رواية عندما تنحني الجبال -4
استدار مبتعدا تاركا إياها وحدها .. ترتعش من البرودة الشديدة التي أحست بها فجأة .. جلست على المقعد الخشبي القريب .. وحاولت التفكير بالحديث الذي دار بينهما قبل لحظات .. لا تستطيع فعلا أن تصدق بأن الدكتور محمود قد عرض عليها الزواج به لتتخلص من مشاكلها .. أيظنها مادية إلى هذا الحد ؟
إنه يعرف بأنها لا تملك خيارا آخر .. خاصة وأنه سيتكفل بمصاريف العلاج مهما كان ردها .. هي حقا لا تعرف شخصا آخر ليساعدها في حل مشاكلها .. حتى ماهر أعز أصدقائها لن يتمكن من مد يد المساعدة لها .. فوالده توفي منذ سنوات .. وهو المسؤول عن أمه وأختيه .. ومصدر دخلهم الذي تركه والده بالكاد يغطي احتياجاتهم .. حتى أن ماهر يعمل بدوام جزئي كي يغطي مصاريفه الشخصية .. ماذا عليها أن تفعل إذن .. هل ترفض عرض محمود وتشاهد أمها ولينا تعانيان مجددا من الحياة البائسة .. هل تحرمهما من الفرصة الأخيرة لحياة كريمة في ظل حماية رجل كمحمود
هو يخيفها نعم .. ولكنه كان دائما شخصا جديرا بالثقة مع والدتها ولينا .. وبغض النظر عما يثيره بها من شعرور بعدم الارتياح ..بالخوف من نظراته وطريقة كلامه معها .. من الرعشة التي تصيبها كلما لمسها .. فعرضه مغري للغاية
أخفت وجهها بين يديها المرتعشتين .. ثم نهضت عائدة إلى المستشفى .. يجب أن تتخذ قرارها بأسرع وقت ممكن .. فليس لديها الوقت لتضيعه كباقي الفتيات .. فهي لم تكن يوما مثل أي فتاة
بعد ساعات قالت مخاطبة حنان .. هل أنت متأكدة من الرقم ؟
ردت عليها حنان :- بالطبع .. لقد أعطاني رقم الهاتف هذا كي أتصل به في حال حدث أي طارئ
حسمت نانسي أمرها وطلبت الرقم بأصابع مرتعشة .. رفعت هاتفها إلى أذنها وانتظرت للحظات حتى أتاها صوته الحازم :- نانسي
لم تستغرب معرفته لها .. فهو يحتفظ برقم هاتفها وكأنه كان في انتظار اتصالها .. أخذت نفسا عميقا وهي تقول :- لقد اتخذت قراري يا دكتور محمود .. وأظننا بحاجة للتحدث في التفاصيل
ساد الصمت للحظات قبل أن يقول :- سأصل إلى المستشفى خلال دقائق
أنهى المكالمة فزفرت نانسي بقوة .. والتفتت نحو حنان قائلة :- لا أدري إن كان قراري صحيحا أم خاطئا يا حنان .. أخشى أن أكون قد ارتكبت خطأ كبيرا
أسرعت حنان تقول بحماس :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه وسيم ومثقف ومهذب .. أي فتاة تتمنى الزواج به .. أنا متأكدة بأنه سيحميك ويهتم بك جيدا
تمتمت نانسي متوترة ك- ولكنني خائفة يا حنان .. هناك شيء في الدكتور محمود يخيفني .. إنه إحساس غريب بأنه يخفي شيئا .. أنا فعليا لا أعرف أي شيء عنه
لم تكن حنان تمتلك ردا على مخاوف نانسي فالتزمت بالصمت
بعد نصف ساعة .. خرجت من الزيارة القصيرة التي سمح بها الطبيب لغرفة أمها وهي تشعر بالاختناق .. ألقت نفسها على أول مقعد تراه غير قادرة على محاربة الأفكار السوداوية التي لا تنفك تهاجمها .. رأت محمود يجلس برفقة لينا في الواوية يتحدث غليها برفق وهو يعرض عليها كتاب ما ... بينما ظهرت البهجة على لينا .. لانت ملامح نانسي .. على الأقل استطاع الترويح عن لينا قليلا .. شعر بوجودها فرفع إليها عينيه ملقيا عليها نظرة طويلة لم تفهمها .. اعتذر من لينا واقترب منها قائلا :- كيف هي والدتك ؟
قالت متوترة :- على حالها كما تعلم
نظرت إلى لينا قائلة :- تبدو لينا سعيدة
ابتسم قائلا :- أحضرت لها كتابا عن أشهر رسامي عصر النهضة
غمغمت :- أشكرك لأنك لطيف معها
نظر حوله قبل أن يقول بنفاذ صبر :- أين ترغبين بأن نتحدث ؟
أدهشها توتره .. فقالت :- سأدعوك إلى فنجان قهوة في الكافيتيريا
هز رأسه موافقا .. وسار معها إلى الكافيتريا الواقعة في الطابق الأول من المشفى .. جلست أمامه تنتظر أن تجد كلمة تبدأ فيها الحديث .. كانت دون وعي منها تفرك يديها فوق الطاولة الصغيرة مفصحة عن توترها .. غير شاعرة بنظراته تلاحقها وتلاحظ أدق تفاصيل اضطرابها .. أجفلت عندما أمسك بيدها قائلا بهدوء :- ما من داعي لكل هذا التوتر يا نانسي.. الأمر أسهل مما تتخيلين
سحبت يدها بسرعة قائلة :- أشك بهذا
قال بهدوء :- لم أتوقع أن أحصل على ردك سريعا بهذا الشكل
قالت بجفاف :- لقد كنت مقنعا للغاية .. فلم تأجيل المحتوم
هز رأسه موافقا قبل أن يقول :- حسنا .. ما الذي أردت الاستفسار عنه
قالت بحزم :- أريد أن أعرف ما ينتظر عائلتي بالضبط
قال بجدية :- ما إن تتماثل أمك للشفاء حتى تنتقل هي ولينا للعيش في منزلي .. وحنان أيضا ستجد هناك عملا بأجر محترم .. أمك ستكون بمثابة والدة لي .. وسيدة للبيت إن شاءت .. لينا سوف يتوفر لها الأمان اللازم وسوف تعود لمتابعة الدراسة في اي مكان تطلبه .. وستكون أختا صغرى لي ولن ينقصها أو ينقص أي أحد من عائلتك شيئا ماديا أو معنويا
عجزت عن التعليق أمام سخاءه .. فتمتمت :- أريد أن أعرف المزيد عنك .. فأنا أجهل عنك الكثير
قال بهدوء :- تعرفين اسمي كاملا وعملي في الكلية يا نانسي .. غير هذا فقد ورثت أعمالا مختلفة عن والدي الذي توفي مع والدتي في حادث قبل سنوات طويلة .. تولى عمي العناية بي بعدها رغم بلوغي الثامنة عشرة .. فقد ساعدني على اكمال دراستي في حين استلم هو جميع مصالح أبي حتى أصبحت قادرا على تحمل مسؤوليتها بنفسي .. هل تريدين معرفة المزيد ؟
قالت بجفاف :- أريد أن أعرف إلى متى سيستمر زواجنا
برقت عيناه بغضب .. مال رأسه نحوها وهو يقول ببرود :- عندما أتزوج .. فأنا أتوقع أن يدوم هذا الزواج .. أنا لا أتسلى يا نانسي
احمر وجهها بحرج وهي تنظر بعيدا عنه .. إلا أنه مد يده عبر الطاولة وأمسك بذقنها ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي جيدا يا نانسي عندما أكلمك .. فأنا أيضا لدي شروط عليك معرفتها .. بعد زواجنا ستعودين فورا لمتابعة دراستك من حيث توقفت
حاولت أن تتحداه بنظرتها العنيدة .. ولكن القوة في عينيه اكتسحتها وتركتها عاجزة عن قول أي شيء عندما قال بقسوة :- كما أنني أتوقع منك تلبية كل رغباتي يا نانسي ..أتفهمين ؟
تركزت نظراته على شفتيها مما جعلها ترتعش وتبتعد عن أصابعه القاسية .. اعتدل في جلسته قائلا بجفاف :-
سآخذ أوراقك الشخصية كي يتم الزواج في بداية الأسبوع القادم .. غدا صباحا سوف تجرى العملية للسيدة مريم .. وأريد أن تختفي جميع مخاوفها فور صحوتها من التخدير ومعرفتها بزواجنا
استأذن منها وغادر بعد أن ألقى ثمن القهوة على الطاولة أمامها .. شعرت بالغضب الشديد من غطرسته وتعاليه عليها .. ثم أكدت لنفسها بأن محمود فاضل لا يهمها .. ما يهمها هو شفاء والدتها .. وتوفير الأمان للينا
وهي مستعدة لدفع أي ثمن لتحقيق هذا .. إلا أنها لم تستطع منع رجفة الخوف التي اجتاحتها وهي تتخيل الثمن الذي ستضطر لدفعه
الفصل العاشر
لن تملكني
صباح اليوم التالي ادخلت السيدة مريم إلى غرفة العمليات .. لم تتوقف نانسي عن السير في الخارج ذهابا وإيابا بقلق وتوتر .. بينما كان وجه لينا شاحبا وهي تطلق نشيجا بين لحظة وأخرى .. حتى فقدت نانسي اعصابها قاستدارت نحوها وهي تصيح بانفعال :- توقفي عن البكاء يا لينا
إلا ان قولها هذا جعل لينا تزداد بكاءا .. فابتعدت نانسي محاولة ألا تتصرف بتهور ..
وقفت بعيدا تحاول استجماع قوتها الضائعة .. وتركت دموعها تسيل في غياب الشهود .. شعرت بحاجة كبيرة لوجود محمود .. فقد اعتادت على ان يكون هو الجدار الذي يستندون إليه في هذه المحنة .. يا إلهي .. هاهي تبدأ بالتفكير كالخطيبة المشتاقة لوجود خطيبها
سمعت صوتا مألوفا يصيح بدهشة :- نانسي !!
استدارت نحو ماهر الذي قطع المسافات إليها فمسحت دموعها وهي تقول بارتياح لرؤيته :- ماهر .. ما الذي تفعله هنا ؟
:- أجرت خالتي عملية مرارة منذ يومين .. وقد قدمت لزيارتها ..
نظر إليها بعتاب قائلا :- لقد اختفيت فجأة يا نانسي دون أن تتركي أثرا .. لقد قلقت عليك حتى كدت أفقد عقلي
تمتمت :- أنا آسفة يا ماهر .. كنت مضطرة للرحيل فجأة
قال بقلق :- لا بأس .. أنا متأكد بأنك امتلكت الأسباب الكافية للرحيل .. ولكن .. ماالذي تفعلينه هنا ؟ هل أنت بخير ؟
قالت بشحوب :- إنها أمي يا ماهر .. تجري عملية خطرة في هذه اللحظة قد لا تنجو منها
ذعر وهو يمسك يدها بقوة :- يا إلهي .. لماذا لم تخبريني بهذا كي أقف إلى جانبك في محنتك ؟
أتاهما صوت صارم يقول :- صباح الخير
استدارت نانسي لتجد محمود وقد كسا وجهه الوجوم وهو يحدق بأيديهما المتشابكة .. فأفلتت يدها بسرعة بينما قال ماهر :- صباح الخير يا دكتور محمود .. إنها صدفة جميلة أن نلتقي
رد محمود بجفاف :- بالفعل
ثم نظر إلى نانسي قائلا :- كيف هي أمك الآن يا نانسي ؟ هل من أخبار ؟
قالت متوترة :- لا أخبار حتى الآن
قال :- لم أستطع الحضور قبل الآن .. لقد شغلني طارئ ما
عقد ماهر حاجبيه وهو يراقب ما يحدث .. ثم قال بحذر :- أرى أن الدكتور محمود على علم بكل شيء .. لم أعلم بأنكما تتقابلان
قال محمود بهدوء :- من الواضح بأنك لم تخبري ماهر بعد بزواجنا القريب يا نانسي
بدت الصدمة على ماهر وكأنه قد تلقى لتوه صفعة قاسية .. بينما أغمضت نانسي عينيها بقوة .. لم ترد إخباره بهذه الطريقة
قال محمود :- سأذهب لأطمئن على لينا .. بالإذن
ابتعد تاركا إياهما كل منهما يحدق في الآخر .. لاحظت نانسي ذلك التعبير الذاهل والمستنكر في عيني ماهر البنيتين .. قال بعدم تصديق :- لا أصدق حقا بأنك ستتزوجين به
قالت بعصبية :- ولم لا تصدق يا ماهر .. هل في الزواج ما يعيب .. أم أن اعتراضك يشمل الدكتور محمود نفسه ؟ .. ألم يكن يوما صديقك ؟
قال بحدة :- لقد كنت تكرهينه يا نانسي .. بل ما كنت تطيقين سماع اسمه .. هل تدعين بأن مشاعرك قد تغيرت فجأة وأنك قد وقعت في حبه رأسا على عقب
قالت بتوتر :- بالطبع لا .. إنه فقط .
..قاطعها وكأنه لم يسمع ما تقول :- أم أنك بعت نفسك له في مقابل أن يعيد إليك مجدك القديم ؟
صاحت بغضب :- ماهر
إلا أنه تابع بلهجته القاسية .. وصراحته المعهودة :- أليست هذه هي الحقيقة ؟ لم أفكر أبدا كم كان الدكتور محمود محقا عندما صارحته بقلقي نحو غيابك المفاجئ .. لقد قال حرفيا بأنك آخر فتاة تستوجب القلق عليها .. وأنك كالقطة عندما تقعين .. فإنك تقعين على قوائمك دون أذى .. وأنك على الأرجح تبحثين عن زوج ثري يغرقك بأمواله وينتشلك من وضعك الحرج .. لا أصدق بأنني قد دافعت عنك ذلك اليوم واثقا بأنك من الكبرياء بحيث ترفضين بيع نفسك لرجل .. ولكنني كنت مخطئا .. فها قد فعلتها وبعت نفسك ولمن .. للدكتور محمود .. لا أظن بأنني قد عرفتك يوما يا نانسي .. الصديقة التي احترمتها كثيرا لم تكن بهذه السطحية والمادية .. لم تكن تقبل بأن ترخص نفسها بهذا الشكل حتى لو ماتت جوعا
صرخت بألم :- اخرس .. لا أريد أن أسمع شيئا
سدت أذنيها بقوة وأشاحت بوجهها بعيدا عنه .. وعندما عادت تنظر إليه كان قد اختفى .. عادت إلى حيث وقف محمود يحيط بلينا بين ذراعيه .. ويتركها تبكي على صدره .. رفع عينيه إلى نانسي دون أن يقول حرفا .. ولكن الوميض القاسي في عينيه جعلها تستشيط غضبا ..
شعرت فجأة بالحقد الشديد اتجاهه لأنه تسبب بفقدانها أعز أصدقائها .. هي الآن حقا لا تملك معينا سواه .. لقد حاصرها تماما هذه المرة .. كما أنها كرهته بشدة لاعتقاده بأنه قد اشتراها .. ماهر لا يكذب أبدا .. وما قاله يجب أن يكون قد حدث فعلا .. اتخذت قرارا حاسما داخلها .. ستتزوج الدكتور محمود .. ولكنها أبدا لن تكون إحدى مقتنياته
الفصل الحادي عشر
عرين الأسد
توفيت السيدة مريم بعد مرور ساعات على بدء العملية .. أخذت نانسي تتذكر ما حدث بينما هي تقف أمام نافذة الشقة التي استأجرها لهن محمود .. والتي تقيم فيها مؤقتا برفقة لينا وحنان منذ 4 أسابيع
لقد كانت صدمتها عنيفة عندما أعلن الطبيب النبأ بأسف .. أمسكها محمود بقوة كي لا يختل توازنها وقد شحب وجهه .. ثم شدها إليه هي ولينا لتبكيا على صدره
تنهدت وهي تتأمل المدينة من النافذة .. محمود كان يتصل بها كل يوم ليسأل عنها وعن لينا . ويزورهن باستمرار .. ولم يفتح موضوع الزواج إلا الأسبوع الماضي .. لقد كان حازما وهو يتحدث عن أن الوقت قد حان لتركهن هذه الشقة وانتقالهن إلى منزله في العاصمة .. وأنهما يجب أن يعقدا قرانهما على الفور كي يتم تنفيذ مخططه .. ذلك اليوم حرضها وازع شيطاني على أن تأخذ شقيقتها وتختفي عن الأنظار هربا من قبضته و زواجها المرتقب منه .. ولكن الجزء العقلاني منها حدثها عن سهولة إيجاده لها ..وسألها بصراحة عما ستفعله وحدها في هذا العالم الواسع مع مراهقة صغيرة بحاجة إلى الاهتمام والحماية .. أما عن الجزء المتكبر والفخور فيها .. فقد ذكرها بأنها تدين للدكتور محمود بالكثير .. وأنها لن لن تهرب أبدا من وعد قطعته .. أو دين ترتب عليها ..
وهكذا .. مر عليها صباح اليوم التالي .. وأخذها إلى المحكمة لعقد قرانهما برفقة شاهدين من معارفه .. خمنت بأنهما يعملان لديه من لهجة الاحترام الطاغية على حديثهما معه
أعادها إلى الشقة دون أن يخاطبها بكلمة ... بل هو لم ينظر إليها حتى ترجلت من السيارة فقال لها قبل أن تخرج :- سأعود إلى العاصمة هذا المساء .. وسأعود لأخذكن قريبا إلى بيتكن الجديد
أومأت نانسي برأسها .. وراقبته وهو يبتعد ببساطة وكأنه لم يودع عروسه لتوه بعد نصف ساعة من زواجهما
لقد أصبحت زوجة محمود فاضل .. فركت نانسي ذراعيها وهي تفكر متوترة بأنه بالكاد كلمها خلال الأيام الماضية .. لم تختلف طريقة كلامه معها على الإطلاق بعد زواجهما .. ولكن ما الذي كانت تنتظره ؟
هذا الزواج المشؤوم ليس إلا صفقة بشعة ضمنت فيها الحصول على الأمان لأختها .. كما ضمن هو زوجة يرغبها
لن تنتظر منه عرضا للمشاعر لأن الدكتور محمود ليس من النوع المنافق .. لن يظهر لها مشاعر لا يحس بها مما يريحها .. فهو لن ينتظر منها في المقابل أن تتظاهر بحبه أو بالإعجاب به
طرقت لينا الباب وهي تقول :- نانسي .. لقد اتصل محمود منذ لحظات .. وقد طلب مني إخبارك بأنه علينا توضيب أغراضنا لأننا سنترك هذه الشقة صباح الغد
التفتت نانسي غليها بحدة قائلة :- إلى أين ؟
هزت لينا كتفيها قائلة :- لم يخبرني .. وأنا لم أجد داع لسؤاله .. فأنا أثق به كثيرا
لم يكن هذا حال نانسي التي اتجهت فورا نحو هاتفها .. وحاولت الاتصال بهاتفه دون فائدة .. وكأنه كان متوقعا لمحاولتها التحدث معه والجدال حول كل شيء فأقفل هاتفه تماما
شعرت بالغضب لمعاملته لها وكأنها بدون إرادة أو حقوق .. إن ظن بأن حياتهما معا ستسير على هذا الشكل فهو مخطئ تماما .. سألتها حنان بقلق :- هل أبدأ بحزم الأمتعة ؟
صاحت بحنق :- بالتأكيد .. وهل نجرؤ على مخالفة الأوامر
أخفت حنان ابتسامتها بصعوبة وهي تبدأ عملها .. صباح اليوم التالي .. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا .. فتحت حنان الباب على إثر قرع الجرس لتجد شابا نحيلا يرتدي زيا رسميا .. قالت بحدة :- نعم .. هل من خدمة ؟
تنحنح قائلا :- أنا مأمون .. أعمل لدى السيد محمود وقد أرسلني إلى هنا لاصطحابكن إلى العاصمة ..
بدا الشك على وجه حنان وهي ترمقه بنظراتها الفاحصة .. بينما قالت نانسي بتوتر وقد أصبحت خلفها :- ماذا تعني بأنه قد أرسلك ؟ ألن يأتي بنفسه ؟
قال بحرج :- أعتقد بأنك هي السيدة نانسي .. احترامي لك سيدتي .. الدكتور محمود لم يستطع الحضور بنفسه بسبب انشغاله بأمور طارئة .. وقد أمرني بأن أوصلكن إلى منزله في العاصمة .. وسيقابلكن هناك
اقتربت منه وقد أعماها الغيظ عن التفكير :- هل تعلم بأن رئيسك لا يطاق ؟
ابتسم مسرورا وهو يقول :- بل أنا أظنه لطيفا يا سيدتي .. اعذريني للسؤال .. ولكن إن كان حقا لا يطاق فما الذي دفعك للزواج منه ؟
تجهمت وهي تنظر إلى وجهه الباسم ببرود .. قبل أن تقول بجفاف :- أخبرني يا مأمون .. هل تعمل حقا لدى الدكتور محمود ؟
قال بحيرة :- نعم .. أنا سائق لديه منذ سنتين
:- وتعرف بأنني زوجته الآن .. أي أنني من الآن فصاعدا سأكون ربة عملك
:- نعم
صاحت به عندها بحدة :- فلتفكر بكلامك إذن قبل أن تنطق به
استدارت إلى حنان قائلة :- أرشديه إلى الحقائب كي يحملها
ابتعدت أمام نظرات مأمون المذهولة .. بينما قالت حنان لجذل :- ها هي نانسي القديمة تعود من جديد .. اطمئن .. هي ليست بهذا السوء .. إنها حادة الطباع فحسب
طال الطريق لساعات قليلة قبل أن يصلا إلى العاصمة .. لاحظت نانسي التي جلست في المقعد الخلفي إلى جوار لينا .. بينما جلست حنان إلى جوار السائق .. بأن الأخير لم يدخل إلى قلب المدينة .. بل سار في منطقة الضواحي الريفية التي انتشرت فيها المنازل الضخمة .. التي تناثرت متباعدة على أرضها الخضراء .. سألت بتوتر :- إلى أين نحن ذاهبون ؟
قال بهدوء :- لا تقلقي يا سيدتي .. كدنا نصل
توقفت السيارة أخيرا أمام بوابة كبيرة توسطت سورا ضخما يحيط بمساحة كبيرة .. أعطى إشارة إلى الحارس الذي أسرع يفتح البوابة وهو يلقي التحية بحرارة .. مع نظرات فضولية تركزت نحو النافذة الخلفية .. دخل مأمون بالسيارة إلى طريق مرصوف بالأحجار .. وقد ارتصت على جانبيه شجيرات صغيرة مقلمة بعناية .. ذهلت نانسي وهي تتأمل المساحات الواسعة المحيطة بالسيارة .. كان المكان أشبه بالجنة وقد تزاحمت فيها الأشجار التي تعرت أغصانها من الأوراق .. توقفت السيارة أخيرا أمام المنزل الضخم المكون من 3 أدوار .. لا .. لم يكن منزلا .. بل قصرا منيفا .. من الواضح أن صاحبه قد أنفق عليه ببذخ كبير إذ كان الترف ينطق من كل زاوية فيه .. من كل قطعة حجر ثمينة بنيت بها .. ترجلت نانسي من السيارة دون أن تفيق من ذهولها .. لم تدرك أبدا بأن محمود بهذا الثراء .. لقد كان الطلاب يتناقلون الشائعات عنه منذ سنوات .. كانوا يختلقون القصص والحكايا حول ثرائه الكبير .. أو فقره المدقع .. وقد ذكر لها ماهر شيئا عن ثراءه في المستشفى .. ولكنها قطعا لم تتوقعه بهذا الثراء
وهي التي كانت تعامله في الكلية بازدراء ... بل وتغريه بالمال كي يمنحها دعمه .. بينما لا يحتاج هو حتى إلى عمله في الجامعة .. بل ربما يعتبره هواية كحب لينا للرسم مثلا
وجدت عند الباب الرئيسي الكبير سيدة حسناء في أواسط الأربعينات .. كانت تقف في استقبالها أعلى الدرجات القليلة التي فصلت نانسي عن الباب
كانت أنيقة جدا حيث ارتدت طقما أزرقا لائم قوامها المتناسق المناسب لعمرها .. ورفعت شعرها الأشقر المصبوغ فوق رأسها بوقار .. وإلى جوارها برزت فتاة شابة تكبر نانسي بسنوات قليلة .. كانت تملك سحرا خاصا بشعرها الأسود الناعم الطويل .. وبشرتها الوردية المتألقة .. وعينيها العسليتين وملامحها الناعمة .. كانت ترتدي فستانا ورديا جميلا .. وتضع قرطين ماسيين خطف بريقهما الأنظار
رغم جمالها الشديد .. فقد أطلت من عينيها نظرة باردة وهي تنظر إلى نانسي مما أثار داخلها رجفة خوف كبيرة .. هذه الفتاة التي تقابلها للمرة الأولى .. تكرهها
قدمت المرأة الأكبر سنا نفسها بهدوء قائلة :- أهلا وسهلا بك في منزلك الجديد يا نانسي .. أنا هي زوجة عم محمود .. وهو يناديني بالعمة منار .. يمكنك مناداتي بذلك أنت أيضا .. آسفة لأن محمود ليس موجودا لاستقبالك بنفسه .. ولكنه سيعود في وقت قريب
صافحتها نانسي بحذر .. زوجة عمه .. وما الذي تفعله زوجة عم محمود هنا ؟..
أشارت المرأة نحو الفتاة الشابة قائلة :- هذه ابنتي ريم .. أرجو أن تتفقا خلال فترة تواجدك هنا
نانسي كانت على وعي بكل ما يحدث حولها .. بدءا من تلميح السيدة منار بأن وجودها هنا لن يدوم طويلا .. وانتهاءا بعدم مصافحة ريم لها .. أو نطقها بأي كلمة ترحيب .. كان هذا كافيا لتدرك بأن هاتين المرأتين تصنفان ضمن أعدائها
قالت العمة :- تفضلي يا عزيزتي .. هذه الشابة الجميلة هي شقيقتك الصغرى على ما أعتقد .
. دخلت نانسي ورائها بتردد شاعرة بأنها تقتحم عرينا للأسود .. وأن أحدها سينقض عليها بين لحظة وأخرى
قادتهما إلى غرفة كبيرة ذات أثاث أنيق ومريح .. بينما اختفت حنان عن أنظارهما .. شعرت نانسي بالقلق وكأنها مقبلة على معركة .. ولكنها لن تسمح لهاتين المرأتين بأن تضعفا عزيمتها .. جلست على الأريكة الوثيرة واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بأناقة وهي تسوي ثوبها الأسود البسيط .. تمنت لو ارتدت شيئا أكثر أناقة حتى تزيد ثقتها بنفسها .. قالت العمة وهي تجلس قريبا منها بهدوء :- اعذرينا يا عزيزتي لأننا لم نقم بالاستعدادات اللازمة لاستقبالك .. فقد فاجأنا محمود مساء الأمس بخبر زواجه من نانسي سلمان راشد
كبتت نانسي رجفة غضب عندما فهمت تعمد المرأة لذكر اسمها كاملا لتخبرها بأنها تعرف من تكون .. وابنة من هي .. أكملت السيدة منار قائلة :- في الواقع .. لقد تفاجأنا جميعا بزواج محمود .. إذ لم يتخيل أحد بأنه بعد عزوبيته الطويلة سيتزوج بهذه الطريقة .. بدون احتفال أو فرح .. حتى أنه لم يخبر عمه الذي يعتبره كوالد له .. ولكن ذوقه رفيع ولا ألومه على عجلته .. فأنت جميلة جدا
تكلمت ريم أخيرا ببرود :- لطالما كان لمحمود ذوقا رفيعا فيما يتعلق بالنساء .. بالتأكيد عندما يقرر الزواج أخيرا .. فهو لن يتزوج بامرأة قبيحة
إن كانت الأم حريصة على ألا تخطئ بكلمة .. فمن الواضح بأن ابنتها لم تكن كذلك .. استقبلت نانسي نظرات ا لازدراء المطلة من عينيها بهدوء وقالت مخاطبة السيدة منار :- أشكرك على الإطراء .. ولكن سبب زواجنا بهذه الطريقة هو وفاة والدتي الذي لم يمض عليه أكثر من شهر
قالت العمة بهدوء ك- وبالتأكيد بسبب وفاة أبيك أيضا .. لا أعتقد بأنه قد مر وقت طويل على وفاته ... أليس كذلك يا ريم ؟
قالت ريم ببرودها الذي لم يفارقها :- منذ 3 أشهر تقريبا .. هذا ما ذكرته الصحف
نهضت نانسي قبل أن تنهال على الفتاة المتعجرفة بالضرب وقالت :- إذا أذنتما لي فأنا أرغب بإفراغ حقائبي والراحة قليلا بعد سفري الطويل ..
نهضت السيدة منار قائلة :- ستفرغها لك إحدى الخادمات .. سترشدك نجوى وهي مدبرة المنزل إلى غرفتك .. وستلبي على الفور جميع رغباتك .. ربما بعد أن تأخذي قسطا من الراحة قد تحبين أن آخذك في جولة حول الحديقة وفي أرجاء المنزل
تمتمت نانسي بتهذيب :- شكرا للطفك
اصطحبتها نجوى .. وهي امرأة ممتلئة الجسم إلى الطابق الثاني .. حيث قادتها إلى غرفة فسيحة .. تأملتها نانسي بصمت .. لقد كانت غرفة أحلام أي عروس شابة .. بأثاثها الثمين المصنوع من الخشب الثقيل .. والسجادة الوثيرة التي غطت الأرضية اللامعة .. الستائر الرقيقة التي تهادت أمام النوافذ العريضة التي سمحت للشمس بغمر الغرفة بوفرة .. رأت حنان ترتب أغراضها داخل الخزانة الكبيرة .. فلاحظت الملابس الرجالية المرتبة داخلها .. وزجاجات العطر الغالية الثمن التي توزعت على منضدة الزينة .. وفي صدر الغرفة كان هناك باب مفتوحا ظهر من خلفه حمام مترف .. ارتعش جسدها توترا وهي تفكر بهذه الليلة التي ستشارك فيها زوجها غرفته لأول مرة
قالت نجوى :- هل أوصل الآنسة الصغيرة إلى غرفتها ؟
نظرت لينا إلى نانسي بتردد .. وكأنها تخشى أن تضيع إن افترقت عن أختها .. فأشارت لها نانسي بأن تلحق بالمرأة ..وفور أن أصبحت وحيدة في الغرفة مع حنان .. جلست على طرف السرير الكبير الذي غطاه مفرش أنيق مطرز
استدارت حنان نحوها قائلة :- لقد رتبت جميع أغراضك يا نانسي .. هل أنت بخير ؟
أطلقت السؤال عندما لاحظت شجوب وجه نانسي وتوترها .. أجابت نانسي قائلة :- لا أدري .. أنا خائفة يا حنان .. لم أتوقع بأنني سأنتقل للإقامة في قصر منيف يبدو إلى جانبه منزل والدي الكبير وكأنه عش عصافير .. أو للعيش برفقة أشخاص يكرهونني .. لم يخبرني محمود أبدا بأنه يقيم مع عائلة عمه ..
قالت حنان متفهمة :- لا أظنه قد وجد الوقت المناسب مع كل الأحداث التي طرأت .. أنا أيضا لم أرتح لتلك المرأة وابنتها المغرورة .. من الواضح أنهما ليستا سعيدتين بزواج محمود بك
ثم قالت بخبث :- ولكن ليس عليك التفكير بهما الآن .. بل بهذه الليلة .. وما ينتظرك يا عزيزتي
احمر وجه نانسي وهي تقول :- حنان .. اخرسي واذهبي لتفقد لينا .. أرغب بأن أرتاح قليلا
أطلقت حنان ضحكة عالية وهي تقول :- أمرك يا آنستي
انصرفت حنان تاركة نانسي وحدها .. فتكورت فوق السرير وهي تحاول السيطرة على اضطرابها .. بين ليلة وضحاها .. تغيرت حياتها بشكل كامل .. وأصبحت زوجة لرجل ثري غريب عنها .. لا تعرف عنه أي شيء .. وربما يتوقع منها الليلة أن تكون زوجته فعليا
لا إراديا سالت دمعة ساخنة على خدها .. وأخذت تلوم والدها على ما يحصل معها .. لو لم يفعل ما فعله .. لما أتيحت الفرصة لأي انسان لاستغلال ظروفها كما فعل محمود ويشتريها ..
تذكرت كلمات ماهر في المستشفى.. فانتابها غضب كبير من نفسها .. ومن محمود .. ومن والدها
وأقسمت بأنها لن تسمح لمحمود أبدا بأن يفرح بانتصاره .. ثم وبدون ان تشعر .. راحت في نوم عميق
الفصل الثاني عشر
زوجي الغامض
فتحت نانسي عينيها بخمول .. ثم توترت مرة واحدة عندما احست بانها لم تعد وحيدة في الغرفة .. انتفضت جالسة وهي تنظر إلى محمود الذي كان جالسا على الأريكة يراقبها .. اضطربت وهي تلاحظ نظراته الثاقبة .. فامتدت يدها لا إراديا لتتأكد من إحكام إغلاق أزرارها .. التقطت عيناه على الفور حركنها هذه .. ولكن تعابير وجهه بقيت هادئة وهو يقول :- أرجو أن تكوني أفضل حالا الآن
مررت يدها عبر شعرها الفوضوي محاولة ترتيبه قائلة باضطراب :- ما كان عليك تركي نائمة كل هذا الوقت
:- كان التعب واضحا عليك .. فلم أشأ إزعاجك
اعتدلت في جلستها بارتباك .. إنها المرة الأولى التي يراها فيها مستيقظة من النوم .. فاقدة لكل دفاعاتها وعاجزة عن الكلام .. قال بهدوء :- آسف لأنني لم أكن موجودا لاستقبالك .. فقد اضطررت للذهاب إلى الجامعة لأمر طارئ .. عرفت بأنك قد قابلت العمة منار .. وريم
قالت ساخرة :- قابلتهما بالتأكيد .. ولأكن صادقة معك .. لم يبدو عليهما السرور للقائي
عقد حاجبيه وكأن طريقة كلامها لم تعجبه .. فقال :- لقد كانتا متفاجئتين .. فلم يعلم أحد بزواجنا قبل الأمس
قالت بحيرة :- ولماذا أخفيت زواجنا عن عائلتك ؟ ألم تخبرني بأن عمك هو بمثابة والدك ؟
قال باقتضاب :- هو كذلك .. ولكن زواجي أمر يخصني وحدي .. وأنا لست بحاجة كي آخذ إذنا من أي أحد لأتزوج
حاولت أن تستوعب الأمر فلم تستطع .. ففكرت بأن محمود قد خمن بأن عائلته لن توافق على زواجه منها هي .. ففضل مفاجئتهم .. طرحت أخيرا السؤال الذي أقلقها كثيرا :- لماذا لم تخبرني بأنك تعيش مع عائلة عمك ؟
قال ببرود :- أنا لا أعيش مع عمي .. بل عمي هو من يعيش معي
ثم فسر قائلا :- لقد بنى والدي هذا المنزل قبل وفاته بسنوات .. لقد كان منزل أحلام والدتي .. وقد بنياه معا .. اختارا كل حجر بني به .. وعندما توفيا .. ما كان من الممكن لمراهق في الثامنة عشرة بأن يعيش وحده في مكان كهذا .. فانتقل عمي مع عائلته للإقامة معي .. وحتى الآن .. هم عائلتي الوحيدة .. وهو سيبقى دائما بمثابة الأب لي
ساد صمت ثقيل لاحظت نانسي خلاله شيء من القسوة يسكن داخل عيني محمود .. هل سيأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه محمود عن غموضه لها
قال فجأة :- هل قابلت جدتي ؟ .. والدة أمي ؟
قالت بدهشة :- جدتك ؟
قال باستهزاء :- أتصور بأن زوجة عمي لم تحاول حتى الإشارة إليها .. أحيانا ينسى سكان البيت وجودها بسبب اعتزالها عن الجميع في غرفتها .. سأعرفك إليها بعد الغداء .. هيا بنا .. الجميع في انتظارنا لنأكل معا
قالت باضطراب :- سأبدل ملابسي أولا ثم أوافيك
نهض قائلا :- سأسبقك إذن إلى الأسفل .. لا تتأخري
تركها مغادرا الغرفة .. فزفرت بقوة وهي تشعر بأعصابها المشدودة ترتخي .. إن وجوده معها في مكان واحد يسبب لها اضطرابا كبيرا .. ويختل توازنها ..فلا تكون أبدا نانسي .. بل شخص آخر .. وكأنه يسلب بسلطته بقايا كيانها القديم ويصنع منها شخصا آخر لا تحبه .. لم تعجبها أفكارها هذه .. وقررت بأنها إن كانت ستسايره .. فإنها أبدا لن تكون طوع بنانه
قامت لتبدل ملابسها حريصة على أن تكون في أبهى طلة .. على الأقل ليختفي الضعف المفاجئ الذي لم تعرف قبلا بوجوده .. ارتدت فستانا بسيطا انما أنيق يجمع بين اللون الأسود والرمادي .. فلم يحن بعد وقت التخلي عن اللون الأسود .. وضعت بعض الزينة الخفيفة على وجهها .. وصففت شعرها ثم نزلت
كان الكل في انتظارها .. حتى لينا التي فوجئت بها نانسي تتحدث بانهماك مع شاب صغير لم يتجاوز الثامنة عشرة .. قدم نفسه على أنه فراس .. شقيق ريم الأصغر .. كان يشبه ريم كثيرا باستثناء قامته الكطويلة والنحيلة .. قام رجل مسن يحييها ببشاشة .. فأدركت بأنه عم محمود .. قال لها :- يمكنك مناداتي بالعم طلال
ابتسمت بدبلوماسية وهي تقول :- سأفعل بالتأكيد
كان السيد طلال رجلا بشوشا ومرحا .. استمر طوال فترة تناولهم الغداء حول المائدة الطوية في غرفة الطعام في توجيه الكلام إليها .. ورواية المواقف الطريفة التي حدثت معه .. حتى أنه أضحك نانسي أكثر من مرة .. بالرغم من هذا .. كان هناك بريق أخافها في عينيه عندما كان ينظر إليها متفحصا في غفلة منها .. لم تفهمه جيدا أو تدرك معناه .. ثم قررت بأنها تتوهم بالتأكيد .. فالسيد طلال كان الشخص الوحيد المرحب بها في هذا المكان .. بعكس زوجته المتحفظة بغرور .. وابنته التي لم تتوقف عن تزجيه نظرات الحقد إليها
قال محمود بعد الغداء :- أستأذنكم جميعا .. سأخذ نانسي لأعرفها إلى جدتي
اصطحبها إلى الطابق الثالث فقالت :- ظننت بأنني سأقابلها أثناء الغداء
قال بهدوء :- أخبرتك بأنها لا تخرج أبدا من جناحها
لم تسأله عن السبب وهو ما عرفته بنفسها فور أن فتح لها أحد الأبواب ودعاها إلى الدخول .. لترى امرأة مسنة ااغاية تجلس على فراشها .. بينما تقوم ممرضة خاصة بمساعدتها في الأكل .. بنظرة واحدة .. عرفت نانسي بأن هذه المرأة عمياء
شعرت الجدة بهما فقالت بحنان :- أهو أنت يا محمود ؟ ادخل يا حبيبي
قال :- لست وحيدا يا جدتي
رفعت المرأة حاجبيها الأبيضين وهي تقول :- أهي هنا معك ؟ اقتربي يا عزيزتي .. واجلسي إلى جانبي ... لا يمكن أن تتخيلي سعادتي بزواج محمود أخيرا .. لقد حان الوقت ليستقر ويكون عائلته الخاصة
جلست نانسي على مقعد قريب من السرير وهي تتأمل وجه المرأة الذي كسته التجاعيد .. وشعرها الفضي الناعم الذي تربطه خلف رأسها .. وأطلت من عينيها الباهتتين نظرة حنون .. قالت :- اسمك نانسي .. إنه اسم غريب
وضحت نانسي بحرج :- لقد اختارته لي أمي .. فقد ولدت أمها في مدينة نانسي الفرنسية .. ولم تتوقف طوال حياتها عن الحديث عن طفولتها هناك .. فأطلقت أمي علي الإسم إكراما لوالدتها التي لم يكن قد مضى على وفاتها أشهر عندما ولدت
ابتسمت الجدة قائلة :- لقد حدثني عنك محمود كثيرا .. ووصفك لي بشكل جعلني واثقة بأنك بارعة الجمال
تمتمت نانسي :- لست جميلة إلى هذا الحد
لطالما كانت نانسي واثقة من جمالها المميز .. ولكنها الآن بعد كل مصابها .. لم تعد واثقة بأنها تحلت يوما بأي جمال داخلي
:- أنت طالبة لدى محمود .. كم هذا مثير للخيال .. أن يقع حفيدي في حب تلميذته .. كيف وقعتما في الحب .. هل تستطيعين إخباري ؟
احر وجهها وهي تلاحظ محمود الذي انتظر إجابتها دون أن يحاول إنقاذها .. فقالت بارتباك :- حسنا .. لقد بدأ الأمر بشجار
بدت الدهشة على وجه الجدة وهي تردد :- شجار !
قالت نانسي بحرج :- كنت أنا تلميذة مغرورة .. وكان هو أسيتاذا متعجرفا .. وكان من الطبيعي أن نتشاجر
ابتسمت الجدة برقة :- فهمت الآن .. لقد حدث الشيء نفسه مع والدي محمود .. ابنتي كانت طبيبة ماهرة وواثقة من نفسها .. وعادل والد محمود كان مريضا شقيا إذ كسر ساقه ذات مرة ودخل المشفى .. كانت ابنتي وفاء تعود بعد كل مراجعة له غاضبة وحانقة على المريض المدلل الذي لا يكف عن الانتقاد .. وبعد فترة .. دخلت إلى البيت بلا إنذار سعيدة ومشرقة وهي تخبرني بأن مريضها المشاكس قد خطبها
كرت سحابة حزن على وجه الجدة وهي تقول :- لقد كانت مليئة بالحيوية .. وعادل كان رجل أعمال عنيد .. أظن بأن محمود قد أخذ عن أبيه صلابته .. ومن أمه رقته وحنانه
ضحك محمود قائلا :- أحذرك بأن جدتي إن بدأت في تعداد مميزاتي .. فهي لن تتوقف قبل ساعات
ضحكت جدته قائلة :- لست بحاجة لأن أفعل .. من الواضح بأن نانسي تعرف جميع مزاياك ما دامت قد وقعت في حبك .. ألي كذلك يا عزيزتي ؟
ساد صمت طويل التقت خلاله عيناها بعيني محمود الذي نهض قائلا :- سأتركك قليلا مع نانسي يا جدتي .. هناك ما أرغب بمحادثة عمي به
غادر الغرفة تاركا نانسي في اضطراب تحاول جاهدة تهدئة دقات قلبها .. قالت الجدة بهدوء :- أعتقد بأنك قد قابلت منار زوجة عم محمود وابنتها ريم
:- نعم
قالت الجدة :- لا تهتمي في حال استقبلتاك ببرود .. فهما لم تتصورا أبدا أن محمود قد يتزوج بغير ريم
هكذا إذن .. نظرات ريم الحاقدة لم تكن بدون سبب .. لقد كانت مغرمة بالرجل الذي تزوج بها
قالت الجدة :- وماذا عن طلال ؟ كيف استقبلك ؟
:- لقد كان بشوشا ومرحبا
:- متأكدة بأنه قد انزعج كثيرا لأن محمود لم يخبره بزواجه .. فقد اعتاد بعد وفاة والدي محمود على أن يحاول إدارة حياة محمود بنفسه .. وعندما كبر محمود شجعه على أن يسلك طريق الدراسة والتعليم حتى يستمر هو في السيطرة على حياته وعلى أعمال أبيه على هواه .. ولكن محمود لم يكن ابن أبيه بدون فائدة .. لقد أصر على استلام جميع أعمال وأملاك والده حتى مع انشغاله بالتحصيل العلمي .. ثم عمله بالجامعة .. تمكن من فرض شخصيته سواء في العمل أو في هذا المنزل الذي ظنت السيدة منار بأنها سيدته حقا .. إنها صفعة قاسية أن يحضر محمود من تستلم هذه المكانة بعد والدته
قالت نانسي بقلق وقد وجدت في الجدة الطيبة صدرا واسعا تستطيع الثقة به :- في الواقع أنا لم أهيء نفسي لوضع كهذا .. فمحمود لم يتحدث كثيرا عن عائلته
:- لابد أنه لم يجد الوقت المناسب ليفعل .. لقد أخبرني بوفاة والديك .. وأقدر شعورك بالغربة والخوف من الفترة القادمة .. محمود سيوفر لك الأمان ويحميك .. أما عن عمه .. فمحمود يقدره ويحبه كوالده بالضبط .. لطالما كانت عائلة عمه عائلته .. أما الآن .. فلديه أنت
صمتت للحظات ثم قالت :- ما الذي أعجبك بولدي ؟ أعني ما الذي دفعك لحبه ؟
أجفلت نانسي لهذا السؤال .. بماذا تجيب ؟ لا يمكنها إخبارها بأنها لا تطيقه .. وأن شيئا لا يعجبها به .. ولمنها عادت وفكرت بأن هذا غير صحيح .. فقد سبق وكسب محمود احترامها بحزمه ووقوفه إلى جوار عائلتها .. تمتمت :- هناك الكثير مما فيه يحيرني ويثير الاضطراب في نفسي .. ربما هذا التناقض في شخصيته .. أحيانا هو قاسي وصارم .. وأحبانا يكون حنونا ومهتما
بدا على الجدة أنها تنتظر من نانسي أن تسترسل في الكلام فأكملت :- ربما وقاره وكبرياءه هما ما يجذبني غليه .. ربما لأنه الشخص الوحيد الذي لا أستطيع الاعتداد بنفسي أمامه
سهمت وقد نسيت وجود المرأة أمامها وهي تقول مفكرة :- إنه لطيف مع أختي .. وكان عطوفا مع والدتي .. كان نبلا منه أن يمنح أشخاصا لا يهمونه بعضا من وقته ويشعرهم بأنه واحد منهم
قالت الجدة بحنان :- كيف لا يهمونه إذا كنت أنت منهم ؟
ابتسمت نانسي بضعف دون أن تجيب .. فسألتها الجدة فجأة :- هل هو وسيم ؟
دهشت نانسي وسألت :- ماذا ؟
أوضحت الجدة بهدوء :- لقد فقدت بصري منذ عشر سنوات ... لا يمكنك تصور اشتياقي إلى رؤيته .. هل تسمحين لي برؤيته من خلال عينيك ؟
شعرت نانسي بالأسف على هذه السيدة العاجزة عن رؤية أحب الناس إليها .. تمتمت :- إنه وسيم
أسندت المرأة رأسها إلى الخلف وقالت :- صفيه لي .. أرجوك
تمتمت نانسي :- إنه طويل جدا .. يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا .. شعره قاحم السواد .. كثيف ومتماوج .. لون بشرت قمحي جذاب لوحته الشمس .. عيناه بلون السكر المحروق .. يطل منهما تعبير متسلط .. وكأن الكون يدور من حوله ولأجله فقط
ضحكت الجدة قائلة بحنان:- إنهما عينا والده .. كانت وفاء تقول دائما بأن عينيه هما سر نجاحه في عمله .. إذ يستطيع بهما السيطرة على ما يريد .. والحصول على ما يريد
ابتسمت نانسي بارتباك بينما قالت الجدة :- أكملي أرجوك .. صفي لي ملامحه
أكملت نانسي :- أنفه مستقيم بزاوية حادة .. فمه واسع بشفتين تميلان إلى الامتلاء .. ذقنه بارزة بعض الشيء .. تمنح ملامحه قوة تضاهي قوة شخصيته
احمر وجه نانسي وهي تسرد هذه التفاصيل .. متى تأملت وجهه عن قرب لتعرف دقائقه بهذا الشكل ؟
قالت الجدة برقة :- تحبينه .. أليس كذلك ؟
قبل أن تفكر حتى بجواب .. لاحظت محمود الواقف عند الباب المفتوح وقد علت عينيه نظرة غريبة .. خفق قلبها بقوة .. منذ متى وهو يقف هنا ؟ هل سمع شيئا مما قالته عنه ؟
قالت الجدة وقد أحست بوجوده :- محمود .. هل أنت هنا ؟
قال بهدوء :- نعم يا جدتي .. جئت آخذ زوجتي لأنك بحاجة إلى الراحة
قالت برقة :- زوجتك رائعة يا محمود .. أتمنى أن تنجبا لي الأحفاد بسرعة
انحنى يقبل جبينها ثم يدها قائلا :- سيحدث هذا قريبا يا حبيبتي
اعتذرت نانسي من الجدة .. وسارت معه خارجا .. قال بهدوء :- أعتقد بأنني قد جئت في وقت مناسب لأمنعك من تدمير جدتي عندما تجيبين على سؤالها .. أليس كذلك ؟
قالت بجفاف :- بل أنقذتني أنا لأنني كنت على وشك الكذب عليها
قال مستغربا :- وهل كنت ستكذبين ؟
هزت كتفيها :- لقد أحببت جدتك كثيرا .. ولن أستفيد شيئا من ذكر الحقيقة لها سوى بجعلها تتألم
قال متهكما :- هذا جيد .. لديك قلب يهتم بالآخرين .. انت تتطورين
كبتت غيظها وهي تقول :- ما الذي أردته مني ؟
:- أن أطوف بك المكان قبل أن أغادر إلى عملي .. كي تعرفي أين تتحركين بالضبط أثناء تجوالك فيه ..
أشار لها حوله إلى الطابق الثالث قائلا .. هذا الطابق مخصص لإقامة المستخدمين .. اختارت جدتي الإقامة فيه لتبتعد عن الضوضاء .. ولأنها لا تغادر غرفتها أبدا .. بل هي بالكاد تغادر سريرها بسبب التهاب المفاصل .. ولكنني أزورها باستمرار وأخصص لها ممرضة للاهتمام بها .. كما يزورها الطبيب بشكل دوري للاطمئنان عليها
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك