رواية عندما تنحني الجبال -8
ساد صمت ثقيل بينهما .. نظر خلاله محمود إلى نانسي وكأنه يتمنى أن يتوقف هذا الحديث عند هذا الحد .. ولكن مرأى حالتها المضطربة جعلته يدرك بأنها لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة .. اعترف قائلا :- لا .. لم يكن وجودي هناك صدفة على الإطلاق .. لقد وضعت من يراقبكن بعد الحادث مباشرة خوفا من عودة جابر ومحاولته أذيتك مجددا .. عرفت من خلاله بأنكن قد غادرتن المدينة وتوجهتن إلى منزل الشاطئ العائد إلى خالك
همست :- لماذا فعلت هذا ؟ لماذا لحقت بنا إلى هناك ؟
مرر يده عبر شعره الكثيف وهو يقول بانفعال :- لماذا تظنينني فعلت هذا يا نانسي ؟ لقد كاد الرجل يغتصبك بحق الله .. ولو أنني لم أتأخر في الحضور لما أذاك بذلك الشكل .. لقد كنت ضعيفة للغاية رغم تظاهرك بالقوة .. ما كنت بقادرة على مواجهة الواقع أنت أو عائلتك دون مساعدة .. كان علي اللحاق بك لأتأكد بأنكن بخير
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحس بطعنة قوية من الألم في صدرها .. تراجعت وهي تقول بمرارة :- نعم .. هذا صحيح .. وكم كانت صدمة قوية أن تمرض أمي وتموت .. وتجد أنت الفتاتين اليتيمتين قد أصبحتا بلا حماية هل حملت نفسك مسؤولية مرض أمي أيضا يا محمود ؟ هل فكرت بأن الزواج بي كان الطريقة المثلى لإسكات ضميرك المتعب .. الوسيلة الوحيدة لمنحي أنا وأختي المسكينة سقفا يأوينا ؟ .. أظن بأن اعمالك الخيرية قد تخطت الحدود هذه المرة يا محمود .. إذ تخلين عن حريتك بسببها
قطع المسافة بينهما فورا وقد أغضبه تهكمها .. أمسك بكتفيها يهزها بقوة قائلا :- لا تتحدثي بهذه الطريقة يا نانسي .. أنا لم أتزوجك شفقة أو رأفة بك .. أنت تعرفين جيدا لماذا تزوجتك
ابتعدت عنه وهي تنظر إليه قائلة بمرارة :- نعم .. أعرف جيدا بأنها كانت الطريقة الوحيدة التي تجعلني أقبل المال اللازم لعلاج والدتي .. كما أنني حسنة الشكل لحسن حظك مما يجعلني زوجة مرغوبة منك .. مع أنني متأكدة بانك كنت لتتزوجني حتى لو كنت قبيحة أو بدينة
قال بحدة :- نانسي
أمسكت أذنيها وهي تهز رأسها قائلة بألم :- أرجوك يا محمود .. لا أريد أن أسمع المزيد .. أرجوك
تركت الغرفة مسرعة .. نزلت إلى المطبخ لتجد حنان جالسة برفقة نجوى تحتسي معها كوبا من الشاي .. نهضتا فور أن رأتاها عند الباب .. وجهها مغطى بالدموع .. وشهقاتها تتوالى بشكل طفولي .. أسرعت نجوى تصب لها كوبا من الشاي
بينما وقفت حنان وهي تقول بقلق :- يا إلهي .. ما الذي حدث يا عزيزتي ؟
ضمتها بسرعة بين ذراعيها وهي تقول بين شهقاتها :- لقد كان هو يا حنان .. لقد كان هو
أجلستها حنان برفق بينما وضعت نجوى كوب الشاي الساخن أمامها وغادرت المطبخ تاركة للفتاتين حرية الحديث .. قالت نانسي مرتعشة :- لقد كان محمود .. هو من أنقذني ذلك المساء .. هو من حملني إلى المستشفى ودفع التكاليف .. لقد كان محمود
قالت حنان وهي تمسك بيدها ..:- اهدئي يا نانسي .. لطالما أردت معرفة الشخص الذي أنقذك وقد عرفته الآن .. يجب أن يكون هذا خبرا جيدا
هزت نانسي رأسها قائلة :- أنت لا تفهمين خقيقة الأمر يا حنان.. عندما استيقظت في المستشفى .. كان أول ما خطر على بالي هو أن أعرف اسم الشخص الذي أنقذني من مصير أبشع من الموت .. لفترة طويلة لم أفكر إلا بذلك الشخص الغامض .. تمنيت دائما أن أجده في يوم من الأيام لأتمكن من رد جميله .. كنت مستعدة لمنحه حياتي مكافئة له على ما فعله .. وفي النهاية .. أكتشف بأن منقذي هو الرجل الذي تزوجته
تمتمت حنان :- نانسي
هتفت حنان :- انت لا تفهمين مأزقي الحال يا حنان .. مشكلتي الكبرى هي انني اكتشفت لتوي بأنني أحب محمود .. أحبه بجنون
قالت حنان ببهجة :- هذا رائع يا نانسي .. لقد ظننت دائما بأنك تكرهينه
وقفت نانسي وأخذت تتحرك في المطبخ بلا توقف وهي تتكلم كمن يخاطب نفسه :- نعم .. لقد ظننت نفسي أكرهه .. إلا أن الحقيقة هي أنني قد أكون وقعت في حبه منذ البداية دون أن أدري .. لقد بدأ بكسب احترامي بازدرائه لي وطرده لي من مكتبه رافضا رشوتي .. ثم الطريقة التي أشعرني فيها دائما بالعجز أمامه .. الطريقة التي أذاب فيها كبريائي كلما تواجهنا .. محمود هو الشخص الوحيد الذي أجدني عاجزة عن التبجح أمامه والاعتداد بنفسي
ثم الطريقة التي عامل فيها أمي قبل وفاتها .. لقد جعلها تحس بالراحة والأمان لوجوده إلى جانبنا وقد حرمنا أبي من هذا الإحساس .. لقد كان للينا الناصح الأمين والأخ الأكبر والوالد البديل عن جدارة .. لقد وقف إلى جانبنا عند مرض أمي ولم يتردد لحظة واحدة قبل أن يتكفل هو بكل شيء .. لقد احتواني بكرمه وصبره وحنانه .. ومعرفتي بأنه هو من أنقذني حطمني تماما
وقفت حنان قائلة بقلق :- هذا جيد يا نانسي .. أنت تحبين زوجك ..
هتفت نانسي بمرارة :- لا .. ليس جيدا على الإطلاق عندما أعرف بأنه قد تزوجني شفقة علي و إسكاتا لضميره .. ليس جيدا عندما أجهل عنه كل شيء ولا أتوقف عن التفكير بما يخفيه عني بعد
فكرت بألم .. عندما أفكر بريم وهديل ونسرين وغيرهن من النساء اللاتي تجهل حقيقة مكانتهن في حياة محمود
أسرعت حنان تقول بلهفة :- لا يا نانسي .. محمود يحبك .. وأنا متأكدة من هذا .. وأنت أيضا تحبينه فلا تعذبي نفسك بدون داعي حقيقي
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. أنا لا أحب محمود .. سأظل أردد هذه العبارة حتى تتحول إلى حقيقة .. لن أحبه حقيقة حتى أتأكد بأنه لي .. لي وحدي بقلبه وجسده ومشاعره
وقفت حنان وهي تنظر إلى نانسي الحزينة بيأس من تغيير رأيها .. تمتمت نانسي :- آسفة لأنني أزعجتك يا حنان .. انسي كل ما قلته لك .. أنا سأنساه أيضا ولن أفكر به مجددا
عندما عادت إلى غرفة النوم .. كانت تأمل بأن تجد محمود نائما كي تتجنب مواجهته .. ولكنه اعتدل فزق السرير فور دخولها وقد علا وجهه الوسيم القلق وهو يقول :- هل أنت بخير ؟
حاولت ألا تنظر إلى صدره العاري القوي العضلات وهي تقول بفتور :- طبعا بخير .. ولك لا أكون كذلك ؟
دارت حول السرير .. ودست نفسها في جانبها منه وهي تمنح محمود ظهرها .. فقال بتوتر :- يجب أن نتحدث يا نانسي .. لقد عرفت بأن معرفتك بهذا ستزعجك .. لهذا فقط أخفيته عنك
تمتمت دون أن تنظر إليه :- ولماذا تزعجني .. كان علي أن أعرف كي أشكرك على إنقاذك لي.. وعلى ما فعلته وتفعله لأجلي ولعائلتي .. سأتذكر هذا دائما عندما تعايرني بأنك قد اشتريتني .. لن أجرؤ عندها على فتح فمي بكلمة
صاح بحدة :- نانسي
أمسك بكتفها وأدارها إليه بقوة .. فرأى وجهها المغطى بالدموع .. وفمها المطبق بقوة وكأنها تمنع نفسها من البكاء .. عرف بأنها قد تنهار عند أقل ضغط منه .. فاكتفى بأن قال بإصرار :- أنا لم أتزوجك شفقة عليك يا نانسي
نظرت إلى عينيه الداكنتين لفترة طويلة وهي تتمنى أن تعرف حقا ما يختبئ خلفهما .. ثم أشاحت ببصرها هامسة :- تصبح على خير
تركها هذه المرة تبتعد عنه دون اعتراض .. للحظات لم تشعر بأي حركة منه وكأنه ينظر إلى ظهرها متأملا .. ثم وأخيرا .. أطفأ نور الأباجورة المجاورة للسرير .. وخلد إلى النوم
الفصل التاسع عشر
نكبة أخرى
عادت نانسي من الجامعة مع انتصاف اليوم .. لم تكن في مزاج جيد لقضاء الوقت برفقة زملائها المبتهجين .. كانت قلقة على لينا التي ذهبت إلى المدرسة أخيرا هذا الصباح لأول مرة .. ورغبت بشدة في أن تكون موجودة لحظة وصولها .. سألت نجوى فور دخولها المنزل عن لينا فقال :- لقد وصلت منذ دقائق .. إنها في غرفتها
أسرعت نانسي تقفز فوق الدرج وصولا إلى غرفة لينا الصغيرة .. فوجدتها جالسة على الأريكة دون أن تغير زي المدرسة الرسمي الأنيق .. وقد بدا عليها التعب والاكتئاب .. قالت بمرح مصطنع :- لقد نسيت كم تبدين فاتنة في الزي المدرسي .. هيا تكلمي وأخبريني عن نهارك في المدرسة الجديدة
جلست إلى جانبها بينما قالت لينا وهي تجذب رباط شعرها لتحرره قائلة بملل :- لقد كان جيدا .. المدرسة جميلة والمعلمات طيبات كما يبدو .. وقد عقدت صحبة على الفور مع بعض الفتيات
نظرت نانسي إلى وجهها الملول بحيرة .. ثم قالت بقلق :- ما الذي يزعجك إذن ؟ تبدين تعيسة .. هل وجه أحدهم أي كلمة مزعجة نحوك ؟
نظرت لينا إلى أختها بتأنيب ضمير :- لا .. لم يتحدث أحد عن أبي .. بل لم يذكر اسمي أي أحد به .. أنا آسفة لأنني أقلقتك
قالت نانسي :- ما الأمر إذن ؟
ابتسمت لينا بحرج قائلة :- لقد نسيت مدى كرهي لأداء الواجبات المنزلية .. وقد حملتني المعلمة كومة منها بسبب تأخري عن التلميذات
تنهدت نانسي بارتياح وهي تجذب شعر أختها الذهبي بغيظ :- أيتها الكسولة .. تستحقين عقابا على الرعب الذي أشعرتني به
ضحكت الفتاتان في اللحظة التي دخلت فيها نجوى قائلة وهي تبتسم لمرأى الضحكات على وجهي الفتاتين :- لقد وصل الدكتور محمود .. ويطلب منكما موافاته في غرفة الاستقبال
أومأت لها نانسي برأسها ثم نظرت إلى لينا وهي تقول مازحة :- لابد أن بابا الجديد يريد أن يطمئن على نهار صغيرته في المدرسة
ضحكت عندما احمر وجه لينا بخجل .. ثم سارتا معا نحو غرفة الاستقبال فور أن غيرت لينا ملابسها .. عندما دخلتا توقعتا ان تجدا محمود وحيدا .. إلا أن نظرهما تعلق فورا بالرجل الجالس إلى جواره .. الرجل الأربعيني الأشقر الوسيم الذي بدا الحزن واضحا في وجهه وهو يقف فور رؤيته لهما
تجمدتا للحظات طويلة وهما تنقلان بصرهما بين محمود الواقف إلى جواره جامد الملامح .. وبين الرجل الذي نظر إليهما بلهفة .. لينا كانت أول من كسر الجمود .. إذ انهمرت دموعها وهي تصيح بلهفة :- خالي فوزي
ركضت نحوه ورمت نفسها في حجره فورا .. ثم تبعتها نانسي فاحتوى الفتاتان بين ذراعيه وهما تبكيان .. بينما سالت دموع ساخنة من عينيه وهو يقول بألم :- أنا آسف يا صغيرتي .. آسف لأنني لم أكن موجودا خلال مرض أمكما وعند وفاتها .. آسف لأنني لم أقف إلى جواركما في محنتكما
كان اللقاء مفعما بالمشاعر والانفعالات .. وعندما انتهت العاصفة .. جلس الخال على الأريكة وقد جلست الفتاتان حوله وهو يحكي لهما عن رحلته المفاجئة مع زوجته حول أوروبا .. وفقدانه لهاتفه وعجزه عن الاتصال بهن .. حتى أنه لم يعرف بفضيحة والدهما حتى اتصل به محمود قبل أيام وقد تمكن بوسائله الخاصة من العثور عليه .. وأخبره بكل شيء فترك ما وراءه وعاد فورا
سالت دموعه مجددا وهو يقول :- ليتني كنت موجودا .. ليتني تمكنت من وداعها على الأقل
ضم الفتاتين إليه وهو يقول :- من حسن الحظ أن الدكتور محمود كان موجودا لأجلكما .. لا أعرف كيف أشكرك يا دكتور على كل ما فعلته للفتاتين .. ووقوفك إلى جانب مريم قبل وفاتها .. أنا أشكرك من كل قلبي
قال محمود بوجوم :- لا داعي لشكرك يا سيدي .. نانسي هي زوجتي .. وعائلتها عائلتي .. لقد قمت بواجبي ليس أكثر
لم تستطع نانسي النظر إليه وقد طعنتها الكلمة في قلبها .. نعم .. لقد فعل ما فعله باسم الواجب .. حتى زواجه منها كان واجبا فرض عليه
أصر محمود على أن يبقى السيد فوزي في ضيافته خلال وجوده في البلاد رغم اعتراض الأخير .. إلا أنه أذعن في النهاية عندما ألحت عليه الفتاتين
تناولت العائلة العشاء برفقة الضيف وقد بذلت الطاهية جهدا كبيرا في صنع ما لذ وطاب على شرف الضيف .. الذي أثار جوا مرحا على المائدة وهو يحكي مغامراته والأحداث الشيقة التي صادفته هو وزوجته أثناء سفرهما المتواصل
حتى أن ريم النادرة الابتسام كانت تضحك بتقدير للضيف الوسيم والمرح
قادت نانسي خالها إلى غرفته حيث كانت حنان تضع الملاءات الجديدة .. حياها فوزي وقد تذكرها منذ كانت تلهو مع نانسي وهما طفلتان صغيرتان .. وعندما انصرفت التفت إلى نانسي وفتح لها ذراعيه فأسرعت ترمي نفسها بينهما وهي تقول :- مممم ما أروع الرجوع إلى البيت
ضحك وهو يقول :- لا أصدق خروج كلام كهذا من سيدة منزل بهذه الضخامة
قالت بانزعاج :- تعرف جيدا ما قصدته
أبعدها عنه .. ونظر إليها قائلا بقلق :- هل أنت سعيدة يا نانسي ؟
ابتسمت باضطراب قائلة :- ما الذي تظنه ؟ طبعا أنا سعيدة ..
قال :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه قوي الشخصية ومثقف ونبيل .. وهو أيضا رجل أعمال مرموق ومعروف .. أنا متأكد بأنك ستكونين بخير تحت رعايته .. ولكنني أريد أن أسمعها منك .. هل يعاملك بشكل جيد ؟
تمتمت :- بالتأكيد ..
لم ترغب بإثارة قلق خالها بإظهار مخاوفها وشكوكها اتجاه محمود .. أو بالمشاكل التي لا تتوقف بينهما .. ولكنها لم تتوقع أن يقول أبدا :- إذن .. سأكون مطمئنا عندما أعود إلى فرنسا الأسبوع القادم برفقة لينا
شحب وجهها وهي تتراجع إلى الخلف قائلة بارتباك :- ماذا ؟
:- تعرفين بأنني لا أستطيع ترك لينا هنا يا نانسي .. إنها مسؤوليتي الآن .. أنت لديك زوجك وبيتك .. وهي ما تزال طفلة صغيرة بحاجة إلى الرعاية .. أنا وزوجتي سنكون في غاية السعادة لوجودها معنا بعد أن حرمنا الله من الأطفال
قالت بانفعال :- ولكن لينا سعيدة هنا .. إنها تحصل على كل ما تحتاجه وأكثر .. فلماذا تأخذها بعيدا .. أنا أعتني بها كما يجب
نظر إليها بطريقة ذات معنى وهو يقول :- مهما كانت رعايتك لها كبيرة يا نانسي .. فهي لا يمكن أن تعيش تحت رعاية زوج شقيقتها في وجود خالها .. كما أنها ما كانت لتوافق على الذهاب معي لو كانت سعيدة حقا
قالت بصوت مختنق :- هل .. هل تكلمت معها في الموضوع ؟
:- نعم .. عندما كنت تشرفين على إعداد العشاء .. وقد أبدت حماسا كبيرا للفكرة
أمسك بكتفيها ونظر إلى عينيها قائلا :- انظري إلى نفسك يا نانسي .. أنت ما عدت طفلة صغيرة .. لقد أصبحت امرأة .. مسؤولة عن زوج وبيت وأطفال سرعان ما سيأتون إلى الحياة .. أنا الآن مطمئن عليك .. ولكنني لن أرتاح حتى أتأكد بأن لينا أيضا بخير .. وهذا لن يحدث إلا إن كانت تحت رعايتي
فور أن خرجت من غرفة خالها ذهبت نانسي إلى غرفة لينا لتجدها ترسم بشرود وهي جالسة على الأريكة .. أقفلت نانسي الباب ورائها وهي تقول محاولة إجبار نفسها على التزام الهدوء :- ماذا ترسمين ؟
نظرت إليها لينا من فوق دفتر الرسم قائلة :- أحاول رسم أمي .. ولكنني لا أستطيع تجسيد ابتسامتها .. أخشى بأنها لم تبتسم كثيرا في أيامها الأخيرة فنسيت كيف تبدو
جلست نانسي إلى جوارها صامتة للحظات ثم قالت :- لقد تحدث إلي خالنا منذ قليل
اعتدلت لينا قائلة بقلق :- هل حدثك عن سفري معه ؟
اغرورقت عينا نانسي في الدموع وهي تقول :- لماذا يا لينا ؟ .. لماذا تريدين تركي وحدي ؟
أسرعت لينا تقول :- لن أتركك وحدك .. فمحمود معك .. هو سيحميك ويرعاك .. أنت لست بحاجة إلي
قالت نانسي بخشونة :- بل أنا أحتاج إليك .. فقط أخبريني بما يدفعك للرحيل .. لماذا لست سعيدة هنا ؟
نظرت لينا حولها وهي تقول بحزن :- أنا سعيدة بوجودي معك يا نانسي .. ولكنني لا أستطيع منع إحساسي بأنني دخيلة في هذا البيت .. دائما أحس بأنني غريبة في منزل لا يحبني سكانه .. وأنني عالة على محمود مهما كان طيبا وكريما ..
الأمر مختلف معك فأنت زوجته .. وسيدة هذا البيت .. هو دائما سيكون إلى جوارك عند الحاجة .. وأنا لن أشعر بأنني في بيتي حقا إلا إن أقمت مع خالي ..
ابتسمت قائلة :- هل تتخيلين ذهابي إلى هناك .. وزيارتي لمتحف اللوفر .. وتعلمي الرسم في باريس مدينة الفن والجمال .. لقد قال محمود بأنه سيحضرك لزيارتي بين الحين والآخر وأننا لن نشعر أبدا بأننا بعيدتان عن بعضنا
تجمدت نانسي وهي تقول :- هل يعرف محمود بهذا ؟
:- نعم .. لقد أخبرته منذ دقائق .. كنت أخشى أن يغضب .. ولكنه أكد لي بأن هذا البيت سيظل مفتوحا لي دائما إن رغبت بالعودة .. وأنكما ستكونان دائما إلى جانبي عند الحاجة .. أنت محظوظة به يا نانسي .. محمود رجل رائع .. بعد رحيلي ستتمكنين من إصلاح الأمور بينكما .. ولن يشكل وجودي بعد الآن أي ضغط عليك .. وستدركين بأنك تحبين محمود وتعيشين معه لأنك تريدين ذلك .. وليس لأن أختك الصغرى بحاجة إلى مأوى
صمتت نانسي للحظات طويلة قبل أن تقول :- أنت أكثر نضوجا مما ظننت يا لينا
قالت لينا بتهكم وكأنها تؤكد نظرية نانسي :- من يستطيع مقاومة النضوج في ظروف كظروفنا
عانقتها نانسي وهي تقول دامعة :- سأشتاق إليك
تمتمت لينا وهي تبكي :- أنا أيضا سأفتقدك .. وسأفتقد محمود وحنان .. عديني بأنك ستنجبين لي أبناء أخت قريبا
ضحكت نانسي بين دموعها وهي تلكز رأس شقيقتها مداعبة .. إلا أنها وفور خروجها من الغرفة .. تركت العنان لمشاعرها .. وسمحت للدموع بالانهمار فوق وجهها بلا توقف .. اندفعت إلى غرفة المكتب حيث عرفت بأنها ستجد محمود .. واقتحمت المكان قائلة بعنف :- أنت خططت لهذا .. أليس كذلك ؟
وقف محمود تاركا عمله على الحاسوب قائلا بتوتر :- ما الذي تتحدثين عنه ؟
هتفت به :- لقد عرفت بأن خالي سيفكر بأخذ لينا معه .. لهذا بحثت عنه وأحضرته إلى هنا .. تريد أن تحرمني من الفرد الوحيد الذي تبقى من عائلتي .. لماذا .. لماذا تريد أن تكسرني .؟ ما الذي فعلته لك ؟
كانت الهستيريا تتخلل صوتها بينما دار هو حول المكتب متجها نحوها ليمسكها بقوة ويهزها قائلا :- هل جننت يا نانسي .. لماذا قد أرغب بأذيتك ؟ هل تظنين بأن رحيل لينا لا يحزنني أنا أيضا ؟ .. لا تستطيعين منعها من فعل ما تريد .. لو أنني عرفت بأنها ستتخذ قرارا كهذا لما ....
تنهد وهو ينظر إلى وجه نانسي الباكي قائلا :- لقد بحثت عن خالك وأحضرته لك كي تشعري بأنك لست وحيدة يا نانسي .. هناك من يحبك ومستعد للوقوف إلى جوارك ودعمك عند الحاجة .. لقد فعلت هذا لأجلك .. وليس لأحرمك من لينا
أجهشت بالبكاء فسحبها نحوه يضمها بقوة إلى صدره أحست بيديه تربتان على ظهرها وشعرها بحنان وعنما رفعت رأسها ونظرت إليه .. توقف بكائها .. وأجفلت للنيران المشتعلة التي أطلت من عينيه وهو ينظر إلى ملامح وجهها الطفولية .. والدموع التي ملأت عينيها الحزينتين .. أحست برجفة تسري في جسدها وهي تدرك مدى قرب كل منهما من الآخر .. فابتعدت مسرعة وهي تمسح دموعها قائلة :- أنا ذاهبة لأنام
وخرجت مسرعة قبل أن يقول ما يدفعها للبقاء .. وهو ما كانت كل ذرة في جسدها تصرخ متوسلة لها به
الفصل العشرون
ألم لا ينتهي
تركت نانسي أوراقها عندما دوى رنين هاتفها المحمول المرمي إلى جوارها على الأريكة حيث كانت تحاول جاهدة ان تدرس في غرفتها .. ابتسمت عندما لمحت اسم ماهر وأجابت عن المكالمة قائلة :- لا .. لست ندى .. لقد اخطأت الرقم
ساد الصمت للحظات طويلة كادت خلالها تنفجر ضاحكة .. قبل ان تسمع نحنحته المحرجة وهو يقول :- لا .. لم أخطئ الرقم .. كيف حالك يا نانسي .. لقد أصبحت كسولة هذه الأيام بغيابك المتكرر عن الجامعة
كانت تحب إغاظته منذ بدأت الخيوط الوردية تلف علاقته بندى زميلتهما الحسناء الخجول .. ولمعرفتها بأن ماهر أكثر خجلا في هذه الأمور من صديقته تجاهلت الموضوع قائلة :- لا أشعر برغبة في رؤية أحد .. أو حتى الخروج من غرفتي
قال بتعاطف :- أمازلت حزينة بسبب سفر لينا ؟
ابتلعت غصة وهي تتذكر سفر لينا قبل أسبوع .. لقد منعت نفسها بصعوبة من البكاء وهي تودعها في المطار .. لم تبك حتى بعد أن عادت إلى البيت .. اكتفت بحبس نفسها في غرفتها في عزلة عن العالم الخارجي تفكر بمسار حياتها الغريب .. لم تفكر قبل أشهر قليلة بأن الأمر سينتهي بها يتيمة الأبوين ... بلا أخت تؤنس وحدتها وتمنحها الدعم .. متزوجة من رجل لا تعرف مشاعره او نواياه اتجاهها
ما الذي منعها بالضبط من مصارحة خالها بعدم سعادتها في هذا البيت .. والسفر برفقته وبرفقة لينا ؟ .. لا تعرف .. ولكنها حتما لم ترغب بالابتعاد عن محمود وتركه للفتيات المستعدات دائما للحلول مكانها .. الحالة الوحيدة التي ستدفعها للرحيل هي يقينها التام من عدم حبه لها .. أو خيانته لها .. وهو ما لم يحدث حتى الآن .. وهي لن تتحرك من هنا حتى تعرف ما يخفيه عقل زوجها الغامض عنها
تمتمت :- لقد بدأت أعتاد على الامر
:- هل سأراك صباح الغد إذن ؟ الامتحانات على الأبواب .. وعليك تعويض ما فاتك .. سأصور لك محاضرات الأسبوع الماضي طبعا وسأحضرها معي غدا
ابتسمت وهي تتخيل الاخلاص في عينيه البنيتين من الطرف الآخر وقالت ممتنة :- شكرا لك يا ماهر .. لا أعرف حقا ما كنت لأفعله من دونك
انتفضت عندما دوى صوت انصفاق باب الغرفة .. والتفتت نحو محمود الجامد الملامح مما ناقض نيران الغضب المستعرة في عينيه .. تعمدت أن تقول وهي تلاقي نظرات محمود بتحدي :- اتطلع بشوق لرؤيتك صباح الغد يا ماهر .. إلى اللقاء
أنهت المكالمة ونظرت إلى محمود الذي خلع معطفه الثقيل ورماه على السرير بإهمال فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا
قال بجفاف :- نعم فعلت .. لقد ظننت بأن زوجتي الحزينة لفراق شقيقتها بحاجة إلى مواساتي .. لأجد بأن حبيب القلب قد قام بهذه المهمة
وقفت قائلة بحدة :- لا تقل هذا عن ماهر .. لقد سبق وأخبرتك بأننا صديقين فقط
تقدم نحوها وهو يصيح غاضبا :- وقد سبق وأخبرتك بأنني أرفض مصاحبتك له والتسكع معه
قالت بعناد :- لا تستطيع منعي .. أنا حرة وأستطيع فعل ما أريد
قبض على ذراعها فجأة وشدها إليه قائلا من بين أسنانه :- هل تتحدينني يا نانسي ؟
كبتت صيحة ألم سببته لها أصابعه القاسية .. ورفعت عينيها الخضراوين نحوه لتصدم بقربه الشديد منها .. تمكنت من استنشاق رائحة عطره .. بينما تجولت عيناه الغاضبتان فوق صفحة وجهها قبل أن تتوقفا عند فمها الناعم .. لم تخطئ فهم اللهيب الذي حل محل الغضب في نظراته .. المشكلة هي أن اضطرابا غير مرغوبا به بدأ يسري في كيانها .. إذ أخذت نبضات قلبها تتسارع وهي تشعر بحرارة أنفاسه تلفحها ..لا .. لن تسمح لنفسها أبدا بالضعف أمامه
رفعت ذقنها وهي تقول بوقاحة :- ما الأمر ؟ هل ستغتصبني مجددا
توتر فمه وعاد الغضب يكتسح الرغبة في أعماق عينيه الداكنتين .. قست أصابعه حول ذراعها حتى كادت صيحة الألم تفلت من بين شفتيها .. قال ببرود :- حصول ا لرجل على ما هو له لا يسمى اغتصابا
قالت بغيظ :- أنا لم ولن أكون لك أبدا
شدها إليها حتى التصقت به وهو يقول بخشونة :- هل تراهنين ؟
ارتجفت وهي تشعر بقوة عضلات صدره تعانقها .. وذراعيه المحكمتين حولها .. أحست بخدر غريب يلفها وقد سيطرت عليها جاذبيته فلم تستطع دفعه بعيدا .. أما هو .. فقد نظر بقسوة إلى اضطرابها الشبيه باضطراب الفأر العالق في المصيدة .. ثم مط شفتيه بازدراء وهو يقول :- للأسف الشديد .. لا مزاج لدي اليوم لتناول وجبة باردة لا حياة فيها
عندما تركها كانت وجنتاها قد احمرتا غيظا وهي تغمغم بحقد :- أكرهك
ابتعد وهو يقول ببرود :- وكأن مشاعرك نحوي تهمني بأي طريقة .. أظن بأن العمة منار قد أخبرتك عن الحفل الذي يقيمه السيد رفيق محجوب
دلكت ذراعها حيث كان يمسك بها وهي تقول :- طبعا أخبرتني
:- هذا جيد .. اشتري لنفسك ثوبا جديدا ملائما للمناسبة .. فهذا سيكون ظهورنا الأول أمام الناس والمجتمع
غاظتها طريقة كلامه الباردة وكأنه يتحدث إلى مستخدم لا قيمة له لديه .. قالت بتهكم :- أه .. تذكرت بأنك تزوجتني لأشرفك أمام الناس .. أمرك سيدي .. سأشتري ثوبا جديدا وأبدو في أروع مظهر ممكن يليق بسيادتك .. سيدي .. هل من أوامر أخرى ؟
كان قد فتح باب الغرفة بنية الخروج وكأنه لم يعد يحتمل البقاء معها في مكان واحد .. التفت إليها ونظر إليها ببرود شديد وهو يقول :- لا تراهني كثيرا على حسن حظك يا نانسي .. مهما كان صبري طويلا فإنه سينفذ في النهاية
ثم غادر تاركا إياها تفكر بكلماته بقلق .. هي لا تتعمد ابدا إثارة غضبه .. ولكنها تفعل هذا كوسيلة دفاع كلما أحست بنفسها ضعيفة أمامه .. زفرت بقوة وهي تتجه نحو النافذة .. لا مزاج لها لحضور ذلك الحفل .. وأين المتعة في لقاء أشخاص لا تعرفهم يحدقون بها وهو يفكرون بوالدها وبما دفع محمود للزواج منها ؟
رفيق محجوب هو رجل أعمال مرموق .. وصديق قديم للعائلة .. الكل مدعو لحضور الحفل.. العم طلال وزوجته .. ريم وفراس .. وهذا يعني أنها يجب أن تبذل مجهودا مضاعفا في الاهتمام بنفسها كي تثير غيرة ريم وغيرها من الفتيات بينما هي ترافق محمود
على غير عادتها لم تثر فيها الفكرة الحماس .. وتمنت لو تجد عذرا يمنعها من الذهاب .. ولكنها لا تظن محمود قد يمنحها أي عذر خاصة بعد الطريقة التي أغضبته فيها
اختارت للمناسبة ثوبا بلون التوت .. بدا رائعا على بشرتها القمحية الناعمة .. والتف حولها ملفتا النظر إلى جمال وتناسق جسدها النحيل .. كان محتشما بشكل خادع .. فالذراعين وأعلى الصدر والظهر كاملا كان مغطى بالدانتيل الشفاف المطرز بنعومة .. بينما أظهرت التنورة الضيقة والواسعة من الأسفل كالسمكة انسيابية جسدها .. تحلت بالعقد الماسي الذي أعطاها إياه محمود صباح اليوم بلا مقدمات وهو يقول بجفاف بأن الناس ستنظر فورا نحو عنقها وأذنيها ليقيموا حليها وإن كانت ملائمة لزوجة محمود فاضل أم لا
زينت أذنيها بالقرط الماسي الذي تدلى ملفتا النظر إلى عنقها الطويل الرشيق .. ثم تبرجت ببراعة وصففت شعرها على شكل تاج صغير تدلت منه خصلات ناعمة التفت حول وجهها
بدت رائعة .. بل مذهلة الجمال .. تاقت لتعرف رأي محمود بها .. ولكنها تعمدت أن ترتدي ملابسها في الحمام وتتأخر حتى تتأكد من خروجه كي تجعل مظهرها مفاجأة له
ارتدت معطفها الجميل المحلى بالفراء .. وخرجت من غرفتها وهي تتهادى فوق حذاء مذهل عالي الكعبين
كان محمود في انتظارها في البهو برفقة عمه وفراس وقد ارتدى كل منهم حلة كاملة شديدة الأناقة فبدا الثلاثة بهجة للنظر .. اما محمود فقد بدا رائعا وشديد الوسامة وهو ينظر إليها خلال نزولها الدرج ببطء .. لم ير شيئا من فستانها بعد .. إلا ان عيناه تعلقتا بوجهها الجميل المتورد مما جعلها ترتعش خجلا
السيدة منار كانت جاهزة أيضا بفستان كلاسيكي أسود في غاية الاناقة .. نظرت إلى الساعة قائلة بنزق .. ستؤخرنا ريم كالعادة
دوى صوت ريم من الأعلى يقول :- انا جاهزة .. لا داعي لمزيد من التذمر
إن كانت نانسي تخبئ تأثير مظهرها حتى وصولها إلى الحفلة .. فإن ريم كانت بالعكس منها .. تمسك بمعطفها بيدها .. وتسير متمايلة بفستان رائع الجمال .. بزرقة داكنة .. عاري الصدر والذراعين .. أظهرت تنورته القصيرة جمال ساقيها الطويلتين
نظرت إلى محمود بدلال وهي تخاطب والدها :- انا جاهزة يا أبي .. لنذهب قبل أن نتأخر
ثم نظرت إلى نانسي مبتسمة بلؤم :- لا اطيق صبرا للوصول إلى الحفلة .. لدي إحساس بانها ستكون حفلة الموسم
رفعت نانسي رأسها وبادلتها نظرات التحدي وهي تتأبط ذراع محمود قائلة بنعومة :- هل نذهب ؟؟؟
قال بحزم :- هيا بنا
طبعا استعملت العائلة سيارتين .. واتجهت نحو مكان إقامة الحفلة في أحد أكبر فنادق المدينة .. صالة الاحتفال كانت واسعة للغاية وفي غاية الفخامة .. وقد زينت باحترافية من قبل خبير .. فور أن خلعت معطفها انصبت نظرات الآخرين عليها .. لم يستطع محمود إزاحة عينيه عن جسدها الملفوف في القماش ذي اللون المثير .. وقد أطلت من عينيه نظرة قالت الكثير رغم صمته الثقيل .. لفتا الأنظار فور دخولهما الصالة حيث أسرع السيد رفيق يحييهما برفقة زوجته الجميلة ذات الشعر المصبوغ .. التي رحبت بمنار وريم بحرارة .. بينما حيت نانسي بتحفظ وهي تهنئها على الزواج وتتأملها بفضول شديد .. كان على نانسي أن ترسم على شفتيها ابتسامة باردة وهي تتلقى نظرات الناس التي لاحقتها أينما ذهبت .. الرجال لم يتوقفوا عن التحديق في جمالها الغريب .. والنساء في تقييمها بالنظرات والهمسات .. بل أنها سمعت اسم والدها أكثر من مرة .. قالت زوجة السيد محجوب وهي تهنئ محمود :- مبارك يا محمود .. ليت والدتك كانت موجودة لتقابل عروسك الجميلة .. نسرين هنا في مكان ما وسترغب في رؤيتك بالتأكيد .. هي أيضا متحمسة للقاء عروسك
تجمدت نانسي وأحست بالهواء يقل من حولها .. نسرين هنا .. لماذا ؟ هل هي ابنتهما ؟ لماذا لم يخبرها محمود ؟.. ولماذا يخبرها إن كان لا يعرف بأنها قد أخذت فكرة مسبقة من ريم عن علاقته بها ؟
لم يظهر أي رد فعل عليه وهو يقول باسما :- سأراها لاحقا بالتأكيد
أما ريم فقد ابتسمت بتشفي مما جعل نانسي تعرف سبب تشوقها لحضور الحفلة .. أمسك محمود بمرفقها وجذبها إلى داخل القاعة قائلا :- ما الأمر ؟ تبدين شاحبة ؟
تمتمت بتوتر :- أنا قلقة فحسب .. فأنا لا أعرف أحدا بينما يعرفك الجميع ويسرع للترحيب بك بينما يجبرون أنفسهم حتى على النظر إلي
نظر إليها متفحصا وهو يقول :- أنت زوجتي .. ومن يعرفني يجب أن يعرفك شاء أم أبى .. أنا متأكد بأنك واهمة .. لقد وصلنا للتو وها أنت تسمحين لشبح فضيحة والدك بإفساد وقتك
منعت نفسها بصعوبة من اطلاعه على السبب الحقيقي لتوترها .. فهي ستقابل الفتاة التي كان من المفترض بمحمود أن يتزوجها .. إن كانت خطيبته كما قالت ريم وقد أخلف بوعده بالزواج من أخرى فلم يظهر الغضب أو الانزعاج على والديها وهما يرحبان به .. نفورهما كان موجها نحوها فقط
سرعان ما بدأ معارف محمود بالتوافد لتهنئته والتحدث إليه حول العمل والسياسة كعادة الرجال .. بينما بدأت النساء بتقبلها والاندماج مع خلفيتها الارستقراطية التي جعلتها واحدة منهن رغم سمعة والدها .. العقد الماسي المحيط بعنقها قد قام بفعله وأسال لعابهن وجعل الاحترام يقفز فورا ليغلف معاملتهن لها .. لقد كان محمود محقا في فهمه للمجتمع
كانت تتحدث إلى سيدة مسنة .. تومئ لها بصبر متظاهرة بالاستماع حتى أحست بأنها أصبحت بعيدة عن محمود .. اعتذرت للسيدة وقد وجدت أخيرا عذرا يمكنها من الفرار .. ثم أخذت تبحث بعينيها هنا وهناك عن زوجها حتى وجدته واقفا برفقة صاحب الدعوة ورجل آخر .. يتبادلون حديثا جديا فأخذت تراقبه وتتأمله بشغف من بعيد .. متعجبة من نفسها .. كيف غفلت يوما عن وسامته الشديدة وجاذبيته الفياضة .. كيف تتلمذت على يديه لسنوات دون أن أقع في حبه ؟ هل كنت عمياء وأنانية إلى حد العجز عن رؤية أي شيء غير نفسي في تلك الفترة ؟
اقتحمت فتاة الجمع الرجالي فجأة وهي تقول شيئا وهي تضحك أثار ضحك الرجال .. نظرت إلى محمود وكلمته بحرارة وكأنها تعرفه منذ فترة طويلة .. بينما رد عليها هو بعفوية جعلتها تتأبط ذراعه بدلال وهي تحدث السيد رفيق
خفق قلب نانسي بقوة .. أحست بأطرافها باردة للغاية وهي تحدق في الفتاة الحسناء .. كانت شديدة الجمال ببشرة سمراء ناعمة لا شائبة فيها .. وشعر شديد السواد انسدل خلف ظهرها بحرية .. كانت ترتدي ثوبا أبيضا احتضن قوامها الأنثوي بإحكام مظهرا تفاصيله .. من تكون هذه المرأة ؟ هل هي .. ؟
لم تكن بحاجة إلى مزيد من التساؤل .. فقد سمعت صوت ريم يقول من خلفها .. :- لماذا تقفين وحيدة يا عزيزتي ؟
تلقائيا نظرت إلى حيث تحدق نانسي المتوترة .. ثم ابتسمت بخبث قائلة :- رأيت نسرين إذن .. ما رأيك بها ؟ جميلة .. صحيح ؟.. تعتبر نسرين من أشهر فتيات المجتمع الراقي وأكثرهن جمالا وثراءا .. أرجو ألا تشعري بالتهديد منها
قالت نانسي بتوتر :- ولماذا علي أن أفعل ؟
تجاهلت ريم سؤالها .. ونظرت إلى محمود ونسرين الذين أصبحا وحيدين فجأة وقالت :- ألا يبدوان جميلين معا ؟ .. يليق كل منهما بالآخر وكأنه قد خلق له
ثم نظرت إلى نانسي قائلة بتشفي :- ألم تدركي يا عزيزتي حتى الآن بأنك سخرية الحفل ؟ الكل يعقد المقارنات بينك وبين نسرين .. الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها .. لا أستطيع أن أحسدك بعد الآن ...فكل ما أشعر به اتجاهك هو الشفقة يا نانسي
تركتها وفي عينيها بريق الانتصار .. وعادت إلى مجموعة من الفتيات انفجرن في الضحك فور بدأت ريم بالكلام وهن ينظرن إلى نانسي المجروحة .. كالعادة كان غضبها هو وقود قوتها .. فوجدت نفسها تسير نحو محمود ورفيقته التي كانت تقول له شيئا وفي عينيها نظرة عتاب مغناج .. قطع رده الهادئ فور أن رأى نانسي القادمة نحوهما .. لاحظ على الفور نظرة عينيها التين امتلأتا بدموع الغضب .. فأسرع يقول وهو يمد لها ذراعه :- أين كنت يا نانسي ؟ لقد بحثت عنك طويلا ..
آه .. نعم .. وأنا أستطيع الطيران .. :- أقدم لك نسرين .. إنها ابنة السيد رفيق
قالت نسرين وهي تبتسم لنانسي ببشاشة :- سررت لمعرفتك يا نانسي .. لقد سمعت عنك الكثير .. ليس من محمود بالطبع فهو شديد التكتم لابد وأنك قد عرفت هذا بنفسك بعد أشهر من الزواج
العبارات المبتهجة لم تخدعها .. والمعنى الخفي لم يفتها كما لم يفتها توتر محمود عنما قالت نسرين بدلال :- ابنة السيد رفيق !! تقولها وكأننا غريبين يا محمود .. وكأننا لا نعرف بعضنا جيدا منذ فترة طويلة
ثم عادت تنظر إلى نانسي التي يكاد الغيظ يأكلها ..وقالت :- لقد كنت أعاتب محمود لتوي على إخفائه إياك عن الجميع .. لا أعرف حقا سبب إقدامه على هذا .. فأنت حلوة للغاية .. وأظن بأننا سنكون صديقتين
في أحلامك .. ابتسمت نانسي وهي تقول ببرود :- بالتأكيد
أمسكت نسرين بذراع محمود وهي تقول لنانسي :- سأسرق منك محمود قليلا .. فأخي يبحث عنه منذ فترة لبحث موضوع معين معه .. أنت لا تمانعين .. صحيح
قالت نانسي مبتسمة ببرود :- على الإطلاق ..
لاحظ محمود الغضب البارد تحت القشرة الهادئة لنانسي .. فخاطب نسرين قائلا :- سألحق بك بعد قليل
رفرفت الفتاة له بعينيها قبل أن تبتعد وهي تتمايل بدلال جعل دماء نانسي تفور .. قال لها :- هل من مشكلة ؟ تبدين غاضبة ؟
لا والله لن تفرحه بإظهار الغيرة القاتلة التي تشعر بها .. ابتسمت قائلة بفتور :- ولماذا أغضب ؟ أنا أشعر بالملل فقط
بدا الاعتذار على وجهه وهو يقول :- أنا آسف لأنني قد تركتك وحيدة .. لدي الكثير من المعارف والشركاء بين الحضور .. أعدك بأن أتفرغ تماما لك بعد دقائق
قالت بابتسامة جامدة :- لا تقلق .. سأكون بخير .. كما أن ريم تقوم بواجبها في تسليتي كما يجب
عبس قائلا :- ماذا تقصدين ؟
قالت بابتسامة حلوة :- أقصد ما فهمته يا زوجي العزيز .. من الواضح أنك تعرف ابنة عمك جيدا لتقدر مدى استمتاعها بهذا الحفل .. إنها ترغب بمشاركتي في متعتها فقط
ارتفع صوت نسرين ينادي محمود عبر القاعة المزدحمة .. فنظر إليها بنفاذ صبر وهو يقول لنانسي :- سنتحدث لاحقا .. وستفسرين لي كلامك
ابتعد تاركا إياها .. فانزوت في مكان بعيد وهي تحتسي كوبا من العصير قدمه لها أحد المضيفين .. كانت تشعر بالحزن والاكتئاب في مكان ممتلئ بأشخاص يكرهونها .. أحست بالصغر وانعدام الثقة بالنفس وهي تفكر بنسرين .. تلقائيا بحثت عنها بعينيها لتجدها كما توقعت تكاد تلتصق بزوجها المنهمك في الحديث مع شاب يشبه نسرين قليلا .. تأملت الفتاة مليا وهي تتذكر كلمات ريم .. (الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها)
ما الذي يميزها عنها .. فنانسي لا تقل عنها جمالا .. إنها تفتقر فقط لامتلاك جسد ناضج الأنوثة كجسد نسرين .. جسد امتلأ بالمنحنيات والارتفاعات الواضحة عبر الفستان الضيق .. والمحملة بدعوة صريحة لأي رجل
كزت على أسنانها بغضب وقد أعمتها الغيرة .. لا .. محمود لا يهتم لهذا النوع من الجمال وإلا ما كان تزوج بها هي .. ولكنه أيضا تزوج بها ليساعدها في تخطي مشاكلها وليس لأنه مغرم بها
.. انصرف الشاب تاركا محمود ونسرين وحدهما .. التفتت نسرين نحوه وأخذت تتحدث إليه وهي تمرر أصابعها ذات الأظافر المطلية فوق سترته السوداء الأنيقة وهي تقول شيئا .. بينما تتبع هو لمستها بعينيه ثم عاد ينظر إليها
أحست نانسي وكأن يدا ثقيلة تهوي على وجهها .. بالكاد لاحظت نظرات الناس إليها .. وقهقهة ريم وصديقاتها وهي تندفع كالعمياء نحو أقرب مخرج أوصلها إلى الشرفة .. كان البرد شديدا ولكنها بالكاد أحست به
تفجرت دموعها وسالت كالأنهار فوق وجنتيها وشهقاتها تتعالى بانهيار .. أحست بأنها تختنق .. وبرغبة عارمة بأن تموت الآن عل شيئا من ألمها يزول ويختفي .. علها تنسى ما رأته قبل لحظات
لقد كانت نسرين تقف إلى جوار محمود على بعد مسافة منه .. مظهرهما ما كان ليوحي بأي شيء لولا أن نانسي رأت بوضوح النظرة التي ارتسمت في عيني محمود وهو ينظر إلى نسرين
لقد كانت نظرة مفعمة بالرغبة .. الرغبة الخالصة ..
تلك النظرة التي رأتها ليلة حصل محمود عليها .. أحست وهي تتذكرها بطعنة نجلاء تشق قلبها إلى نصفين ... لماذا .. لماذا ؟
تعالى نشيجها وهي تشعر بالألم ينخر في صدرها بلا رحمة .. لقد قتلتها تلك النظرة .. فهي لم تكن مجرد نظرة .. لقد كانت اعترافا .. اعترافا بحقيقة العلاقة التي ربطت بين محمود ونسرين فيما مضى .. اعترافا بأن في قلب محمود مشاعر جياشة نحو نسرين .. اعترافا بأنه لم يحبها يوما .. وإلا ما كان انجذب لغيرها بهذه السهولة
أحست بالغضب الشديد .. بالقهر والإذلال .. عاد إليها ذلك الشعور يوم عرفت بأن محمود هو من أنقذها .. الشعور بأنها واجب حمله محمود فوق ظهره دون أن يرغب ..
ارتفع رنين هاتفها من داخل حقيبتها الصغيرة .. أهملته إلا أنه عاد للرنين بإصرار .. فأخرجته بيد مرتعشة مدركة تماما هوية المتصل .. فور ردها كان صوته يهتف بغضب :- أين أنت يا نانسي بحق الله ؟ أبحث عنك منذ نصف ساعة
هتفت بعنف :- ما الذي تريده مني ؟ لا أريد أن أراك أبدا
.. في ظروف أخرى كان ليرد على ثورتها بعنف .. إلا أنه لاحظ البكاء في صوته.. قال بتوتر :- هل أنت تبكين ؟ ما الذي حدث ؟
وكأنها كانت في انتظار سؤاله لتجهش في البكاء فقال بحدة :- أين أنت ؟ أخبريني الآن أين أنت بالضبط ؟
وجدت نفسها تخبره تحت إلحاحه .. وإذ به ينهي المكالمة فورا .. حاولت تمالك نفسها كي تستعيد شيئا من قوتها أمامه ولكنها لم تستطع .. نظرة عينيه وهو يلتهم منحنيات جسد نسرين الفاتنة كانت تذبحها في الصميم
وعندما سمعت صوت زجاج الباب يزاح .. وصوته يقول :- البرد قارص أيتها المجنونة .. هل تنوين قتل نفسك ؟
ضغطت أصابعها على زجاج الكأس بقوة جعلتها تتحطم في يدها فأسرع نحوها ليمسك بمعصمها وهو يشتم ويحاول إبعاد الشظايا عن يدها الدامية ثم يخرج منديلا من جيبه ليحيط جرحها به وهو يقول :- متهورة كالعادة وبحاجة إلى وصي يلاحقك كظلك
عندما نظر إلى وجهها لاحظ انهيارها وارتعاش جسدها الشديد فهتف من بين أنفاسه :- رباه .. ما الذي حدث لك يا نانسي؟
عادت تبكي بنفس الحرقة فأسرع يخلع سترته ويضعها حول كتفيها المرتعشين وهو يقول بوجوم :- سأتحدث إلى السيد رفيق كي نرحل حالا دون ضجة أو لفت للأنظار .. انتظريني هنا لأحضر لك معطفك
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك