
نسيت أرضية المكان لامعة ولاتصلح لمطعم،وحتى الرجل الواقف ليكتب طلبي نسيته!
لم اسمع ماطلبه عمر،لكني قلت:
-"اثنين"
وعدت ادقق بقائمة الطعام،ولا اذكر منها سوى اللون،ولو اُخبرت أنها تحمل لغة روسية لصدقت!
..
كان عمر يتحدث عن المكان والتصميم وإستراتيجية الموقعة والخ..،ربما نسي انني لست احد أصدقائه..!
وعندما حضر الطعام حمل لي ملعقتي من أمامي ومدها لي، وبدأ بتناول طبقه مشجعاً
لكني أكاد آكل ملعقتي فارغة
-أدوات الطعام حين تصل فمي،وتعود للصحن الموضوع لا تأخذ وقتاً ولاجهداً، إلا أنها الآن تمثل إدخال إبرة في قماش ثقيل!
فقط لأنه يتابعني...دقيقة،واثنتين،واخريات..،
يزداد توتري كلما مر الوقت..فحدث أن سقطت ملعقتي أرضاً!
أخفيت يدي سريعاً إلى حضني..فزعت!..قلبي يواصل الخفقان،ويدي كانت ترتعش كلما يزداد ضغطي النفسي من ذاك الذي وقف الآن!
حاولت سبقه لأجلب الملعقة،ولم اعد احسن التصرف،إلا انه اقبل مسرعاً وامسك بيديّ..
لا بل ان أغلق عليهما بكفيه التي تذكرون!
وذلك لم يخفف من رعشتها حتى سرت بجسدي كله!
.-.
.-.
كنت اراقب توترها منذ البداية،ورأيته يزداد كلما نظرت اليها او تحدثت معها
عندما أسقطت الملعقة سقط قلبي من مكانه،ولم اشعر بنفسي إلا قابضاً رجفة يديها محاولاً ان ازيل توترها!
انحنيت لأركز إحدى ركبتي كي أبقى ثابتاً وأنا أقول:
-"بسم الله..يابعد هالدنيا..ياحياتي بسم الله عليك الرحمن الرحيم"
لم تهدأ،وكلما ضغطت قليلاً على يديها حاولت سحب كفيها، وكانت عينيها مرتكزة بانفعال شديد على مكان الملعقة
-"نرجع؟"
حركت رأسها ايجاباً متحاشية النظر إلي تماماً
.-.
.-.
في السيارة،وبعد وهلة قالت:
-"ماقدرت آكل"
وتابعت-"ماتعودت"
وأضافت -"عليك"
كنت قلقاً جداً..شعرت انه اعتذار،قلت مبتسماً
-"بتتعودين علي معك وقت"
.-.
.-.
رغم خجلي الشديد من نفسي،ومن الموقف وماحدث، الا اني الآن افكر بشيء آخر
جملته الاخيرة،جعلتني ادقق في تكوينه للجمل،ربما هذا مالاحظته جبراً أثناء حديثه الكثير!
ويتكرر في بالي ماحدث بدقة اكبر،وأخاف ان يستمر حالي معه هكذا
ستكون مصيبة حينها..
ان المصيبة تبدوا كبيرة جداً عندما تحضر،وتجعلها الأيام اصغر تدرجاً..ومصيبتي معه بدأت كبيرة ويبدوا أنها ستتضخم مع الأيام
هل مايحدث لي ثمن للحرية!
كيف ستقبل بي؟ ،مايدور حولي يفقدني حتى شهيتي للطعام،رغم انني جائعة!
.-.
.-.
مر الوقت سريعاً بعد عودتنا،قطعناه بخروجه وعودته،وبتحدثي بالهاتف،وتحدثه معي
-"نطلع نتعشى؟ولا يوصلون لنا؟"
سألني وهو يضيف مبتسماً بمكر-"ماتغدينا"
أجبته-"كيفك"
ثم غيرت رأيي-"نطلب"
ضحك وهو يقول باحثاً عن هاتفه
-"يلا بنتظرك تحت"
لمَ تسألني مادمت تريد الخروج،تصرفاته طالما أغاظتني
كنت افكر أثناء خروجي،لن استطيع ايضاً تناول شيئاً،لكنني دهشت عندما توقف أمام منزل عمي!
التفت الي وهو يخرج حزام الأمان
-"اتصلت ببدر(ضحك قائلاً) ماله نية يرجّع جوالي قلت أجي آخذه"
مالم يرى مني حركة ولا صوت قال موضحاً
"اتصلت فيه وقلتله بجي آخذ الجوال -وعزمتني- عالعشاء "
-"ليش؟"
سألت غير صدقة فقال:
-"مابي تدوخين علي واتورط فيك"
ضحك وكدت اضحك سعادة لأخرج،لكني أبيت الحراك
-"ليش ماقلت "
جملي ناقصة،لكنه يستطيع الإجابة عليها،فتح بابه وهو يقول:
-"مايحتاج"
.-.
.-.
خرجت مباشرة،ولولا الخجل لسبقته للباب،ولم يعد يهمني وكأنني لن أعود إليه
رحبت جنان فيني،وكدت لاافارق حضنها
ولم أرى غيرها،فكادت تموت ضحكاً عندما أخبرتها عما حدث في المطعم، وتناولت أشهى الأطعمة، بدري..حبيبي قال لي بحدة
-"مالت عليك مستحية من هذا(بالطبع عمر لم يكن موجوداً) خلاص ماعليك منه كل يوم بجي وقت الوجبات وبطرده"
-"ههههه ياليت..(أضفت) صدق؟"
-"هههه لالا ماعليك منه..بس بكرة بجيك تبين غدا ولا عشا؟"
-"كلهم تعال العصر"
-"هههه صدق انه دب ماخذك يجوعك وهو تلقينه شبعان"
ضحكت وأنا اجيب بخجل-"لا ماطلع ولا اكل شي"
رن هاتفي فأجبت سريعاً،وكان هو!
خرجت سعيدة،وقد عادت روح الحياة الي، وقال لي بضحكة ساخرة:
-"تعشيتي؟"
لم اجبه،فأوقف محرك السيارة قائلاً:
-"ماراح نمشي الا اذا قلتي"
فأومأت بالإيجاب،وأنا أود الكذب هذه المرة
-"ههه بالعافية بس انا ما اكلت شي"
لا ادري بما اجيبه،
-"ماقدر آكل شي وانتي مو معاي"
قبل يومين وقبلهما أعوام وأنت تأكل بدوني،ألا تزال لاتعي أنني أتقزز من كذبات الرجال!
-"بكرة بدري بيجي ويجيب معه غدا"
بالرغم انني لااقصده،إلا انها كانت كفيلة بأن تجعلنا نضحك نحن الاثنين!
كنت اريد إخباره،لكنها لم توافق الوقت
-"ههههه يعني اتصبر لين غدا بدّوور"
ثم حرك السيارة ومشى،معتقده انه سيمر بأحد المطاعم، لكنه لم يفعل
وتبعني ايضاً للغرفة، والمفاجئ انه دخل يستحم مستعداً للنوم
-ألن يتناول شيئاً!
بعد خروجه،استلقى على السرير الكبير،ثم نظر إلي مستأذناً ولم ترحب به ملامحي!
ابتعد وأصلح المقعد وهو يقول:
-"منتي نايمة؟"
كنت أقف قرب النافذة،فقلت
-"الحين"
بعد ان سحب الغطاء،رأيته ينظر الي بتعجب
ثم جلس وهو يبتسم قائلاً:
-"مستغربة من شعري حلو شكله وهو مبلل؟"
ولم انتبه لشعره الا حينها،لم يكن طويلاً لكنه بفوضى تمنحه سناً اصغر، سواءً كان جميلاً ام لا لايهم..فانا كنت انظر اليه عن دهشة ماشغل بالي!
-"ماتعشيت؟"
ضحك كثيراً لإجابتي،مما جعلني اندم على سؤاله ان تناوله للطعام ام عدمه ايضاً غير هام..لكنه شيء غريب!
-"شربت شاهي وكان فيه بسكوت عند بدر سد نفسي"
-"متى طلعت؟"
-"ماطولت"
-"اخذت جوالك؟"
-"اكيد"
لأني أتحدث معه عن بعد،استرسلت بفضولي،لكن يبدو انه مرهق ولايحتمل ذلك،لكنه تابع
-"هو اللي اتصلت عليك منه احفظيه"
-"اكيد"
عندها كان مضجع وجلس،وكأنه ترك النوم على وسادته،وهو يضحك مدهوشاً
-"هههه منك...منك احلا "
لم اقصد ان أقلده الآن وربما هو دوماً مايقولها، أعجبتني لأنها كلمة مفيدة لقطع سيل من الأسئلة!
وضعت هاتفي،وأطفأت النور واختفينا!
الرائع في عمر،انه منحني بعضاً من الحرية.. وانقضى يوم كامل لي مع هذا الرجل.. ما أثقله.. هل يعقل أن أكون مثقلة به بقية العمر!!
رجل يملك هاتفين، رجل مزعج... مزعج كثيراً..في نظري!
.-.
يتبع ,,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك