رواية عندما تنحني الجبال -3
عمل نانسي الجديد كان أقرب إلى مزاجها .. فقد وجدت وظيفة كبائعة في متجر للثياب .. كان متجرا بسيطا متخصصا في بيع الملابس الشبابية البسيطة .. والرخيصة الثمن .. والمختلفة تماما عن النوع الذي اعتادت نانسي شراءه .. ولكنها لم تعد قادرة على شراء ما تحبه الآن ..
تعمل نانسي في المتجر منذ 3 أيام .. وأدركت منذ اللحظة الأولى بأن صاحب المتجر من النوع السيء الخلق .. فهو عصبي المزاج .. دائم الصراخ .. ولا يتردد في إطلاق الشتائم عند الحاجة .. أجبرت نانسي نفسها على الصبر .. وتجاهلت تذمره من عجزها عن إقناع الزبائن القلائل بالشراء .. ورددت لنفسها بأن هذا هو العالم الحقيقي .. كما تستطيع أي موظفة أخرى احتمال رئيسها السمج .. ستفعل هي
عادت في نهاية اليوم وهي تشعر باكتئاب كبير .. ربما لأن عملها الجديد يذكرها بوضعها القديم .. كلما دخلت زبونة متعالية .. وعاملتها بازدراء .. لقد كانت ذات يوم من ذلك النوع الذي يهوى التصرف وكأن العالم ملك لها .. لكم تحتقر نفسها الآن عندما تدرك أي إنسانة سطحية ومتعالية كانت .. هل كان عليها تلقي الصدمة تلو الأخرى حتى تعرف ماهي الحياة الحقيقية
عندما دخلت إلى البيت سمعت فورا صدى ضحكات أمها ولينا .. فأدركت بأن الدكتور محمود موجود هنا .. لقد أصبح ضيفا دائما في بيتهم المتواضع .. وقد تمكن من كسب ثقة وإعجاب أمها وأختها على الفور
كان هذا يشعرها بالغضب والحنق .. الدكتور محمود هو آخر إنسان أرادت أن يتقرب إلى عائلتها ويعرف دقائق ظروف حياتها .. لقد سبق وهددته على الملأ .. وهاهي تعيش حياة حقيرة .. ويا للذل .. إنه جارها الذي يعرف كل ما حاولت إخفاءه عن جميع الناس.. يعرف حقيقة صعوبة حياتها الحالية ..
هي متأكدة بأن تقربه المستمر من عائلتها ما هو إلا محاولة منه لإذلالها .. وكأنه يقول لها بأنها الآن بالنسبة إليه مجرد فتاة مسكينة جار عليها الزمان ..وقسى عليها القدر .. تمنت لو تستطيع الدخول إلى غرفتها دون أن يراها .. ولكنها مضطرة لمواجهته كما في كل مساء يزور فيه بيتهم الجديد المتواضع
أخذت نفسا عميقا .. ودخلت وهي تقول بهدوء :- مساء الخير
استدار الجميع نحوها .. شعرت بأن ضحكته قد اختفت وهو ينظر إليها متفحصا .. أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما .. كان يرتدي سروالا من الجينز وكنزة زرقاء داكنة .. بدا أصغر سنا بملابسه البسيطة .. دون أن يفقد ذرة من هيبته . تساءلت عما يمكن أن يهز رباطة جأش أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما ..قالت أمها ببشاشة :- تعالي وألقي التحية على الدكتور محمود يا نانسي .. لماذا لم تخبرينا بأنه أستاذك في الجامعة ؟
قالت بهدوء وهي تجلس في أبعد مكان عنه في الغرفة :- لم أجد ضرورة لهذا بما أنني تركت الجامعة .. وهو لم يعد أستاذي بعد الآن
اختفت ابتسامة أمها كما في كل مرة تأتي فيها نانسي على ذكر تركها للجامعة .. سألها الدكتور محمود بهدوء :- كيف هو عملك الجديد ؟
قالت ببرود :- جيد جدا .. لست مضطرا لدفع المال مجددا كي تتسبب بطردي منه
صاحت أمها بغضب :- نانسي .. اعتذري للسيد محمود .. إن ما فعله كان بطلب مني .. وليس من تلقاء نفسه
قال بهدوء مبطن بالسخرية :- اتركيها يا سيدتي .. يسعدني أن أجد بأنها ما زالت تمتلك روحا قتالية بعد كل ما تعرضت له
هي وحدها التي فهمت المغزى الخفي لكلامه .. إذ كان يقصد بأنها ما زالت تمتلك الجرأة على رفع صوتها في وجهه أو وجه أي كان بعد الخزي الذي تعرضت له .. ألن تكون شماتته بها كبيرة في حال عرف باعتداء جابر عليها بالضرب ؟ ..
هتفت لينا بسرور :- نانسي .. الدكتور محمود يظن بأن مستقبلا باهرا ينتظرني في الرسم
تمتمت بجفاف :- بالتأكيد يا عزيزتي .. بالإذن
انسحبت إلى غرفتها وقد منعت نفسها بصعوبة من صفق الباب ورائها بقوة .. تدرك نانسي تماما ما يفعله ذلك الرجل .. إنه يصبح جزءا من عائلتها شيئا فشيئا
أصبح لا يمر يوم دون أن يقضي جزء منه برفقة لينا أو أمها .. أمها تجد فيه الابن الذي لم تنجبه مع أن فارق السن بينهما بالكاد تجاوز العشر سنوات
ولينا تجد فيه الأخ الأكبر .. أو البديل عن والد تركها مبكرا في وقت تحتاج فيه بشدة إلى الإحساس بحماية رجل
إنه يسحب البساط من تحت قدميها تدريجيا .. ويحل محلها بين عائلتها بينما تتلاشى أهميتها مع وجوده
سمعت طرقات على الباب .. ففتحته لتجد حنان تقول ببشاشة :- هل أحضر لك بعض الحلوى ؟؟ لقد أحضر الدكتور محمود معه حلوى شهية جدا بالجبن
:- لا شكرا
هذه المرة .. صفقت نانسي الباب بكل قوتها .. لقد طفح الكيل
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\
يا آنسة .. لقد وصلنا إلى وجهتك .. ألن تنزلي
صحت نانسي من شرودها على صوت سائق الحافلة .. وتنبهت بأنها قد وصلت فعلا إلى وجهتها .. ترجلت من الحافلة وسارت بخطوات بطيئة عبر الطريق المؤدي إلى منزل الشاطئ .. دخلت لتجد المكان هادئا مما أصابها بالقلق .. أين الجميع ؟ .. دخلت إلى المطبخ لتجد حنان منهمكة في الطبخ فسألتها :- أين أمي ولينا ؟
:- خرجتا تتمشيان قليلا
التفتت إليها حنان قائلة بحيرة :- ما الذي عاد بك باكرا هذا النهار
ردت نانسي باقتضاب :- لقد تركت العمل
:- ماذا ؟ ولكن لماذا ؟ ظننت بأنه قد أعجبك
ردت نانسي بجفاف :- لقد كنت مخطئة
لم تستطع إخبار حنان بأنها قد تركت العمل بعد أن طفح بها الكيل وفقدت قدرتها على احتمال غطرسة صاحب المتجر بذيء اللسان .. وأنها أمطرته في النهاية بسيل من الإهانات المتتالية التي تركته ذاهلا وكأنه لم يعتد أن تصرخ به امرأة .. ثم أهرقت إبريق الماء الذي يعلو مكتبه دائما فوق رأسه .. ثم رحلت بلا أي كلمة حتى عن مستحقاتها
لم يكن هناك شك في أن العمل مع رجل من ذلك النوع كان مزعجا للغاية .. ولكنها في الحقيقة خيبت أمل نفسها عندما فقدت أعصابها وتقمصت مجددا تلك الروح القديمة النارية ..
أي فتاة أخرى كانت تحملت في سبيل لقمة عيشها وصبرت على اضطهاد الرجل العجوز العنيد
كانت نانسي تعرف بأن الأعمال التي تقوم فيها في هذه القرية الصغيرة لا قيمة لها .. فهم ينفقون الآن من الأموال المتبقية لدى والدتها من بيع بعض مجوهراتها القديمة الموروثة عن عائلتها .. ولكنها لا تستطيع البقاء بدون عمل .. فعاجلا أم آجلا .. تلك النقود ستنتهي .. وسيحتاجون إلى مصدر جديد للدخل .. وكي تجده يجب أن تكتسب شيئا من التواضع وإلا فإنها أبدا لن تصمد في أي وظيفة
تنهدت وهي تسأل حنان محاولة نسيان الواقع :- ما هو عشاءنا هذا المساء؟
:- طعامك المفضل
شمرت نانسي عن ساعديها وأخذت تحاول مساعدة حنان في تقطيع الخضار أمام ضحكاتها :- لا بأي بك .. أنت تتقدمين
مسحت نانسي دموعها وهي تتابع تقطيع البصل قائلة :- متى تسنى لك النزول إلى القرية وإحضار كل هذه الأغراض ؟
:- لقد أحضر السيد محمود كل هذه الأغراض صباح اليوم .. وقد ..
لم تكمل كلامها عندما فوجئت بنانسي تلقي السكين من يدها وقد جرحت إصبعها وسال الدم ليلطخ أرض المطبخ .. استدارت نانسي وهي تقول بغضب :- ولماذا يحضر هو الأغراض ؟ لماذا لم يتصل بي أحد ويخبرني باحتياجات البيت لأحضرها معي ؟
قالت حنان بتوتر :- لقد أحضرها من تلقاء نفسه .. لم يطلب منه ..
بترت عبارتها مجددا عندما نزعت نانسي رداء المطبخ .. واندفعت كالعاصفة خارجة من البيت .. وسرعان ما كانت أمام باب بيته فقرعت الجرس بحدة تكاد لا تطيق صبرا للانفجار بغيظها في وجهه
عندما فتح الباب .. تلاشت كل عزيمتها عندما رأته واقفا بهيئته الصارخة الجاذبية .. كان يرتدي سروالا أسود وقميصا أبيض أظهر اكتمال بنيته العضلية .. ظهرت الدهشة في عينيه البندقيتين وهويقول :- أي مفاجأة هذه ؟ الآنسة نانسي شخصيا تشرفني بزيارة .. تفضلي بالدخول
تراجعت إلى الخلف برفض صامت للدخول .. قطعا هي لن تدخل منزل رجل غريب .. قالت بعصبية:- لم آت لأدخل .. بل لأقول بضع كلمات وأذهب
عقد حاجبيه متأملا حالتها العصبية .. ثم قال بهدوء :- هل أنت خائفة مني ؟
نعم .. هي خائفة منه .. ولم تعرف سببا لخوفها هذا .. أهو تأثير ذلك الحاذث عليها ؟ أم أن الشجار القديم الذي حصل بينهما هو ما يمنعها من الثقة به ؟ أم أنها تخشى أن تكتسحها سلطته وقوته فيخضعها كما أخضع والدتها وأختها ؟
قالت بحدة :- أنا لست خائفة منك
قال :- ستدخلين إذن وتخبرينني بمقصدك لأن الجو بارد وأنا أكاد أتجمد بردا
احمر وجهها عندما لاحظت بشرته الظاهرة من خلف أزرار قميصه المفتوحة .. وصدقت بأنه لا يرتدي ما يقيه البرد الشديد .. حتى هي لم كانت ترتعش بردا وقد نسيت معطفها في غمرة انفعالها وغضبها
أفسح لها الطريق فدخلت بتوتر .. نظرت حولها إلى المكان المشابه لتصميم بيت خالها .. إلا أنه كان أكثر ترتيبا وقد بدت الصيانة المستمرة واضحة في طلاء الجدران الجديد .. والأثاث الحديث .. والجو الدافئ الصادر عن مدفئة حديثة الطراز جعلتها تشفق على الآلة المسكينة التي أكل عليها الدهر وشرب والتي يعتمدون عليها هم في التدفئة
في صدر غرفة الجلوس كان هناك مكتب صغير تكومت عليه الكتب والأوراق فخمنت بأنها قد قاطعت عملا له .. قالت بتوتر :- آسفة لمقاطعتك عن عملك
قال من ورائها :- هيا نانسي .. لا تتظاهري بالتهذيب .. أنت تتحرقين شوقا لقول ما لديك والرحيل
استدارت إليه لتراه يغلق باب البيت ويلتفت نحوها بابتسامة تسلية .. شعرت بالغيظ لاستمتاعه بارتباكها .. فقالت مرة واحدة :- أريدك أن تبتعد عن عائلتي
لم يعلق .. ولكن ملامحه جمدت وهو ينتظر منها توضيحا .. فقالت بحدة :- لا أريدك أن تتقرب من أمي وأختي .. فهما ليستا بحاجة إليك
قال بهدوء وهو يبتعد عن الباب :- هلا أوضحت لي سبب رفضك لتقربي إليهما
تراجعت وهي تقول بتوتر :- إنهما تتعلقان بك أكثر وأكثر وتعتمدان عليك .. دون أن تدركا بأن سبب اهتمامك هو الشفقة .. لا أنا ولا عائلتي بحاجة إلى شفقتك
قال ببرود :- وعلى أي أساس افترضت بأنني أشعر بالشفقة عليهما ؟
صاحت ملوحة بيديها :- تتقرب إليهما .. وتشعرهما بأنك جزء من العائلة .. تشتري لهن أشياءا .. ليس هناك ما يدفعك للقيام بكل هذا إلا الشفقة .. نحن لا نحتاج إلى أي شيء منك يا دكتور محمود .. ربما من الأفضل أن تعود من حيث أتيت لأن وجودك غير مرغوب به بالمرة
قالت كلماتها العنيفة .. ثم أمسكت خصرها بكلتي يديها في انتظار رده .. اقترب منها قائلا بصرامة :- أنت مخطئة يا نانسي .. فأنا عندما أغادر هذا المكان فإنني سأغادره بملء إرادتي .. وليس لأن مدللة مثلك ترفض التأقلم مع حياتها الجديدة ترفض وجودي ... أما بالنسبة لوالدتك ولينا .. فما أشعر به اتجاههما هو كل المودة ولا يهمني إن لم تصدقي هذا .. أمك إنسانة رقيقة وطيبة .. وليس من الغريب أن تكسب احترامي.. ولينا طفلة مثيرة للاهتمام وذكية .. أشعر بأنها كأختي بالضبط .. وإن كنت قد قدمت بعض الخدمات لهما فهذا بدافع إحساسي بأنني أحد أفراد العائلة .. أما عن الشفقة .. فأؤكد لك بأنني أشعر بها اتجاه شخص واحد فقط .. وهو أنت
انتفضت نانسي عندما ازداد اقترابه وهو يقول بحدة :- أشعر بالشفقة عليك لأنك ترفضين الحياة في أرض الواقع .. ما زلت تشعرين بأنك ابنة القصور المدللة التي تأمر وتطاع .. تريدين أن تمارسي سلطتك على عائلتك بعد أن رفض الناس من حولك الاستمرار في تمثيل دور العبيد لك
صاحت بعنف :- أنا لا أفعل هذا
قال بقسوة :- بل تفعلين .. وعندما شعرت بأن هناك من دخل حياتهما .. وأن علاقتهما بالعالم الخارجي لم تعد مقتصرة عليك .. جئت تدعين سوء نيتي وتحاولين إبعادي عنهما
صاحت بغضب يائس :- أنا أحميهما فحسب
قال :- مم تحمينهما بالضبط ؟ أنت بعدم ثقتك بالناس تخشين على عائلتك بأن تتعرض للخيانة وسوء المعاملة من الآخرين كما حصل معك أنت بالضبط .. ولكنك تنسين أو تتجاهلين حقيقة أنهما مختلفان عنك .. وأنهما تمتلكان ما يكفي من الرقة والانسانية لتكسبا ثقة الناس وصداقتهم .. بعكسك أنت التي كنت تعاملين الناس من حولهم وكأنهم قد خلقو لخدمتك .. فكان أن ثاروا عليك ورفضوك بعد سقوط الدرع الذي كان يحميك
منعت بصعوبة دموع الإهانة من تجاوز عينيها وهي تقول محاولة إخفاء ألمها :- أنا لا أنكر بأنني كنا كذلك .. ولكنني لم أقصد أن أسبب الألم لغيري
قال ساخرا :- بالتأكيد لم تقصدي هذا لأنك لم تفكري يوما إلا بنفسك .. حتى الآن وأنت تنتقلين من عمل وضيع إلى آخر تدعين بأنك تفعلين هذا لمساعدة عائلتك .. بينما الحقيقة هي أنك تفعلينه لأجل نفسك .. لتثبتي بأنك قادرة على تحمل المسؤولية .. وعلى الحياة كباقي البسر بدون ملعقة من الذهب في فمك
ما الذي دفعها لمواجهته .. لقد كانت تعرف مسبقا بأنها لن تقدر على هزيمته.. وأن لقائها به سينتهي بكارثة .. إنه الشخص الوحيد الذي لم تستطع يوما السيطرة عليه .. دائما كانت له شخصيته القوية وكبرياءه وكرهه لها ..
قال فجأة :- أهذه دماء ؟
نظرت إلى يدها وقد نسيت الجرح الذي تعرضت له أثناء تقطيع البصل .. لم تستطع قول كلمة خشية أن يظهر صوتها مشاعر الألم التي تكاد تخنقها .. اقترب ليمسك بيدها .. وينظر إلى الجرح الغائر قائلا بغضب :- أيتها الحمقاء .. كيف تتركين جرحا كهذا بدون عناية ؟
سحبها برفق وأجلسها على الأريكة قائلا :- انتظري هنا
دخل إلى المطبخ بينما تساءلت هي عما يبقيها هنا .. وكأن إهاناته لها قد جمدت عقلها كما جسدها .. عاد حاملا قطعة قماش نظيفة وزجاجة مطهر .. وجلس إلى جانبها وأخذ ينسح الدماء التي لطخت يدها بلطف .. أجفلت عندما أثارت لمسته ألما بسيطا فقال بصوت دافئ :- اهدئي .. يجب أن يتم تنظيف الجرح كي لا يتلوث
أربكها هذا التناقض في معاملته لها .. فتارة يهاجمها ويسترسل في إهانتها .. وتارة يعاملها برقة وحنان لم تصادف مثلهما من قبل .. كان قريبا منها للغاية مما أتاح لها فرصة تأمله جيدا دون أن يشعر إذ انهمك في لف يدها باللاصق الطبي .. كانت تقاطيع وجهه متناسقة ووسيمة .. عيناه الداكنتان كانتا واسعتان برموش سوداء كثيفة .. تطل منهما نظرة عميقة وغامضة تصعب إدراك الشخص الحقيقي خلفهما
فمه الحازم عادة أثناء إلقاءه للمحاضرات كان يبدو الأن أكثر جملا وقد انفرجت شفتاه الممتلئتان عن شبه ابتسامة وهو يحاول إلهائها عن الألم بكلمات لطيفة
ما الذي حدث لها ؟.. فكرت مذعورة بانها لم تنظر يوما إلى أب رجل بهذه الطريقة .. بالتأكيد الدكتور محمود كان شديد الوسامة .. وأي امرأة تقترب منه بهذا الشكل لابد أن تفقد صوابها بسبب الجاذبية الخطرة التي ينطق بها جسده القوي ..
تركزت عيناها على عنقه الذي كشفت عنه فتحة قميصه .. شعرت برغبة غريبة بأن تلمس تفاحة آدم التي توسطتها ..
هذه الرغبة المفاجئة جعلت وجهها يحمر .. فسحبت يدها من بين يديه وهي تقول بصوت أجش :- هذا يكفي
نظر إليها بدهشة وهي تنهض مبتعدة وتقول بعصبية :- أشكرك على اهتمامك .. وهو لن يمنعني من أن أؤكد لك بأنني ما زلت رافضة لتواجدك قريبا من عائلتي ..مهما كان تفسيرك لأسبابي
نهض بدوره قائلا بسخرية :- يؤسفني أن أقول بأنني لن أمتثل لأوامرك يا آنسة نانسي ... وأنني سأنتهز كل فرصة تقربني من عائلتك مهما كان كرهك لهذا شديدا
التقت عيناهما طويلا قبل أن تنسحب غاضبة .. كالعادة عندما يتواجدان معا تذوب شخصيتها تماما ما إن يتكلم .. صممت بغضب على ألا تسمح لهذا بأن يتكرر .. لن تسمح له بالسيطرة عليها .. عادت إلى البيت لتجد أمها في انتظارها .. ما إن رأتها حتى قالت بتوتر :- أين كنت ؟.. أصحيح أنك ذهبت لتتشاجري مع الدكتور محمود ؟
قالت نانسي وهي تنظر إلى حنان بغضب :- نعم
هزت أمها رأسها بيأس وهي تقول :- ولكن لماذا يا نانسي ؟ ..إنه لم يسئ إلينا لتهاجميه بهذه الطريقة .. لم تكوني يوما قليلة التهذيب في معاملة أي أحد .. فما المشكلة مع الدكتور محمود ؟
صاحت نانسي بحدة :- إنه لا يعجبني إطلاقا .. أكره تواجده الدائم في هذا البيت ومنحه كل هذه الثقة بدون حذر .. أنا أعرفه من قبل وأكثر من يستطيع الحكم عليه
ردت أمها :- هل السبب هو شجاركما في الكلية ؟ لقد أخبرني به الدكتور محمود .. وعرفت بأنك أنت من أخطأ بحقه .. وأنت من عليه التنازل لإصلاح ما أفسدته ..
كيف ستقنع أمها بأن الأمر يتجاوز شجارها الساذج معه ؟ قالت بحرارة :- إنه زير نساء معروف .. الكل في الكلية يتحدث عن علاقاته المتعددة .. وعدم أهليته للثقة
قالت أمها بريبة :- هل أنت واثقة مما تقولين ؟
لم تكن نانسي واثقة حقا مما تقول .. فهي لم تره من قبل برفقة أي امرأة .. كما لم يقترن اسمه يوما بأي اسم في الكلية .. الشائعات كانت تطول حياته خارج الجامعة .. حيث لا يعرف أحدهم الكثير عن حياته الخاصة .. ولكن من البديهي أن يكون لرجل بجاذبيته ووسامته ومكانته الاجتماعية جيشا من النساء يلاحقه أينما ذهب
قالت بثقة :- بالتأكيد
إلا أن أمها قالت بحدة :- هذا لا يشفع لك تصرفك المعيب معه .. فهو لم يكن إلا طيبا معنا
:- ولكن يا أمي ...
أطلقت أمها آهة وهي تمسك بعنقها .. وتمسدها محاولة تخفيف الألم الشديد .. مما جعل نانسي ترتعش قلقا وتنسى ما كانت تود قوله
أسرعت تسند أمها وتساعدها على الجلوس .. بينما فتحت تلك عينيها وهي تقول :- عديني بأنك ستحسنين التصرف معه
أطبقت نانسي شفتيها بقوة وقد عاد إليها عنادها القديم .. ثم قالت :- لا أعدك إلا بأنني سأحاول
ثم اندفعت إلى غرفتها .. وأقفلت الباب ورائها بإحكام
الفصل الثامن
بين الحياة والموت
فكرت نانسي بأنها لن تعود صباح الغد إلى وظيفتها الجديدة التي استلمتها اليوم كموظفة استقبال في عيادة طبيب أسنان
.. العيادة كانت صغيرة و عفنة الرائحة .. وغير مناسبة إطلاقا كعيادة طبيب .. أما الطبيب نفسه فقد كان رجلا سمينا أصلع الرأس صاحب نظرات وقحة كادت تقتلها غيظا
خرج آخر مريض في تمام الساعة السابعة .. فاستعدت للمغادرة عندما خرج الطبيب من الغرفة الداخلية ورآها ترتدي معطفها .. فقال لها :- أتذهبين بهذه السرعة ؟
قالت باقتضاب :- يجب أن أعود إلى البيت قبل أن يتأخر الوقت أكثر
منحها ابتسامة صفراء وهو يقول :- أرجو أن يكون عملك هنا قد راقك
كان بإمكانها الخروج بصمت دون اخباره بعدم عودتها ثانية .. ولكنها لم تستطع مقاومة إغراء رؤية ابتسامته السمجة تختفي .. قالت بهدوء :- للأسف .. اكتشفت بأنني لا أحبذ التأخر كثيرا في المساء .. أنا متأكدة بأنك ستجد موظفة أكثر ملاءمة للعمل هنا
كما توقعت .. اختفت ابتسامته وهو يقول بحدة :- ما الذي يعنيه هذا ؟ هل كنت تتسلين إذن بقضاء يومك هنا
:- أنا لم أتسلى .. لقد بذلت جهدي في القيام بكل ماهو مترتب علي .. ولم يناسبني العمل بكل بساطة
:- حسنا .. لم تقومي بكل شيء تماما
وقف أمامها مانعا إياها من الوصول إلى الباب وقد علت عينيه الخبيثتين نظرة أثارت الخوف في نفسها .. ولكنها لم تظهر خوفها وهي تقول من بين أسنانها :- ابتعد عن طريقي وإلا صرخت وجمعت كل سكان المنطقة
أمسكها فجأة وجذبها إليه وهو يقول :- لم لا تحاولين ؟
قبل أن تطلق نانسي صرختها تركها فجأة واندفع جسده بعيدا حتى اصطدم بالجدار .. رمشت بعينيها عدة مرات غير مصدقة لوجود محمود الذي أمسك بتلابيب ثياب الرجل .. ولكمه بعنف حتى أدمى فمه وأنفه
استدار نحوها وقد ظهر الشر في عينيه الغاضبتين .. وأمسك يذارعها قائلا بغضب :- تحركي أمامي
لم تقاومه عندما دفعها إلى خارج المكان .. ثم أدخلها إلى سيارته بينما هي ذاهلة تماما مما حدث .. وفور أن تحركت السيارة صرخ بها :- أيتها الحمقاء المجنونة .. لم لا تتوقفين عن زج نفسك في المشاكل ؟
قالت متوترة :- لم أجد وظيفة أخرى .. كما أنني لم أعرف أي رجل خسيس هو الطبيب
:- طبعا لأنك لم تتعبي نفسك بالسؤال عنه قبل تورطك في العمل لديه .. لكنت عرفت بسهولة أي سمعة وسخة لهذا الرجل في المنطقة
قالت باضطراب :- هل .. هل تعرفه ؟
ضرب المقود بقبضته بقوة وهو يقول :- طبعا لا أعرفه .. ولكنني سألت عنه فور أن أخبرتني والدتك عنه .. لقد قدرت وحدي بأنك لن تتحلي بالذكاء الكافي لتفعلي هذا بنفسك
تمتمت :- أهذا ما جاء بك إلى العيادة ؟
كاد يفقد أعصابه وهو يقول :- ما الذي تتوقعينه ؟. أنا أتصل بهاتفك المحمول منذ ساعات دون فائدة فجئت بنفسي.. ما الذي كان ليحصل لو أنني تأخرت قليلا
قالت بعصبية :- كنت تمكنت من الدفاع عن نفسي بدون مساعدتك
كانت ممتنة حقا لوصوله المفاجئ .. فهي لم تعرف من قبل هذا الإحساس بالحماية من قبل رجل منذ وفاة والدها .. ولكنها أبت أن تسمح له بالتعالي عليها أكثر
أوقف السيارة إلى جانب الطريق .. والتفت نحوها قائلا من بين أسنانه :- لا تختبري صبري يا نانسي .. قد تمتلكين لسانا لاذعا وطويلا .. ونظرة قادرة على تجميد بركان .. ولكنك لا تمتلكين القوة على رد هجوم رجل مصمم
أخفضت عينيها رافضة تلقي نظراته القاسية .. انه محق .. أليس كذلك ؟ لم تستطع سابقا رد هجوم جابر.. وما كانت لتتمكن من صد الطبيب المقرف .. تمتمت مرغمة :- أنا آسفة
زفر بقوة محاولا استعادة هدوءه ثم قال :- لماذا تصرين على القيام بهذه الأعمال القذرة يا نانسي ؟ أنت تعرفين بأنها لا تقدم ولا تؤخر .. ما الذي تحاولين إثباته ؟
قالت بعناد :- لا يحق لك سؤالي وكأنك ولي أمري .. أنا مسؤولة عن تصرفاتي ولن آخذ إذنك حتى أمتهن أي مهنة
قال بصرامة :- بل يحق لي بعد أن أنقذتك من موقف تحسدين عليه .. ما الذي تأملينه من استمرارك في التنقل من عمل إلى آخر ؟..
لم تمنحه جوابا .. فأصر قائلا :- انظري إلي يا نانسي وأخبريني .. من تحاولين معاقبته بأفعالك هذه
قالت فجأة بانفعال :- أنا لا أعاقب أحدا .. أنا أعاقب نفسي فحسب
عقد حاجبيه وانتظر توضيحها وقد ظهر عليه التوتر .. فأكملت :- لطالما كنت أنا الفتاة الثرية المدللة كما تقول .. لقد تصرفت بشكل سيء طوال حياتي وأخطأت في حق الكثير من الناس .. وأنا أشعر بأن أقل ما علي فعله هو أن أكافح وأعيش حياتي مثلهم لأكفر عن أخطائي
ساد صمت طويل قبل أن يقول بهدوء :- أنت لا تستحقين حتى أن تعيشي مثلهم ما دمت تعتقدين بأن هذا عقاب
نظر غليها مكملا :- إن أردت التكفير عن أخطاءك .. فذلك لن يكون بتحميل نفسك فوق طاقتها
أمسك يدها مما جعلها تنتقض مجفلة .. قال :- هاتان اليدان غير قادرتين على القيام بعمل خشن .. انظري إليهما .. إنهما ناعمتان .. وطريتان .. اعتادتا على العزف على البيانو .. ارتداء الخواتم الثمينة .. من الظلم ان ترهقيهما بأعمال لم تخلق لهما
أفلت يدها قائلا :- ما عليك فعله هو الإحساس مثل باقي الناس .. لأنك لن تستفيدي شيئا إن عشت حياتهم واحتفظت بروحك القديمة .. روح الفتاة الثرية والمتكبرة والتي لا تهتم إلا بنفسها
قطع كلامه عندما ارتفع رنين هاتفه المحمول .. فرد عليه وأخذ يتحدث بجدية إلى الطرف الآخر .. كانت هي تفكر بكلامه .. إنه محق .. أليس كذلك ؟ ولكنه مخطئ في ظنه بأنها لا تهتم لأحد .. بل هي تهتم بأمها .. ولينا .. وحنان التي ترعرعت معها .. لن تسمح لكلامه المدمر أن يذيب كبريائها
كانت تستمع إليه وهو يتحدث عبر الهاتف ويعطي بعض التعليمات بصوت حازم وقوي ذكرها بصوته في المحاضرات التي كانت تحضرها له .. تساءلت وهي تشعر برنين السلطة في صوته عما يفعله خارج أسوار الجامعة .. أنهى مكالمته .. وبدون أي كلمة .. أكمل طريقه موصلا إياها .. عندما وصلا .. ترجل معها من السيارة فقالت له بخفوت :- شكرا لك لأنك ساعدتني في العيادة .. وعلى توصيلك لي
قال بهدوء :- إن كان هذا الشكر الغير متوقع محاولة منك لصرفي فهي لن تنجح .. وعدت والدتك بالمرور والاطمئنان عليها .
أطبقت فمها الرقيق بغضب وهي تتجه نحو الباب .. وقبل أن تلمس الجرس .. سمعت صرخة أمها .. تلتها صرخة لينا المذعورة .. انتفضت نانسي وهي تحاول إدخال المفتاح في القفل بيد مرتعشة ..حتى تناوله منها الدكتور محمود وفتح الباب بيد ثابتة .. اندفعت إلى الداخل لتجد والدتها مكومة على الأرض فاقدة الوعي .. ولينا وحنان تجثوان حولها بجزع .. أسرع محمود يحملها ويمددها على الأريكة .. بينما أوضحت حنان ما حصل باضطراب :- لقد أصابتها نوبة صداع قوية للغاية .. ثم سقطت مغشيا عليها
أخذت نانسي تربت على وجنة امها وهي تخاطبها بصوت مرتعش :- أمي .. ردي علي أرجوك
شعرت بيد محمود تمسك كتفها بقوة وهو يقول :- نانسي .. خذي مفتاح السيارة واسبقينا إلى هناك .. حنان .. أحضري بطانية لنبقي السيدة دافئة
أخذت نانسي المفاتيح .. أسرعت تمتثل لأوامره دون نقاش .. فقد أدركت بأن محمود هو الشخص الوحيد الذي يمكنهن الاعتماد عليه في ظرف كهذا وقد أصبن جميعا بالذهول والذعر ..
في المستوصف الصغير للمدينة .. كان رأي الطبيب هو نقل السيدة فورا إلى أقرب محافظة رئيسية حيث المستشفيات أكثر استعدادا لمثل حالتها .. القلق على وجهه وهو يفحص والدتها جعل نانسي تكاد تجن من الخوف على والدتها .. التي كانت خلال ساعات ترقد داخل أحد أهم المستشفيات في البلاد وقد تم نقلها بواسطة سيارة إسعاف رافقتها نانسي أثناء الرحلة .. بينما لحق بها محمود بسيارته .. آمرا حنان بالبقاء مع لينا وتوضيب أغراضهن استعدادا للحاق بهم فور وصول من يأخذهم
أخذت نانسي تسير في غرفة الانتظار دون توقف .. بينما يقف محمود مستندا إلى الجدار وقد عقد ساعديه أمام صدره دون أن يتفوه بحرف واحد
خرج إليهما الطبيب فأسرعت إليه نانسي تسأله بقلق :- ما الأمر يا دكتور ؟
كان عابس الوجه مما جعل قلبها يخفق بعنف قلقا .. :- نتيجة الصور واضحة .. السيدة مصابة بنزيف حاد ومفاجئ في المخ
كادت تفقد الوعي لو لم يمسك بها محمود بشدة ويخاطب الطبيب :- هل أنت متأكد يا دكتور ؟
:- للأسف .. لو أن الأمر قد استدرك باكرا لكان من الممكن تداركه .. وعلاج المشكلة قبل أن ينفجر الشريان ويتم النزيف. وتدخل في الغيبوبة .. لقد أخبرتني بأن والدتك كانت تعاني من الصداع .. أليس كذلك ؟
أجاب محمود عنها فقد كانت ذاهلة تماما:- هذا صحيح ..
:- كان يجب أن تلجأ فورا إلى الطبيب و....
بالكاد تمكنت نانسي من فهم كلمات الطبيب .. هل هو خطأها .. هل كان عليها أن تصر على أمها في زيارة الطبيب منذ أول نوبة صداع ؟ .. قالت بصوت خافت :- هل ستموت ؟
ارتبك الطبيب وقال :- حالتها متقدمة للغاية .. أي تدخل جراحي لن يكون مضمون النتائج
قال محمود بحزم :- أي شيء أفضل بكثير من مشاهدتها تعاني دون أي تدخل .. متى يمكن إجراء العملية ؟
:- فور وصول جراح الأعصاب ..
أجلسها محمود على أحد المقاعد .. وتابع حديثه مع الطبيب في الوقت الذي سالت فيه دموعها غزيرة .. عاد محمود يجلس إلى جوارها قائلا :- سوف تبقى أمك هنا في المستشفى تحت إشراف الأطباء .. الطبيب سيصل غادا وستتم العملية في الصباح الذي يليه .. في هذه الأثناء .. لقد استأجرت لكن شقة صغيرة في حي قريب من المستشفى ..ستمكثن فيها خلال الفترة القادمة
تمتمت بين دموعها :- ما كان عليك إزعاج نفسك .. نستطيع تدبر أمرنا
قال بهدوء :- لست في حالة تؤهلك لتحمل المسؤولية كاملة يا نانسي .. اسمحي لي بالوقوف إلى جانبك هذه المرة مهما كان الأمر كريها بالنسبة إليك
راقبته ينهض مبتعدا ليجيب عن إحدى مكالماته الهاتفية .. كيف تمكن من إيجاد شقة لهن بهذه السرعة ؟ .. قدرت بأنه يمتلك الكثير من النفوذ والسلطة ليحصل على ما يريد في وقت قصير ..
كانت تعلم بأنه هو من تكفل بمصاريف المستشفى .. أثار هذا حفيظتها .. ولكنها لا تملك إلا أن تقبل عطائه في وقت لن يحتمل منها أي تكبر أو كبرياء .. فحياة أمها على المحك
أمها الحبيبة الرقيقة .. التي لم تذنب في حياتها إلا في حب رجل لا يستحقها .. رجل مات تاركا إياها لتلملم بقايا عاره .. وكان الحمل ثقيلا على كيانها الضعيف .. حتى فتك بها ..
وصلت حنان مع لينا .. ولم تتساءل نانسي عن طريقة وصولهما .. فقط عانقت أختها الصغرى التي عرفت من النظر إلى وجه نانسي مدى صعوبة الوضع .. فأجهشت بالبكاء حتى قبل أن تعرف التفاصيل .. وعندما رأت محمود .. أسرعت إليه ترمي نفسها في صدره وتبكي هاتفة :- دكتور محمود .. هل ستكون أمي بخير ؟ .. هل ستموت ؟
ربت على شعرها الأشقر بحنان قائلا :- أمك ستكون بخير يا لينا
رفع رأسه إلى نانسي الشاحبة الوجه وقال :- نانسي .. سآخذكن لترتحن قليلا في الشقة
ردت نانسي :- لن أتحرك من هنا
أسرعت حنان تقول :- اذهبي يا نانسي .. أنا سأبقى برفقة السيدة مريم .. وإن طرأ أي جديد سأتصل بك على الفور
استسلمت في النهاية لتعب أعصابها و جسدها .. واستجابت لإلحاحهما .. وجدت نفسها بعد فترة تدخل إلى شقة صغيرة برفقة لينا ومحمود .. لينا كانت تبكي بحرارة .. فجلس محمود إلى جانبها فوق الأريكة محاولا تهدئتها .. بينما دخلت نانسي إلى غرفة النوم المحتوية على سريرين صغيرين .. وأغلقت الباب ورائها .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. إلى وجهها الشاحب .. وتساءلت :- ما الذي علي فعله ؟ .. كيف سأتدبر تكاليف العملية وأنا لا أملك قرشا
الحقائب المحشوة بأغراضها كانت على الأرض إلى جوار السرير .. لم تتساءل عن كيفية وصولها .. انحنت لتخرج من إحداها صورة والدها .. ونظرت إليها طويلا .. سالت دموعها بغزارة .. ما كانت لتحقد عليه لو اقتصرت نتائج أفعاله على تشردهم واحتقار الناس لهم .. ولكن أن تمتد إلى صحة والدتها .. لماذا هي بالذات ؟ لماذا ؟
قذفت الصورة بكل قوتها على المرآة الكبيرة فكسرتها .. فتح محمود الباب ليجدها تلقي بالأشياء من حولها في كل مكان وكأنها تفرغ غضبها الكامن داخلها
أمسك بها من الخلف فقاومته بشراسة .. ولكنه ضمها إلى صدره بقوة وقد كبل حركتها بذراعيه وهو يقول :- إهدئي يا نانسي .. غضبك هذا لن ينفع أحدا
انهارت مقاومتها وهي تبكي بمرارة قائلة :- لماذا هي ؟ إنها لا تستحق أن تموت
أدارها إليه وهو يقول بحزم :- أمك لن تموت يا نانسي ..
أخذت تبكي على صدره فقادها برفق إلى السرير قائلا :- تمددي وخذي قسطا من الراحة .. وغدا سوف نتكلم في الموضوع
عجبت من نفسها كيف أطاعته وتمددت .. وتركته يغطيها بإحكام .. أطفأ النور وغادر الغرفة .. فلم يطل بها الوقت حتى استسلمت لإرهاقها وغابت في نوم عميق
الفصل التاسع
حصار
خرجت نانسي من غرفة أمها غير قادرة على التقاط أنفاسها .. لا تستطيع تأمل وجهها الشاحب والنائم بسلام أكثر وهي تتساءل إن كانت ستصحو يوما أم لا
سمعت صوت محمود يقول بهدوء :- صباح الخير
استدارت إليه وهي ترد باضطراب :- صباح النور
لم تستطع النظر في عينيه مباشرة .. فما حدث بالأمس جعلها اليوم في قمة الحرج .. ما الذي أصابها كي تتصرف أمامه بذلك الشكل المجنون ؟
سألها :- أين لينا ؟
:- أرسلتها إلى الشقة مع حنان .. لقد كانت مرهقة ولم تتوقف لحظة عن البكاء
أومأ برأسه وهو يقول :- أيمكن أن نتحدث في الخارج لبضع دقائق .؟
ألقت نظرة على باب الغرفة حيث ترقد أمها .. ثم سارت معه .. وجدته يقودها إلى خارج المشفى .. إلى الحديقة الغناء المحيطة بها .. شعرت بالبرد الشديد فندمت لعدم إحضارها لمعطفها .. نظرت إليه قائلة :- ما الذي رغبت بمحادثتي به ؟
:- عن والدتك بالطبع .. وعن العملية التي ستقوم بها صباح الغد .. يجب أن تعرفي بأنني سأتكفل بجميع المصاريف حتى خروج أمك من المستشفى معافاة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- لست مضطرا لهذا .. كنت لأستطيع تدبر أمري وحدي
عقد ساعديه أمام صدره قائلا :- حقا يا نانسي ؟ وكيف كنت لتفعلي هذا ؟ لقد سبق وأوضحت لي والدتك حالتكم الصعبة .. وأنت لا تملكين ما يكفي لتكاليف ليلة في هذا المكان .. فكيف بعملية باهظة كالتي تحتاج إليها أمك ؟
برقت عيناها الخضراوان بغضب وهي تقول من بين أسنانها :- تبدو مستمتعا للغاية بسرد الوقائع علي .. هل يمنحك التسلط على الآخرين والسيطرة على حياتهم متعة مرضية ؟
اقترب منها .. ونظر إلى عينيها قائلا بهدوء :- لو كنت مكانك يا نانسي لتأدبت وأنا أخاطب الرجل الذي يمسك بمصير والدتك بيده .. كما أنني لا أنتظر إذنك .. فأنا لن أقف مكتوف اليدين وأنا أرى والدتك تموت فقط بسبب كبريائك السخيفة
قالت بحدة :- ما الذي أردت قوله لي إذن مادام رأيي لا يمثل أي قيمة لك ؟
:- يجب أن نتحدث بوضعك أنت وعائلتك بعد خروج والدتك من المستشفى .. ستكون بحاجة إلى عناية خاصة .. كما أن لينا لا يمكن أن تحتمل الحياة القاسية التي كنتن تعشنها في ذلك المكان القذر البارد على الشاطئ ..
هزت رأسها قائلة بتوتر :- ما الذي تقترحه إذن ؟
قال بهدوء :- ستنتقلون للعيش في منزلي .. ستجد أمك العناية اللازمة .. ولينا ستحظى بالحماية ..
قالت بعنف : هذا لن يحدث أبدا .. سبق وأخبرتك بأننا لا نحتاج إلى إحسانك .. يكفيني ما سأدين لك بسبب مصاريف العملية .. وأنا أؤكد بأنني سأرد لك كل قرش ستدفعه .. ولكنني أرفض بأن أكون مدينة لك بالمزيد
:- المرأة لا تكون مدينة لزوجها عندما ينفق عليها ويراعي عائلتها
ساد الصمت طويلا .. لم يتخلله سوى صدى صيحات طفل ضاحك قادم من بعيد.. وهدير الحمامات الشاهدة على الموقف من فوق الأشجار العارية .. نانسي كانت تحدق به جامدة .. وكأنها تعجز عن فهم ما يقوله .. ولكنها قالت في النهاية بصوت أجش :- أنا لن أتزوج بك
قال بهدوء كمن يخاطب طفلا صغيرا .:-. ستفعلين يا نانسي .. أنت لا تملكين خيارا آخر .. وبسبب معرفتي برجاحة عقلك ..فأنت ستدركين وحدك مدى الفائدة التي ستعود عليك من هذا الزواج
حاولت إخفاء ذهولها من طلبه العجيب .. وتمالكت أعصابها أمام لهجته الواثقة المستفزة .. تمتمت :- أنا لا أصدق بأنك حقا تطلب الزواج مني ؟
قال ببرود :- أنا لا أطلب يا نانسي .. أنا أعرض عليك حلا لمشكلتك .. حلا مناسبا يرضي جميع الأطراف
قالت محاولة التظاهر بالهدوء :- لقد عرفت أنا مكسبي من زواج مماثل .. أنت ستدفع نفقات علاج والدتي .. وترعى شؤوننا بعد ذلك كأي رب أسرة صالح .. ولكن لماذا قد ترغب أنت بالزواج من فتاة تكرهها ؟
قال بهدوء :- أكره غرورك .. وأحتقر طباعك .. ولكنني قطعا لا أكرهك .. سأتزوجك لأجل الأسباب المعتادة التي تدفع أي رجل للزواج .. تكوين أسرة .. وإنجاب أطفال .. أنا لم أعد شابا في مقتبل العمر .. وقد حان الوقت لأفكر بهذه الأمور
هزت رأسها غير قادرة على التفكير .. الزواج من الدكتور محمود كان آخر ما فكرت يوما بالقيام به .. سألته بارتباك :- ولكن لماذا أنا بالذات ؟ تستطيع الزواج بأي فتاة تناسبك أكثر .. لا تكون مكبلة بعائلة ومذللة بعار والد ميت
قال بصرامة :- أقدر لك لو توقفت عن الحديث عن نفسك بهذه الطريقة .. اختياري قد وقع عليك لأسباب كثيرة فكرت بها جيدا في الآونة الأخيرة .. فأنت جميلة .. أنيقة .. تجيدين التصرف بشكل جيد أمام الناس مما يناسب مكانتي الاجتماعية ..كما أنك فتاة قوية ومكافحة .. وهذه المواصفات هي ما أحب أن يمتلكها أبنائي مستقبلا
شعرت بالحنق لطريقة كلامه وكأنه يشتري فرس استيلاد مناسبة .. ولكنها شهقت فجأة عندما اقترب منها ونظر إليها بطرقة جعلت جسدها ينتفض ذعرا وهو يقول بصوت عميق :- لقد اخترتك يا نانسي لأنني أريدك بالتأكيد .. يعجبني غلافك الخارجي الجميل .. ومن الطبيعي أن أرغب بك .. وليس من وسيلة لحصولي عليك إلا الزواج .. إلا إن كان لديك اقتراح آخر
تراجعت وهي ترتعش وقد أخافتها كلماته ونظراته الغير مألوفة .. عرفت يقينا بأن هذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع الدكتور محمود للزواج منها .. فالفتيات الجميلات الأنيقات المناسبات للإنجاب موجودات بكثرة
كانت هذه المرة الأولى التي تلمح فيها الرغبة الخالصة في نظراته .. عادة كان ينظر إليها بصرامته المعهودة وازدراءه كلما أحب أن يشعرها يصغرها وتفاهتها .. لم تعرف لماذا أخافتها معرفتها بمشاعره .. فهذه لم تكن المرة الأولى التي تلتهمها فيها نظرات رجل ..
اما هذه المرة .. فقد تغلغلت نظراته التي شملت جسدها الضئيل المغطى بالملابس الدافئة إلى أعماقها .. وجعلتها ترتعش رفضا ونفورا .. تمتمت بصعوبة :- لماذا تظن بأنني قد أرغب في الزواج منك .. أنت تعرف تماما بأنك لا تعجبني حتى
قال ساخرا :- لا تقولي لي بأنك كنت تنتظرين زواج حب لأنني لن أصدقك .. فتاة مثلك لن تتزوج إلا برجل يناسب مستواها الاجتماعي – السابق طبعا – رجل ثري يستطيع أن يعيد إليك مجدك الذي ضاع .. فأنا متأكد تماما بأنك ما كنت يوما لتتزوجي بماهر
قالت بتوتر :- طبعا لن أتزوج ماهر .. فهو ..
أرادت أن تقول بأنه مجرد صديق إلا أن محمود قاطعها قائلا :- طبعا لأنه لن يستطيع منحك الحياة المرفهة التي تنشدينها .. كما أنك فعلا لست مخيرة الآن .. فبرقبتك عائلة في انتظار عنايتك بها .. أم أنك ستضحين بصحة والدتك .. ومستقبل لينا فقط لأنني لا أروق لك
احمر وجهها بغضب وقد حاصرها بالواقع المر وقالت :- لا أصدق بأنك تستعمل عائلتي للضغط علي
قال ببرود :- أنا لا أضغط عليك يا نانسي .. لديك ساعات قليلة للتفكير في الموضوع .. وأنا أنتظر ردك هذا المساء
استدار مبتعدا تاركا إياها وحدها .. ترتعش من البرودة الشديدة التي أحست بها فجأة .. جلست على المقعد الخشبي القريب .. وحاولت التفكير بالحديث الذي دار بينهما قبل لحظات .. لا تستطيع فعلا أن تصدق بأن الدكتور محمود قد عرض عليها الزواج به لتتخلص من مشاكلها .. أيظنها مادية إلى هذا الحد ؟
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك