بارت من
رواية طلاب الطب - غرام

رواية طلاب الطب -1 

طلاب الطب أمجد و ميادة  الكاتب : خالد أبو الشامات 
,
هي معانــاه و مـآساة لطلاب الطـــب .. ترى نفس شئ أعاني معاهم :) 
.
بسم الله الرحمن الرحيم 
كتبت هذه القصة
منذ أمد بعيد ..
وجرى عليها التعديل ..
بما يناسبها من إحساس وكلمات ..
إليكم قصة
كتبتها بالدم ..
بأقوى إحساس في حياتي كلها ..
قصة قد لا أبالغ حين أقول أنها أكثر قصة وأعلاها إحساساً كتبتها قط
صببت فيها كل الشعور وصهرته حتى أخرج بعمل مثل هذا أصنفه عندي
في أعلى المراتب
وربما اخترت هذا التوقيت بالذات .. لأسباب معينة .. من أجلكم والله ..
ونصيحتي من كل القلب بلا مبالغة ..
ألا تقرأها إن كنت تريد أن تذاكر بعدها ..
وقد تراني في هذه الكلمات أتصنع .. ولكنها في (نظري على الأقل ) الحقيقة ..
وإن قررت القراءة .. فهذه القصة لا تقرأ إلا كاملة .. دون أي مقاطعة ..
ورغم انها أربعة أجزاء .. إلا أني سأضعها كاملة .. لأنها لا بد أن تقرأ كاملة دفعة واحدة ..
وإلا لن تكون هناك أي متعة في القراءة ..
استحضر كوباً من العصير البارد ..
واجلس .. وأقفل باب الغرفة ..
وإن شئت .. أطفيء الأنوار ..
واسترخي
واقرأ
إليكم
أمجد وميادة
,

( المقـدمة)

هل تعتقد يوماً أنك قد وصلت إلى مرحلة الكآبة؟
إن كنت واحداً من الذين أنعم الله عليهم بفقدان عقله ..فاحمد الله لأنك لن تصل إليها ..
أما إن كنت طالباً في كلية الطب .. فلا داعي لأن تقرأ الباقي .. لأنك نلت نصيباً وافراً ..
وقسطاً لا بأس به ..
وإن كنت على استعداد لأن تقرأ قصتي ..
فاقبل أولاً أن تصل إلى نهاية هذه القصة ..
بكآبة فريدة من نوعها ..
وأمنية خالصة من القلب أن يكون اللحد هو مرقدك القادم ..
وأن ترى السم شراباً منعشاً يروي شهوة الراحة الأبدية..
وإن لازلت مكملاً .. واستهوتك تعابيري في الأعلى ..
فعليك أن لا تقرأ القصة إن لازلت تعتبر القصة طرفة أو نادرة تتسلى بها ..
بل أن تعي وتدرك كل كلمة في القصة بإحساسها الكامل ..
وإن كنت تقرأها كي تكون وجبة دسمة لنقد الإحساس ..
أو شعوراً لتحديٍ تظن أني أعرضه ..
أو حتى لتبرهن لنفسك أنها مبالغات لفظية..
فارم القصة جانباً .. فأنت لا تستحق أن تقرأ قصة مماثلة ..
واعذرني على كلماتي إن كنت تراها وقحة ..
لكنها حقيقية ..
فهذه قصة لا يفهمها إلا أصحاب الإحساس..
هم الذين يتألمون .. ويفرحون .. ويبكون ..
هم أناس لهم قلوب من لحم ودم ..
لا قلوباً من جلمود أسود ..
هم بني البشر..


___


( الجــزء الأول )



مضت أربعة أيام على العزاء ..
لا زلت لا أصدق أن أمجد قد توفي ..
لقد كنت معه قبل أسبوع .. خرجنا فيها سوية .. كان يومها أمجد حانقاً وغاضباً ..
وهي مرات قليلة للغاية التي أراه فيها هكذا .. فالعامة الذين يعرفونه ..
لم يروا غضبه أو حنى وجومه .. وإن كان بذلك يحاول التظاهر ..
إلى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات لا أصدق أنه مات ..
كنت مخدع أسراره التي لا يعرف الكثير عنها شيئاً ..
لم يكن يهنأ لي بال إلا إن علمت ما يشغل باله من أفكار مجنونة التي يضحك منها العوام ..
ويفكر فيها المتأملون ..
كان أفضل أصدقائي بلا منازع ..
بل إنه لي معلماً في كثير من أمور الحياة.. التي لا يفهمها الطغاة..
تعلمت منه كيف أعيش إنساناً ذا روح وحس ..
تعلمت منه معنى أن تتعاطف مع أحزان الناس وهمومهم .. وأن أستمع إليهم ..
تعلمت منه كيف أتفاءل حين تتجهم الدنيا..
تعلمت منه ..ما لن يعلمني إياه شخص آخر ..
عندما أخبرت الجامعة بأمر وفاته _ رحمه الله _ تفشى الخبر جلياً وسريعاً ..
وتناقلته أوساط الطلاب على نطاق كبير ..
لأن أمجد كان مشهوراً بابتسامته العريضة التي يقابل بها كل الناس ..
كان ببعض معروفاً ببعض ملخصاته التي استفادت منها شريحة جيدة من الطلاب ..
وفي اليومين الذين تليا الخبر .. تحدث عنه الدكاترة ..
كثير منهم من ذكره بعطر اللسان .. والبعض حقيقة لم يتذكره ..
لكنه حزن .. ولا أدري ما سبب الحزن .. إلا أن يكون بروتوكولاً اجتماعياً منافقاً ..
ومن ناحية أخرى ذكره البعض بكلام سخيف ..
من دكاترة وطلبة ..
أولائك الذين يرون في دعاباتهم الخرقاء الظهور بمظهر القوة ..
بل اتخذه البعض موضعاً للنكات الغبية ..
إلا أن هناك بعضاً منهم لم يصدق أنه مات .. ومنهم أنا ..
صاحبه : يزيد
لكن أتعلمون حقاً .. ما هو سبب وفاة أمجد ؟؟
لقد قالها لي يوماً :
يزيد .. أنا إن مت .. فقد قبض الله روحي .. لكن صدق أن السبب الدنيوي سيكون الطب والدراسة
ولقد كان ما تنبأ به أمجد ..
مات أمجد وهو يقود سيارته متجهاً إلى الجامعة ..
بعد أن كان شبه نائم .. بعد أن أمضى ليلته فوق الكتاب ..
في اختبارات نصف السنة
جلس يذاكر لتلك المادة أسبوعاً كاملاً ..
رغم أنه ذاكرها قبل ذلك ..
وحتى إذا ما جاءت ليلة الاختبار .. جلس يراجع كل ما ذاكره في ذلك الأسبوع ..
لأن المعلومات وبلا شك قد طارت ..
وأنى لها أن تبقى ..
فقاد السيارة إلى اختباره .. وهو في حالة من الإرهاق ..
كان يسير بعين مفتوحة والأخرى مغلقة .. حتى انتهى به الأمر إلى حادث أودى بحياته ..
وإن توقفنا هنا .. فلا يغدو الأمر مشكلة ..
هذا أمر مألوف يحدث في كل السنوات لطلاب الطب..
لكن المشكلة الحقيقة .. هي أن السبب في كل هذا الجهد من أمجد ..
السبب الذي جعله يرهق إلى هذا الحد ..
ببساطة .. لقد كان ذلك الدكتور الأخرق من قسم الطب الباطني بما يسمونه الــ medicine
ذلك الدكتور الذي قرر أن يرسب أمجد .. في السنة الماضية ..
ولقد كان السبب ببساطة أن أمجد
قد استنكر أن تكون الأسئلة في نهاية العام .. بلا مرجع ..
واستنكر التصحيح وطلب بمراجعة ورقته .. فلم يوافق الدكتور .. حتى دفع أمجد الآلاف الخمسة .. لتتغير النتيجة .. فينجح أمجد في الاختبار النظري .. ولكن ..
ليرسب بعدها في الاختبار العملي على يد هذا الإنسان الذي افترض أن يكون إنساناً ..
وأن يكون مربياً..
ولم يكتفي الدكتور بذلك ..
بل دخل في نقاش مع أمجد أكثر من مرة .. ليقلل من قدره .. ووصل به الأمر بسب أمجد أمام الكل ..
فكيف لطالب غر صغير وجاهل .. أن يطالب بإعادة تصحيح الورقة؟!
كيف يطالب مجرد إنسان .. بحقوقه ؟!
كيف يجرد الدكتور من سلطته وهيبته ؟!
ذلك ما لم يقبله هذا الظالم .. المتعجرف .. صاحب شهادة مزخرفة أتى بها من الخارج ..
حين يستضعف طائفة من البشر لا حول لهم ولا قوة ..
وأعاد أمجد سنة كاملة من حياته .. بسبب حقد تربى في عقل طفل كبير ..
وظن أمجد أن الموضوع قد انتهى ..
لكن أمجد لما قابله على بداية السنة ارتسمت على شفتي الدكتور ابتسامة باردة .. فضحت معانيها سريعاً بالامتحانات المفاجئة للدكتور مع بداية العام .. الأمر الذي لم يحدث قبلاً ..
والوحيد الذي نال الدرجات الأقل .. هو أمجد ..
ولم تجدي المحاولات المضنية .. والوساطات المشفقة ..
لم تجدي حتى اعتذارته للظالم ..
فقط كان يريد هذا الأخرق .. أن يفرد عضلاته ..
حتى رئيس قسم الطب الباطني .. قال بأن هذه المادة .. هي أم الطب ..
ولا بأس أن يرسب الناس فيها .. ولا بأس أن يفصلوا من الطب ..
إن لم يستطيعوا أن يجتازوا اختبارها ..
الاختبار الذي تحصل فيه العجائب .. بنجاح الأوائل على الكلية بدرجات منخفضة ..
ونجاح الراسبين في بقية المواد بدرجات عالية بدون سبب ..
الاختبار الذي لن يكفي قسمي له بأنه أشبه بلعبة حظ .. قد تخسر فيها بدون سبب ..
إلا بسبب الحظ ..
ووصل أمجد إلى الساعة الثامنة صباحاً .. وقد أرهقه التعب ..
وبدأ الألم يستشري في جميع أركانه ..
لم يستطع تحمل الضغط النفسي والجسدي ..
ولكنه قاد سيارته .. وهو يحاول أن يخرج الرمق الأخير .. حتى يفعل كل ما يجب عليه أن يفعله .. ليجتاز هذه المادة ..
وفي النهاية ..
مات أمجد ..
مات صاحب لي بألف صاحب .. مات إنسان يحمل من معاني الإنسانية
ما لا يمكن أن تجده إلا قليلاً في غابة الوحوش التي نعيش بها ..
صدق أن أمجد قد قضى حياته بين الجامعة .. و .. بين كتبه والملخصات ..
وأنه استهلك حياته الخاصة كلها في الجامعة ..
ضيع حياته الشخصية كلها بسبب المذاكرة ..
لقد كان يتمنى أن يموت سريعاً .. تمنى لو يصاب على الأقل بغيبوبة تمنعه من المذاكرة ..
فهو ولسوء الحظ من ذوي الضمير الحي في المذاكرة ..
بل إنه يلوم نفسه على دقائق الراحة أيام الدراسة ..
وقد يقول البعض .. لم يحمل نفسه كل هذا العناء ..
والجواب بسيط ..
إنه يكره الطب .. يكرهه مذ عرفه ..
يكرهه من الصف الرابع الابتدائي .. مذ تعلم الدورة الدموية ..
وإنه لمن الصعب أن تحفظ وأن تذاكر وتفهم ما لا تحب ..
إذا لماذا دخل الطب ؟؟
والجواب هنا يعرفه كل من تخرج من الثانوية العامة .. وكانت نسبته تؤهله لدخول كلية الطب ..
فإنه لن يتركك شخص .. إلا وأفتى لك بما لا يفقه ..
وقال ما قال .. مما قد سمعه من ذاك وذاك ..
لم يتركه شخص إلا ويقول : ادخل كلية الطب ..
بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ..
كلية الطب مركز اجتماعي ..
كلية الطب جاه ..
كلية الطب مال ..
حتى يكون وقتها من حدد هدفاً غير الطب مغفلاً .. لا يدرك مصلحته ..
وحتى يكون الذي يحب أي شيء غير الطب غراً ساذجاً
ولعلك تقول في نفسك الشيء ذاته ..
ولم يصاحب أمجد الكثيرين ..
كان الفتى له أمنية أن يسافر إلى الخارج كي يتعلم ..
في مكان تستطيع أن تحتار بنفسك طريق حياتك ..
وأن تقرر بهدوء ما تريد .. لا ما يريد أن يحقق الناس من أهداف فيك ..
أرهقه كثيراً الظلم ..
لم يتمكن من أن يعيش في مكان يظل فيه مروراً .. متواضعاً لأحط الناس أخلاقاً
_ وإن كان أعلاهم علماً _ ..
لم يستطع أن يتحمل أن يبقى في مكان لا ينفض عنه أحد آلامه ولا يضمد له جراحه ..
ويجبر له حقه المغتصب ..
مات أمجد وترك رسالة ..
وقال مازحاً :
هذه رسالة لكل من تسول له نفسه الدخول في كلية الطب ..
وإني هنا أحذرك .. إن كنت أحد طلاب كلية الطب ..
أو لا زلت طالباً في الثانوية العامة وكنت مقدماً على الانتساب في كلية الطب من أن تقرأها ..
وإني أعني فعلاً ما أقول .. بل أنصحك أن تقرأ الفصل الثاني مباشرة ..
وإني هنا أحذرك مرة أخرى .. وأنت الملام ..
وكانت هذه هي الرسالة ..والتي هي موجهة إلى ميادة..


من هي ميادة ؟


( الجزء الثاني )



بسم الله الرحمن الرحيم
هاهي رسالتي المتقطعة .. من سواد القلب الكالح .. تتدفق بسخونة ما بعد الاحتراق ..
رسالة كبقية الرسائل .. مملوءة بالآلام والأحزان .. مطعمة بالأوجاع .. مرصعة بالبؤس ..
مزركشة بالأشجان ..مصفدة بالتعب والإرهاق..
رسالة من حلكة الأثقال .. تخترقها سهام اللامبالاة والإهمال .. فتلقي بها جثة ماتت قبل أن تموت ..
هاهي رسالتي من بيت الموتى .. كما راق لأديب روسي أن يسمي مُبدعته ..
واسمحي لي يا ميادة أن أقول .. أن ما بي قد طمس بمادة كاوية كل أفراحي ..
فما استطاع تفكيري في أن أكتب إليك من أن ينسيني .. أو يزيل غمامة الحزن الجاثمة فوق أنفاسي ..
اعذريني يا حبيبتي على ذلك .. فللموت في شفتي الآن طعم أحلى من السكر .. ونكهة أروع من الليمون ..
وسأبدأ لأسرد لك سلاسل الألم التي تقيدني بحلقاتها الملعونة ..
إنها سلاسل الطب ..
ما كان الطب طريقي يا حبيبتي ..
ما كان أبداً ..
الطب دوامة فائقة .. تنتشلك من كيانك .. حتى لتكاد تحس بعمودك الفقري يخرج من القفص الصدري ..
الطب هو يوم لا يبدأ حتى ينتهي ..
يبدأ بافتراض أن تذاكر بعد صلاة الفجر ..
وهو الأمر الغير ممكن .. لا بسبب ال**ل .. وإنما كي لا تستنزف طاقتك
التي تتلاشى تحت وطأة التفكير شيئاً فشيئاً ..
ثم تنطلق إلى الجامعة .. حيث تقوم بجمع ما تجمع من مواضيع للمذاكرة .. وابتياع المذكرات .. والأوراق الخارجية ..
لينتهي نصف يومك تقريباً ..
فلا تلبث بعد عودتك أن تنام ما لا يكفي أن يعيد تركيزك إلى قدرته على الاستمرار ..
أو حتى لأن تكون واعياً لما يجري في الكون ..
وبعد هذا كله .. تبدأ بممارسة حياتك كطالب أو كطالبة ..طب ..
تبدأ بالبحث عما أُخبرت عنه في محاضرتك .. ثم تباشر الحفظ .. ذلك النوع من الحفظ
الذي لا يلبث أن يزول كما تزول كثبان الرمل مع عاصفة هوجاء ..
صدقي حتى وقت فراغك لا تهنأين به .. تحسين بوخز الضمير الفاتك .. وصوت يصرخ في كيانك .. يزلزل أركانك .. أن هذه الوقت ليس ملكك .. بل ملك كتبك .. ملك المذاكرة .. ملك الطب ..
ليس هذا فحسب .. بل إنك تحاسبين نفسك أيام الأجازات ..
فما عاد الأربعاء أربعاءً .. ولا عاد للخميس نكهة ولا رونق ..
صدقي أني أتعب كثيراً .. نفسياً وصحياً ..ورغم ذلك لا أحس بالرضا عن نفسي ..
أحس أنه ينبغي أن أعمل أكثر ..أرى الكثيرين ممن يعملون بجهد أكبر
.. فأحس أني أريد أن .. أبكي بقهر ..
أن أبكي كعجز .. واستسلام ..
وتحسين وقتها بطعم مر وحامض في لسانك .. وتمتليء الدماء في وجهك ..
وتسكبين تنهيدة أخيرة بعد الدموع .. يخرج مع لظاها بخار الدم المحترق ..
ثم ..
و ببطء ..
تذوبين رويداً رويداً .. كشمعة تنزف كيانها حتى يفنى ..
وتعودين كل يوم .. فتجمعين ما بقي من شمعة متحللة .. وتشعلينها مع أول صفحة تذاكرينها في كتاب الطب العظيم .. لتذوب مرة أخرى .. وأنت كل مرة تضعين فتيل الطموح .. وفتيل الإصرار ..
وفتيل الرغبة في النجاح .. وفتيل المحاولة .. وفتيل الحلم والأماني ..
أما علمت يا حبيبتي أن هذه الحلقات .. هي إحدى سلاسل الجحيم ..
أما أحست أن لها حسك يقطر منه السم ..
صدقي أن أنفاسك تتقطع .. وأنك تختنقين وأنت تتنفسين أرقى العطور ..
ها أنا أضع صدري على طاولتي ..على مذبح رهيب .. تناثرت على جنباته وسائل التعذيب بأنواعها ..
كتب .. أقلام .. دفاتر .. ورسوم بيانية .. ومحددات .. وأوراق لاصقة ..
ونفس كئيب .. وجو مكتوم .. ورائحة مشبعة بالمهام الغير منجزة .. تنتظر دورها في طابور المذاكرة ..
حتى كلماتي هذه محسوبة علي .. حتى رسالتي هذه .. تمنعني الدراسة من كتابتها
.. لا لأنها تأخذ وقتاً ..
فأنا أستطيع أن أكتبها في عشر دقائق الراحة التي أجعلها بين ساعات المذاكرة ..
وإنما لأنها متخمة بالرسائل السلبية كما يروق لأساتذة البرمجة اللغوية العصبية أن يسموها ..
مليئة بالإشارات التي لا تمت للإيجابية بصلة أو منطق ..
أتمنى أن أموت .. كي أتخلص من الأوجاع .. فلا أنا بحي .. ولا أنا بميت كل يوم أبدأ بعزم وصدق ..لكني أنتهي بألم يعصرني في نهايته ..
إما لأن الحياة النصف آدمية التي أحياها .. لا تتحمل جدولي القاتل .. المليء بمشاريع المذاكرة وتفاصيلها ..
وإما لأن الوقت الذي أخصصه لعمل ما .. لا يكفي .. فيطغى على بقية الأعمال ..
رغم أني يا حبيبتي أحاول أن أقدر كل شيء بحجمه ..
لا أدري كم سأستمر على الصمود .. فجدران قلعتي قد امتلأت بالشقوق ..
وقد تهدم الكثير من زواياها ..
وقد عم الخراب ببابها وأسوارها ..
هاهو الحمض بدأ بالصعود إلى فمي .. بعد أن ملأ أحشائي ..
وهاهي يداي ترتعد في مرض ..
وهاهي عيناي تفتحان على اتساعهما من الألم .. لترى الدنيا باهتة .. غير واضحة المعالم ..
وتفكير ينشل .. فلا أغدو دارياً عن الوجود من حولي ..
نغم حزين .. وصوت آهات تردد صداها الموحش في تجويف صدري .. وصور لأشخاص أعرفهم ..
تمر في ذهن متعب .. مكدود .. مملوء بالهموم .. صور محروقة الأطراف
.. مهترئة .. باهتة الملامح .. لا تلبث أن تختفي حالما تظهر ..
تحسين أن الناس يتحركون من حولك بالحركة البطيئة .. تسمعين وتحللين فتفهمين كل كلمة على حدى .. لكنك لا تستطيعين ربط الكلمات ببعضها لتعطي جملة واحدة ..
قد شرعت في كتابتي .. رغم أني حاولت ألا أكتب إليك .. فكلما بدأت لا أنتهي .. بل أصل إلى منتصف الطرق .. لم أستطع أن أكمل رسالة واحدة أصف لكِ فيها حالي .. فعندما أبدأ .. يبدأ عداد زمني قصير .. معلنا نقطة الانصهار .. فتُنثر شظاياي في كل مكان .. فأجمع حطامي لأبد من الصفر مرة أخرى ..
سأصمت عند هذا الحد .. فالكلام هو الكلام .. مهما اختلفت الصيغة .. أو تغير الإعراب ..
ولا يبقى لي شيء .. سوى أن أطلب منك أن تدعي لي ..
بأن يرحمني الله ..
أمجد
وطبعاً هذه الرسالة لم تصل لميادة ..
لمـــــــاذا ؟؟؟
ترقبوا الجزء التالث
لـ د/ خالد بوشامات "

( الجزء الثالث )

مازلت أيها السدة أحدثكم عن الفقيد الغالي أمجد..
أمجد الذي مات في ليالي .. لرب هي كم ليالي فلسطين التي يحس الإنسان أن مخرزاً
اخترق أذنه في شكل كلمات ..
لقد طلبت من أختي أن تذهب إلى ميادة ..
أتعرفون من هي ميادة ؟؟
إنها حبيبة أمجد ..
إنها حبيبة صاحبي ..
وما ستقرؤونه هو ما سمعته من أختي بالحرف ..
قالت أختي :
دخلتُ منزلها .. والذي كان على طراز تقليدي بسيط .. السجادة هاهنا .
والمجلات وبعض الجرائد فوق الطاولة .. رائحة طيبة..
لابد أنها رائحة المعطر التي وضعته أم ميادة قبل دخولي ..
جاءت أم ميادة وقالت : أهلا يا ابنتي ..
رمقتني في فضول لحظة ثم قالت :
أرى أنك أول مرة تأتين إلى ميادة .. هل هي زميلتك في الجامعة ؟؟
ارتبكت ولم أعرف بم أرد
فلقد جئت على طلب من أخي .. أن أذهب إلى ميادة .. أواسيها .. وأرى إن كانت تحتاج إلى شيء ..
ولم ينقذني من ذلك إلا مجيء الخادمة لتقدم لي كوب العصير ..
تناولت العصير وأنا مرتبكة ..
فقلت لها بارتباك : أجل ..
لا أدري لم َ لمْ تهتم كثيراً بإجابتي ..
لكني عرفت لاحقاً..
وقفت أم ميادة .. وقالت : سوف تأتي ميادة بعد لحظات ..
مضت الدقائق بطيئة ثقيلة .. مغلفة بصمت رهيب..
وبعد دقائق جاءت ميادة ..
والحقيقة أن ميادة لم تأتي .. بل شبح آدمي إ، جاز لي الوصف ..
فذلك الجسد الضامر الناحل الذي إن صح سميناه هزيلاً ..
وتلك البشرة الصفراء ..
تلك الخدود الذابلة ..
تلك العيون التي لم يبق فيها إلا العيون من الشكل ..
قد نمت تحتها هالة سوداء من الحزن ..
شفاه بيضاء .. كأنها غصن لم يمس الماء فقارب على الرماد ..
إنها وببساطة لا ترقى حتى إلى مستوى إنسانة ..
قابلتني بفستان أزرق داكن ..
اقتربت مني وصافحتني ..
فصافحتها بأقل ما يمكن .. فقد خشيت أن تتهشم أصابعها تحت يدي ..
ابتسمت لها ابتسامة صغيرة ..
فبادلتني بابتسامة تميت القلب حزنا وعطفاً عليها ..
أحسست أني لا أعرف بما أتكلم .. ووقفت هي تنظر إلي بعيون ميتة ..
قلت بصوت متحشرج ..
أنا ..أنا أخت يزيد .. صاحب أمجد ..
لا أدري هل هو تيار مسها أم ماذا ؟!
لقد انتفض جسمها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها .. وانقبض يداها ..وقالت وكأنها تتذكره :
أمجد ! .............
ابتعلت ريقي في ارتباك وقلت : حقيقة .. لقد طلب مني يزيد أن أزورك علي أساعدك في أي شيء ..
نظرت إلي وأغمضت عينيها وقال :
مساعدة ؟؟ مساعدة في ماذا ؟
ثم تنهدت وقالت : إذن علك تجاوبينني على السؤال الذي كلما سألت أحداً لم يجب ..
ثم حدقت في بعينيها .. ورحت أرى في داخلها جنوناً .. وراحت تشتعل تلك الحدقات .. ثم قالت :
متى يعود أمجد ؟
ارتبكت بشدة .. ولم أعرف كيف أرد .. يبدو أن الفتاة مصابة بلوثة في عقلها ..
ويبدو أنها قد جُنت فعلاً .. لقد وضعت نفسي في مأزق _ سامحك الله يا يزيد_ ..
ثم قالت بصوت خفيض .. حتى إنه ليبدو مهزوزاً غير واضح :
ما رأيك أن أريك غرفتي ..
فأومأت لها موافقة ..
ذهبنا إلى غرفتها .. غرفة نظيفة مرتبة .. وإن تناثرت بعض أغراضها الخاصة على سطح مكتبها ..
ولكن الغريب .. أنها لم تكن كأي بنت .. فلم أرى تسريحة .. ولم أرى علب المكياج والاكسسورات التي تملأ غرف البنات في العادة ..
جلستْ فوق سريرها .. وجلستُ أنا على كرسي ..
جلستْ وأنا خائفة أن يحصل لها شيء .. صمتت ولم تتكلم ..
ثم قالت بشبه ابتسامة : أنا آسفة .. إنني لا أعرف ماذا أقول .. أعرف أنك تظنينني مجنونة .. ولكنني ..
ثم راحت عيناها تذوب في الأرض وهي تتحدث ..والغصة تكاد تقتلها :
إنك لا تعرفين ..
أمجد هنا .. لم يذهب بالتأكد .. كيف يتركني ويذهب ؟؟
ثم أخذت تتطلع في أنحاء الغرفة :
هواءه ما زال في صدري .. صورته ماتزال مرسومة على قلبي .. صوته .. كل شيء مازلت أذكره ..
ولن أزال أتذكره ..
ثم ابتسمت ابتسامة مخنوقة وهي تقول : أنا آسفة يبدو أني أهذي .. أنا لا أحب أن أضايق أحداً ..
أرجو منك المعذرة ..
ثم ابتسمت ابتسامة مغتصبة مرة أخوى ..
قسماً برب رحيم .. إن حالتها تدمع لها الضواري والكواسر ..
ثم قالت : هل أنت متزوجة ؟
وكانت بذلك تغير الموضوع ..
فقلت لها بعد لحظة صمت : هل تحبين أن تتحدثي عن أمجد ..
إني بالفعل أود أن أستمع ..
صمتت برهة .. ثم نظرت في الجدار لبرهة .. ولوهلة .. ظننت أن خدها قد تورد احمراراً ..
جمعت أنفاسها .. ثم راحت تلعب بأصابعها لتقول : كان يحبني .. أجل كان يحبني ..
ثم ازداد تورد خديها .. فبدت كشجرة يابسة قد أزهرت .. وقالت :
كان لي كل الحياة .. فبقية حياتي : لم تكن تعني تعتبر شيئاً ..
فهو الهواء وهو الماء ..
هو الشجر واخضراره ..هو الرياح بجميل هبوبها..
هو المتعة والضحك .. هو البكاء .. هو الحزن والفرح ..
هو باختصار كل شيء ..
صدقيني كان كالبلسم .. تضعينه على الموت ليحيا ..
كان ولا يزال .. طيفاً ينسيني كل همومي .. حتى لو لم تحل ..
ولن أكذب عليك إن قلت لك إن أيامي في هذه الدنيا لم تعد إلا معه ..
ثم أخذت تبتسم وهي تقول :
تعلمين لقد بدأت أصلي وقتها .. قبلها .. لم تكن الصلاة لها أي وزن في حياتي ..
حياتي لم تعرف الإشراق إلا على يديه ..
لابد أن يزيد أخبرك عنه .. أعلم انه كان صديقه العزيز..
وقفت .. ثم ذهبت إلى درج مكتبها .. وأخرجت منه صورة في برواز خشبي صغير ..
ثم جاءت وقالت : انظري ..
كانت صورة جميلة .. لفتاة بديعة القوام .. لها ابتسامة خلابة.. ويبدو أن الصورة قد التقطت في ..........
وفجأة كأنما انطلقت شرارة في رأسي ..
ما هذا ؟؟
مستحيل !!!!!
هذه ميادة !!!
يا للهول ..
أي فرق شاسع ها هنا .. بل أي فرق .. حتى إنه لا يكاد وجه الشبه أن يكون موجوداً ..
إن هذه الفتاة في هذه الصورة لهي حورية تغار منها الأنوار .. وتحترق منها الشموس وتستحي منها الأقمار..
استحالة أن تكون هذه هي ميادة التي تقف أمامي ..
إنها _ وإن كانت بالفعل هذه صورتها _ قبل موت أمجد كانت نيلوفراً قد كلله الندى بمشهد يخطف الأبصار ..
ويسبي العقول ..
رحت أناقل نظري بين الصورة وبين ميادة ..
تراها ما تكون الآن ؟

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات