رواية و دقت الساعة الثامنة -1
رواية و دقت الساعة الثامنة
الكاتب : د/ محمد الحضيف
تجميعي
معزوفة خياليه
أحبتي أضع لكم هذه القصة بين أيدكم
لتحــلّقوا بهــا ستعيشون أحداثها بكل إثارة...
لن تعرفوا كاتبها إلا في نهاية القصـــــــة..؟
الحلــــقة (1)
_____
لساعة تقترب من الثامنة حينما استيقظت ..
- لقد تأخرت ...
قلتها .. وأنا أصر أسناني غيظا ، من المنبه .. الذي يخذلني في كل مرة ...
نفضت الشرشف عن جسمي ، وقفزت من فراشي . الربع ساعة التي أمضيها عادة في الاستعداد ، أختصرتها إلى خمس دقائق . ركبت السيارة وأنطلقت ..
كل شئ إختصرته .. إلا السرعة ، فإنها قد تضاعفت . يجب أن أصل ، ولو أدرك نصف الاجتماع . كان ذهني مشغولا بحساب عدد التقاطعات المتبقية ، حتى أصل إلى الطريق السريع ، عندما دوى إرتطام ، عنيف في الجانب الأيمن من مؤخرة سيارتي ، وعكس اتجاهها تماما .
حينما استعدت توازني ، بعد مفآجأة الصدمة ، كانت (أشلاء) سيارتي متناثرة أمامي ، ولمحت من بعد ، السيارة التي صدمتني تلوذ بالفرار .. قلت في نفسي :
سيارة فخمة .. لماذا يهرب صاحبها ، ورفرف من رفارفها يعادل قيمة سيارتي ..؟
لم أحتج لتفكير طويل ، لكي أقرر أن أطارده وأنسى الاجتماع . الصدمة قوية ، والتلفيات في سيارتـي كبيرة ، وأنا لا أستطيع أن أتحمل خسائر بهذا الحجم .. الاجتماع يمكن أن يعوض . هكذا حدثت نفسي ، وأنا أنطلق وراءه بنصف سيارة تقريبا .
كان مرتبكا ، لذلك لحقته بسرعة ، وبدأت مطاردة غير متكافئة بين سيارته الفارهة ، والـ (نصف) المتبقي من سيارتي . شعر أني مدركة .. لا محاله ..
فأنا صاحب حق ، والوضع الذي آلت إليه سيارتي ، لم يبق لي شيئا أخسره .
عند أحد المنعطفات خفض من سرعته كثيرا . لاحظت ذلك ، من نور الكوابح الذي ظل مضاء أطول من كل مرة . لقد استسلم .. قلت لنفسي ، وبدأت آخذ وضع الاستعداد للوقوف .
،
،
،
فجأة .. رأيت باب الراكب الذي بجانبه يفتح ، ولاحظت أنه يميل ، ويدفع (شيئا) إلى الخارج .. ثم أعقب ذلك صريخ عال لعجلات سيارته يصم الآذان ، وهو ينطلق بسرعة عاليه ، تاركا المكان ممتلئا برائحة إحتراق الاطارات ، إثر إحتكاكها الهائل بالارض .
حينما فتح الباب .. وقذف بذلك (الشئ) ، كان أول ما سقط حقيبه .. ثم شيئا ملتفا بقماش أسود .. كأنه ..
- يا إلهى .. إمرأة .. بل فتاة ..
هكذا صرخت ، وأنا أتقدم ببطء تجاه ذلك (الشئ) ، الذي قذف من السيارة .
نهضت .. وأخذت تنفض الغبار الذي علق بعباءتها ، وتتراجع ملتصقة بالجدار . حينما اقتربت منها ، أخذت تبكي ، وهي تلملم أطراف (مريولها) الذي تمزق ، إثر سقوطها من السيارة .
- طالبه ..
قلتها ، وأنا أنظر إلى (مريولها) ، وأغراضها المدرسية التي تناثرت من حقيبتها ..
وقفت قريبا منها ، وصرت أسمع بكاءها ، وحشرجة صوتها وهي تقول :
- أرجوك .. أرجوك .. أستر علي ، الله يخليك .. لا تفضحني ..
لم أدر ماذا أصنع . شعرت بإرتباك وحيرة شديدة .. وتعطلت قدرتي على التفكير . الموقف يبعث على الريبة : أنا .. وفتاة .. على ناصية الشارع . ثوبها ممزق ، وأغراضها مبعثرة على الأرض .. قلت لها .. بعد تردد ، دون أن أحدد ما هي خطوتي التالية :
- اركبي .. سأوصلك إلى بيت أهلك ..
صاحت ، بهلع :
- لا .. لا أريد بيت أهلي .. ستذبحني أمي .. أرجوك ..
كان يجب أن أتصرف بسرعة ، خاصة وأن المشهد أصبح ملفتا للنظر .
السيارات المارة ، صار أصحابها يحدقون بنا ، وكاد فضول بعضهم يدفعه للتوقف .
- اركبي الآن .. ونتفاهم فيما بعد .. في المقعد الخلفي لو سمحت ..
شرعت أجمع أغراضها ، التي تناثرت من حقيبتها المدرسية .. ثم عدت أدراجي إلى السيارة ..
لم تكن قد ركبت ..
،
،
- لماذا لا تركبين ..؟
- الباب لا ينفتح ..
- تعالي إلى هذا الباب ..
ألقيت نظرة إلى داخل السيارة ، كان حطام الزجاج يملأ المقاعد الخلفية ..
الحلقـــة الثانية...
ركبت ، وحينما أستوت على المقعد ، أخذت تجمع عباءتها ، لتغطي بها (مريولها) الممزق، الذي أنشق عن ساقها إلى أعلى ركبتها بقليل . لمحت كفها .. بيضاء صغيرة ، خمنت أنها لا تزيد عن الخامسة عشرة . - تدرسين ..؟
- نعم ..
- في أي صف ؟
- الثالث متوسط ..
كان ظني في محله .. لون (مريولها) يشبه لون مريول شقيقتي ، التي تدرس في نفس المرحلة .
- (وش) إسمك ..؟
- موضي ...
كنت أسير بالسيارة على غير هدى ، وطاف في رأسي كثير من الأفكار :
أسلمها للهيئة .. ارجعها إلى بيت أهلها .. أعيدها للمدرسة .. أنا قطعا لا أستطيع أن ابقيها معي ..
سألتها :
- موضي .. من هذا الذي كنت معه ..؟
لم ترد على سؤالي .. ولا اأدري تحديدا لم سألتها . كنت أريد أن اختلق حوارا ، لأصنع جوا من الثقة ، يساعدني في فهم ملابسات أمرها .. ويمهد الطريق إلى قلبها ..
القلـوب المغلقة مثل دهاليز الاستخبارات .. مرتع خصب للخوف .. والتوجس .. والشك .. والريبه .. الساعة الآن تجاوزت التاسعة والنصف .. الوقت يمضي ، وأمامي أعمال كثيرة يجب أن أؤديها ..
،
حين فشلت محاولتي لإستدراجها للكلام ، رأيت أن احسم الموضوع مباشرة .. قلت لها :
- موضي يجب أن تختاري بين أمرين .. أسلمك للهيئة ، أو أوصلك لبيتكم .. بقاؤك معي غير ممكن .. كما أن أهلك لابد أن يعرفوا عن سلوكك ..
أنفجرت باكية ، وبطريقة تنم عن سلوك طفولي حقيقي ، رفعت غطاء وجها ، وهي تتوسل إلي بعينين دامعتين ، أن لا أفعل ...
- أرجوك ... إذبحني .. لكن لا تسلمني للهيئة .. لا (توديني) لبيتنا .. والله هذي أول مرة أطلع فيها مع رجال .. ضحكت علي البندري ...
اشفقت على ذلك الوجه الطفولي البرئ . قلت لها ، وأنا أسحب يدي من يديها ، وهي تحاول أن تجرها لتقبلها ، رجاء أن لا أسلمها للهيئة ، أو لأهلها :
- طيب .. طيب .. خلاص .. لن أسلمك لأحد .. لكن ما العمل ..؟
- إذا جاء وقت طلوع الطالبات .. أنزلني عند المدرسة ..
- متى ..؟
- الساعة الواحدة .. بعد صلاة الظهر ..
- بقي أكثر من ثلاث ساعات .. وأنا مشغول ..
أطرقت لحظات ، تعاقب خلالها على وجهها إنفعالات من كل نوع .. الرهبة .. القلق .. الخوف من المجهول .
ثم نظرت إلي بعينين فارغتين تماما من أي بريق .. وقالت :
- نزلني عند المدرسة ..
- وبعدين ..؟
- أنتظر .. وإذا طلعوا الطالبات .. أروح لبيت أهلي ..
شعرت في أعماقي بحزن شديد لهذه البراءة الساذجة . هي بالتأكيد ليست من ذوات السلوك المنحرف المتمرسات .. ولا تعي خطورة الذي تقوم به .. ولا عاقبة تصرفاتها ..
- أنت صاحية .. تقعدين في الشارع ثلاث ساعات ..؟
لم ترد بشئ ، لكن الفضول دفعني لأن أسألها عن مكان مدرستها ، لأستدل من ذلك على اسم الحي الذي يسكنه أهلها ...
- أين مدرستك يا موضي ..؟
- في حي الأمل ..
،
حي الأمل ..؟
شعرت بمثل المسمار يخترق قلبي ..
هذا من المضحكات المبكيات . ما أكثر ما نسمي الأشياء بغير حقيقتها .. ما أكثر ما نزيف المعاني .. والواقع .. والاحلام ..
هذا أفقر أحياء الرياض .. لو سموه (حي اليأس) .. أو البؤس .. أو التعاسه .
الأمل ..؟ إن كان فيه للأمل بصيص .. فوجود هذه (الزهرة) فيه .. هذا الكائن الطفولي الذي تتعرض البراءة فيه للإغتيال ..
تداعت إلى ذهني الصور والمعلومات التي لدي عن حي (الأمل) ، وحاولت أن أفهم العلاقة بين تلك السيارة الفخمة وحي (الأمل) ، حيث تقيم موضي . لا يمكن أن يكون صاحب تلك السيارة يقيم في ذلك الحي ..
لسبب بسيط هو أن ثمنها يعادل قيمة خمسة من (جحور) ذلك الحي ، التي يطلق عليها مجازا .. (منازل) .. كما أن سيارته ستجد صعوبة في إختراق زواريب ذلك الحي ، الذي لا يتسع أحدها ، إلا لمرور سيارة واحدة صغيرة .. ولأن سكان ذلك الحي كذلك .. غالبا ما يتسببون بإغلاق الشوارع ، بايقاف سياراتهم بطريقة خاطئة ، لا تتحملها هذه الطرق ، الضيقة أصلا .
ماذا يكون ...؟
إنه .. (أحدهم) ..
إنه فجور المترفين ، إذ يتربص بعوز المحرومين .. وحرمـان البؤساء ، ليطلق غرائزه .. تفتك بإنسانية البسطاء .. وتفترس الشرف ، والكرامة ..
أعرف هذا الحي . جئته في أحد المساءات ، قبل عام تقريبا ، بصحبة صديق ملتزم ، من الناشطين في الأعمال الخيرية التطوعية .. لتوزيع صدقات عينيه ومالية .
لا أدري كيف أقنعنـي عبدالكريم أن آتي معه . فأنا رغم تعاطفي مع حالات البؤس الانساني ، إلا أنني سلبي جدا في التعاطي معها . أحتاج إلى وقت طويل ، لأتفاعـل مع الحدث ، أو الحالة ، وأحتاج لوقت مثله ، لأترجم التفاعل إلى فعل ..
لم تكن المرة الأولى التي يعرض علي عبدالكريم فيها مرافقته ، للقيام بمهمات من هذا النوع ، وكنت في كل مرة ، أتذرع بحجة مختلفة . لكني أتذكر ، أنه في تلك المره استفزني .. وسخر من (الانسان) البليد ، الجامد في داخلي ، كما قال :
- هل تريد أن ترى البؤس يمشي على قدميه .. هل تريد أن تستعيد شيئا .. شيئا فقط ، من إنسانيتك المهدره ، بين كلام مجرد عن المثل والأخلاقيات ، التي لم تجد لها رحما تتخلق فيه .. لتولد .. وتشب .. وتكبر .. وتمنح الحياة ، لكائنات لم تعرف معنى للحياة منذ خلقت ..
وبين سلوك استهلاكي بشع ، حولتك الرأسمالية المتوحشة من خلاله ، إلى (آلية) من آليات السوق .. أنت في قوائم التحليل الاقتصادي ، عند (آدم سميث) ، وتلامذته .. رقما .. آليه .. قدرة شرائية .. أنت بإختصار .. (لا إنسان) ..
دع عنك الهمهمة المعتادة :
"الله لا يؤاخذنا صرفنا واجد اليوم" ..
الاخ / amm و شوق المهــا
أشكر لكم مروركم الطيف والآن لنكمل القصة...
(الحلقة الثالثة....)
__________________________________________________ _______
يوم .. وكل يوم .. أنت تفعل الشئ نفسه .. تتقمص نفس الدور المسخ .. (آليه) ..
كأني بك مسرورا ، وهم ينادونك : MR. MARKET MECHANISM
اليوم .. وكل يوم .. أنت تمارس بسادية ، وأد الانسان في داخلك .
تعـال معي لتستعيد إنسانيتك ، حينما يفجرها الألم .. لمشهد الحرمان .. الـذي يصنعـه الفقر ..
تعال لترى الانسان عند نقطة الصفر .. كيف هو ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر .. ؟
تستلب الحياة من كل شئ فيه .. إلا عينيه ..
أتعلم ماذا يكون الانسان عند نقطة الصفر ..؟ الكلمات في قاموسه ليس لها أضداد .. أنت تعرف السعادة .. وربما سمعت عن الشقاء ، هو لا يعرف الا الشقاء .
أنت تعرف شيئا اسمه الحزن .. والفرح ، هو لا يعرف إلا الحزن ..
أنت تعرف الشئ ونقيضه ، بدرجات متفاوته .. هو يعرف الكلمة وحدها .. بمعناها السلبي فقط .. بدون أضدادها ، وبأقصى درجاتها قسوة ..
البؤس .. والعجز .. والحرمان .. والألم .. والعري .. والجوع ..
،
،
استفزني عبدالكريم بكلامه ، واستثار التحدي عندي ، فقررت أن أذهب معه .. لأرى هذه (البيئة) التي سوف تعيد خلق الانسان في داخلي ، كما يقول ، ولأتاكد إذا ما كان ذلك (الانسان) الجامد البليد موجودا ..
كنت اتنقل مع عبدالكريم ، من بيت إلى بيت ..
كنت معه في سباق مع الألم ..
في كل مرة يغرس نصلا ..:
- أترى هذا الطفل .. لا يملك إلا ثوبا واحدا .. إذا عاد من المدرسة خلعه .. وخرج إلى الشارع ، يلعب بسروال فقط .. أتدري لماذا ؟ .. ليس لغزا ..
ولا رياضة ذهنية ..
إنه لا يملك غيره .. ويجب أن يبقى نظيفا .. حتى يستطيع أن يذهب به من الغد إلى المدرسة .
لم ينتظر مني تعليقا ..
في بيت آخر ..
- أرأيت هذه الطفلة .. تم سحبها من المدرسة بعد أن وصلت الصف الرابع ..
لا .. أهلها ليسوا ضد تعليم البنات .. لكنهم اضطروا لذلك ، لأن شقيقها وصل سن الدراسة .. وليس لديهم القدرة على الصرف إلا على (دارس) واحد .. فكان الولد ..
من منزل لآخر ..
حتى استغرقنا النصف الأول من الليل .. كنت لا أسمع .. إلا :
أرأيت .. أرأيت ..
كان عبدالكريم ، وهو يتجول بي من بيت لبيت .. يفتح أمامي أبواب الحزن والبؤس .. على مصاريعها .. ويوقفني على مشاهد للحرمان .. ويسكب في عيني ألما ..
- توصلني قريب من مدرستي .. لو كلفت عليك ..؟
أتى رجاؤها مخنوقا .. ممزوجا بالخوف ، ليقطع علي سلسلة الصور التي تداعت إلى ذهني عن حي الأمل ، وما بقى من آثار تجربه إعادة اكتشاف الانسان البليد الجامد، المغموس بالتفاهات ، الموجود في داخلي ...
،
- لا ... تبقين معي إلى وقت الخروج من المدرسة .. ثم أوصلك ..
غمرها شعور بالسكينة ..
لاحظت ذلك وأنا أرى صدرها يهبط .. ثم تطلق نفسا عميقا ، دفع غطـاء وجهها إلى الأمام ..
أخذت أقلب الأفكار فيما أفعله ، لأخرج من هذا المأزق الذي وقعت فيه . الواقع المزري لحي الأمل كان
حاضرا ، وأنا أبحث عن حل يتجاوز .. أن (أتخلص) أنا ، من (ورطة) موضي ..
كنت أريد حلا لها هي ، حتى لا تعود لنفس الطريق . من السهل أن (أرميها) ، كما تقول ، قرب مدرستهـا ، لتذهب لبيت أهلها ، وسوف تجد إجابة تقنع بها أمها ، عن سبب تمزق (مريولها) .
أشعر أني غير قادر على الخروج بشيء ذي بال .. في موضوعها . هل يملك (رجال الهيئة) حلا يعطي التجاوز فرصة ، ويوفر علاجا جذريا ..
لو أني لجأت إليهم ..؟
ماذا لو اتصلت عليهم لطلب الاستشارة فقط ..؟
مرت دقيقة أو أكثر ، والافكار تطوح بي يمينا وشمالا ، قبل أن يقطع تفكيري صوت بكائها. توهمت في البداية أنها سمعتني ، وأنا أحدث نفسي حول الاتصال بالهيئة . التفت إليها ، كانت قد وضعت وجهها بين كفيها وتنتحب ...
- ما بك يا موضي ..؟
قالت بصوت يقطعه البكاء ..
- كيف أشكرك .. (وشلون) أشكرك ..؟
لم يكن بكاؤها عن سبب ، كانت تفرغ شحنة عاطفية مكبوتة ..
منذ الصباح ، وهي تراكم هما .. وخوفا .. وإحباطا .. وعجزا .. وقلقا .. وتنتظر أملا .. حين أقتربت من مقر عملي ، قلت لها :
- موضي .. سأنزل هنا .. لدى أمور سأنجزها .. قد يحتاج ذلك ساعة أو أقل . سأقف هنا .. المكان آمن .. سأترك مكيف السيارة مفتوحا . أبق الأبواب والزجاج مغلقة ..
لا تفتحي لأي إنسان ، مهما كانت الاسباب .. ولا تغادري السيارة أبدا . سأترك جوالي معك .. إتصلي على هذا الرقم عند أي طارئ .. ولا تردي على أي إتصال .
،
كنت أهم بالنزول ، عندما قالت :
- خذ الجوال .. أنا لا أعرف كيف استخدم الجوال .. هذه أول مرة في حياتي .. أرى فيها جوالا ... توقفت للحظة ، قبل أن آخذ منها الجوال ، الذي بقى في يدها الممدودة .. وشعرت بمثل حد السكين يحز في أعماقي .. وتداعت إلى ذهني قصة (ولد البسام) .. والصدى يجلجل في تلك المساحات الفارغة ، في قطعة اللحم التي تدعي مجازا (قلبا) :
"هذه .. أول مرة .. في حياتي .. أرى فيها .. جوالا ..."
يتبع>>>
(( الحلقــة الرابعة))
.. يا لبلادة المترفين ...
ألتقطت منها الجوال ، والمرارة .. والشعور بالاحباط .. وغياب (الانسان) ، ترغم شفتي على الانفراج ، لتصنعا شيئا يسمونه (إبتسامة) ...
- ليه تضحك .. ما أنت مصدقني ..؟
- مصدقك .. والله يا عمري ..
- أجل ليه تضحك ..؟
- أضحـك على الإنســان البليد في داخلي .. الرقم .. العينة المسحية في أبحاث السوق ..
- ما فهمت ...
- تفهمين بعدين ...
أغلقت الباب ومضيت . حينما سرت بضع خطوات سمعت نقرا على الزجاج .. التفت ، كانت تلوح بيدها .. تناديني ..
رجعت ، ولما فتحت الباب ، قالت :
- أبغى أطلب منك طلب .. لكني خجلانه ..
- تفضلي ...
- أنا جايعة .. من أمس الظهر .. والله ما ذقت شئ .. أصل أمس ...
خلص الزيت ، وما قدرت أمي تطبخ .. وحنا .. بعد .. يعنى ...
لم تستطع أن تكمل عبارتها ، ولم تقدران تفصح عما كانت تريد قوله ..
كانت تفرك كفيها ببعضهما ، مطأطئة رأسها ..
،
،
حرت في مكاني لبضع ثواني ..
ها هو الانسان البليد في داخلي ، يتلقى صفعة ثانية ..
- جائعة .. وأنا رائحة الشواء ، الذي أتخمت منه البارحة ، حتى لم يبق مكانا لنسمـة هواء .. ما زالت خياشيمى ..
هناك شئ نفعله حينما يبلغ بنا _الشعور بالمرارة والمهانة أقصاه ... نبصق على شئ .. صورة المسئول في الجريدة .. مثلا .. أو على الارض بجانبنا ..
وهو أقصى إحتجاج نقدر عليه ..
كنت أريد أن أبصق على خيالي ، الذي يعكسه الزجاج .. على (شكل) الانسان الذي أدعي أنه موجود لدي ..
كنت أهم بأن أفعل ذلك ، لكني خشيت أن تفهم أنها هي المقصودة ..
رفعت راسها ، وأنا مازلت واقفا . كانت عيناها تلمعان من خلف غطاء وجهها . قالت ، وهي ما تزال تفرك كفيها ، لكن بوتيرة أقل :
- الظاهر أن طلبي ما كان في محله ... أو (شكلي) أحرجتك ..
- لا .. ابدا .. نمشي الآن ...
كنت على وشك أن أغلق الباب حين لمحت بقعة دم على ثوبها ، قريبا من موضع الركبة . انقبض قلبي بشدة ، وداهمني خاطر سئ .. وشعور بالغضب ، لم أستطع أن أواريه ، فقلت لها بلهجة جافة .. لا تخلو من إتهام :
- موضي .. من وين الدم هذا ..؟
- انجرحت ركبتي .. يوم طحت من السيارة ..
عيناها مازالتا تلمعان من خلف الغطاء .. معلقتان بوجهي ، الذي ارتسمت عليه علامة استفهام كبيرة .. أحست أن إجابتها لم تقنعني ، وأني لم أصدق كلامها ، فأزاحت عباءتها ، ورفعت ثوبها عن موضع الاصابة ، دون أن تتكلم ، أو ترفع رأسها .
كان جرحا سطحيا ، تيبس الدم حوله . ليس عميقا ، لكنه بدا ، بلونه الداكن ، وتشققاته ، التي أبرزها إهابها الأبيض الرقيق ، مثيرا للألم والشفقة .
أغلقت الباب ، وركبت من الناحية الأخرى . كانت ما تزال مطأطئة راسها ..
أعرف أني جرحت كرامتها ..
كثيرا ما نوقع أذى بهذا الحجم وأكثر ، بالآخرين .. وكثيرا ما يكون ذلك بدافع من الشعور بـ (طهرانية) مبالغ فيها لذواتنا .. والشعور بـ (دنس) الآخر ، وقابليته للخطيئة ، التي تحتاج إلى (مخلص) مثلنا .. لم يقف يوما في صف ، ويسمع ...
"من كان منكم بلا خطيئة .. فليرمها بحجر ..."
.. وأحيانـا نمارس الأذى ، ونوقعه بقسوة .. لا تعطي فرصة للتجاوز .. على من نحب .. بدعوى الحب ..
كيف يؤذي من يحب ...؟
حاولـت أن أغير الموضوع ، وألطف الموقف ، بسؤالها عن ماذا تريد أن تأكل ، لكنها لم ترد. فكرت أن أشتري لها سندويتشات وعصير ، لكني لا أعرف محلا قريبا ، يقدم هذا النوع من الفطائر ، وعملية البحث ستأخذ مني وقتا .
اتجهت إلى مطعم قريب ، يقدم وجبات سريعة . في الطريق إليه لمحت صيدلية .. نزلت وأشتريت شاشا ومعقما ولاصقا .
وصلنا المطعم .. قلت لها :
- انزلي ...
- إلى أين ..؟
- إلى المطعم .. لتفطري ...
نزلنا وفي قسم العائلات ، أخذنا إحدى المقصورات . كانت تتلفت .. واضح أنها تدخل مطعما لأول مرة .. قالت ببراءة :
- آكل قدام الناس ... ما يشوفوني الرجال ..؟
- لا .. أنت لوحدك هنا ..
تيقنت أنها بريئة .. ولم تتمرس على الانحراف .. تستحي أن يراها الرجال كاشفة وجهها وهي تأكل .. الحياء لا يتكلف ، ولا يصطنع ..
التظاهر في مثل هذه المواقف ، بغير الحقيقة ، يتطلب درجة عالية من الخبث ، والتمرس على المكر .. لا يمكن أن تتقنه طفلة في هذا السن ..
وأوجعني قلبي مرة أخرى .. أن ظننت بها ظن السوء ..
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك