رواية عندما تنحني الجبال -1
عندما تنحني الجبال بقلم بلومي
الفصل الأول
جنازة
رفعت نانسي رأسها من فوق ركبتيها .. وتأملت بعينين خاليتين من التعبير قطرات المطر الخفيفة التي أخذت تهطل برفق بينما هي جالسة على الدرج الخلفي للمنزل الكبير الذي ولدت فيه وعاشت ما يقرب العشرين عاما .. في حين كان الصوت العذب للشيخ المنبعث من داخل المنزل وهو يتلو آيات قرآنية يتردد عبر المكبرات الصوتية .. ترى .. هل السماء تبكي عوضا عنها ؟ .. فقد جفت مآقيها وانعدمت قدرتها على البكاء .. واحتارت في أمرها .. هل تعتبر هذا قوة منها وصلابة في وضعها الصعب ؟ .. أم تلوم نفسها وتعتبرها خيانة لذكرى أبيها الذي مات منذ يومين بأزمة قلبية مفاجئة ؟
( نانسي )
لم تمنح حنان التي تعمل لدى العائلة منذ سنوات أي جواب .. إلا أن الأخيرة كانت تدرك تماما بأن مخدومتها تستمع إليها جيدا .. تمتمت :- المقرئ يتساءل إن كان بإمكانه الانصراف .. فهو يتلو القرآن منذ ساعات وصالة الاستقبال فارغة
كبتت نانسي وخزة الألم في صدرها .. توفي والدها .. ولم يحضر أي إنسان إلى جنازته .. أي من أصدقاءه أو شركاءه ..أو من الأشخاص الذين أمضو حياتهم يتزلفون إليه طلبا لرضاه .. أي من موظفيه أو جيرانه .. لقد اكتشفوا جميعا بعد وفاته أنهم قد نسوا كل ما قدمه لهم في حياته من تضحيات وعطايا .. هو الآن مجرم في نظر الجميع لا يستحق حتى مجرد قراءة الفاتحة على قبره .. نهضت قائلة بحزم :- فليستمر في القراءة حتى أطلب منه أنا التوقف
دخلت إلى البيت بخطوات حازمة .. لقد بكت كثيرا منذ سقط والدها ميتا .. بكت حتى لم يعد لديها ما يكفي من الطاقة لمزيد من البكاء .. وبعدها أدركت بأن البكاء لن ينفعها .. ولن ينفع الشخصين الآخرين اللذين بقيا تحت عهدتها .. صعدت بخطوات رشيقة إلى الطابق العلوي .. لتصادف إحدى الخادمات جالسة في الزاوية تبكي بمرارة
فصرخت فيها بعنف :- لا أريد بكاءا في هذا البيت .. هل تسمعين ؟
استدارت لتجد عددا من الخدم ينظرون إليها فصاحت :- إن رأيت أحدا منكم يبكي فسأطرده من هذا البيت في الحال
لم تحتمل نظرات الشفقة التي ارتسمت في أعينهم .. مما دفعها لأن تدخل إلى غرفتها وتصفق الباب خلفها بعنف وتتساءل .. ترى هل يعلمون ؟
هل يعلمون بأنهم سيغادرون هذا المنزل قريبا في جميع الأحوال ؟ بل أنها هي وعائلتها سيغادرون بلا رجعة ؟
سيغادرون البيت الذي عاشوا فيه لسنوات مستمتعين برفاهيته .. البيت الذي بناه والدها لأجل أمها عندما تزوجها منذ واحد وعشرين سنة ..
بدون وعي منها التقطت إحدى زجاجات العطر الثمينة المرصوفة على منضدة الزينة .. وألقتها على الجدار بكل ما تملك من قوة غير مبالية بتحطمها .. وبالشظايا الصغيرة التي تناثرت في جميع انحاء الغرفة .. نظرت إلى نفسها في المرأة لاهثة .. وذهلت امام الفتاة التي وجدت نفسها تنظر إلى صورتها .. بشرتها التي كانت دائما ذهبية متوردة .. كانت شاحبة وصفراء .. وعيناها بلونهما الحشيشي الأخضر .. والتان كانتا دائما مشرقتين ومليئتين بالحياة .. كانتا ذابلتين وقد احاطت بهما الهالات السوداء .. أغمضت عينيها بقوة .. لن ينفعها الحزن الآن .. ولن يساعدها الألم على متابعة حياتها .. لقد تعلمت الآن بأن الصديق الحقيقي هو من يبقى وقت الأزمات .. وقد اكتشفت الآن بأنها لم تمتلك يوما أصدقاء .. الكل كان يتزلف إليها ويتقرب منها ومن عائلتها طمعا في مصالح مادية أو اجتماعية .. أدركت الآن بأنها لا يمكن أن تثق بأحد ... لأنه لا وجود للقلب الصادق الوفي .. عليها ان تعتمد على نفسها فقط .
خرجت من غرفتها .. ودخلت إلى الغرفة المجاورة .. وما إن وقعت عيناها على المشهد الماثل أمامها حتى اختفت صلابتها .. وظهر التأثر في عينيها
كانت أمها .. المرأة الحسناء التي بالكاد تجاوزت الأربعين بقليل .. تجلس على سريرها الكبير .. بينما دفنت فتاة في الخامسة عشرة رأسها بين أحضانها .. تبكي بمرارة
رفعت أمها عينيها إليها .. فلاحظت نانسي ذبول وجهها الجميل .. والخصلات البيضاء التي تخللت شعرها الفاتح اللون والتي لم تكن موجودة سابقا .. مدت يدها إليها فاندفعت نانسي تعانق أمها بدورها بقوة .. أمضت ثواني وهي تستمد الحنان من صدرها الدافئ .. قبل أن تعتدل قائلة :- اطمئني يا أماه .. سيكون ككل شيء على ما يرام
لقد كان أمها صغيرة جدا عندما وقعت في حب سلمان راشد .. الشاب الطموح الوسيم صاحب الطموح الكبير.. والذي نجح خلال فترة قصيرة بأن يحقق ثروة طائلة .. وأن يمنح حبيبته الحسناء سلسلة العائلة العريقة .. الحياة المرفهة التي تستحقها .. وأن يمنح طفلتيه كل ما لم يستطع الحصول عليه في طفولته .. لقد كان أبا مثاليا .. وزوجا مثاليا .. كان يقول لنانسي باستمرار أن كل هذه الأموال لا تساوي شيئا إذا لم يتمتع الإنسان بالكرامة والكبرياء .. وأنها مهما حدث يجب ألا تفرط بكبريائها .. وكان أن اتهم سلمان راشد منذ أسابيع بتورطه بأعمال غير قانونية .. وبأن أمواله كلها كانت نتيجة مشاريع ممنوعة .. ففضل أن يلقى حتفه بأزمة قلبية على حياة المذلة والسجن
نظرت إلى وجه أمها الحزين .. كانت تبدو أكبر من عمرها بسبب الحزن والمرض الذي لم يتركها منذ اكتشفت حقيقة زوجها الحبيب ..وقعت عينا نانسي على صورة صغيرة لأبيها إلى جانب السرير .. كان وسيما وبشوشا .. لم تكن الابتسامة تغادر وجهه .. تذكرت ملامحه عندما اقتحمت الشرطة المنزل .. و واجهه الضابط بالتهم الموجهة إليه .. شحب وجهه .. واختفت ابتسامته .. وأثناء التحقيق .. قضى نحبه في السجن قبل حتى يحدد موعد المحاكمة
تمتمت الأم :- توقفي عن البكاء يا لينا .. علينا أن نتحدث
رفعت لينا وجهها الصغير المغطى بالدموع.. وقد تهدل شعرها الفضي حول وجهها .. فكرت نانسي بأنها صغيرة جدا على هذا العذاب .. هتفت الأم :- أنتما ناضجتان الآن وليس من حقي أن أخفي عنكما أي شيء .. لقد كان والدكما رجلا رائعا ...أبا صالحا .. وقد أحببناه بقوة وأحبنا بجنون .. وبذل كل جهده لإسعادنا .. ولكن لا وجود للإنسان المثالي والكامل .. لقد ارتكب سلمان العديد من الأخطاء في حياته .. وقبل وفاته صارحني بأن كل الاتهامات التي وجهت ضده كانت صحيحة
أغمضت نانسي عينيها بقوة بينما سدت لينا أذنيها بكفيها وهي تصيح :- توقفي يا أمي .. أرجوك
ولكنها لم تتوقف بل اكملت بقوة :- من حقكما أن تعلما هذا .. وأن تعرفا بأن والدكما قد سلك طريقا خاطئا ليمنحنا حياة مرفهة .. ولكن الحقيقة هي أنني كنت أتمنى لو أننا عشنا في غرفة حقيرة .. ولقينا من الفقر ويلاته على أن يحدث ما حدث .. أريدكما أن تفهما هذا وألا تنسياه على الإطلاق .. إن لقمة بالحلال هي أفضل من كل أموال الدنيا بالحرام
عادت لينا تبكي مجددا .. فأخذت الأم نفسا عميقا وهي تقول :- بالرغم من كل ما فعله .. أريد منكما أن تستمرا في حبه .. وفي تذكر أنه كان أروع أب في الكون .. وأنه ما كان أبدا ليسبب لكما الأذى .. لقد فعل ما فعله ظنا منه بأنه يوفر لكما السعادة .. ولكنني متأكدة بأنه لو عرف بما سيحصل للعن نفسه ألف مرة قبل أن يقوم به
صمتت لثواني قبل أن تقول :- كما تعلمان .. جميع ممتلكات والدكما قد صودرت .. حتى هذا البيت لم يعد لنا .. وعلينا ان نغادره خلال فترة محددة .. لذا .. أريد أن يكون لديكما فكرة عما ينتظرنا في المرحلة القادمة .. وهي لن تكون سهلة على الإطلاق .. سنضطر خلالها للتخلي عن كل ما اعتدنا عليه من رفاهية .. علينا ان نتوقع الأسوأ
تمتمت نانسي :- لا تقلقي يا اماه .. لن نخذلك
ارتفعت طرقات مهذبة على الباب .. وصوت حنان يقول :- آنسة نانسي .. السيد ماهر في الأسفل يطلب مقابلتك
اعتدلت نانسي قائلة :- استأذنك يا امي .. سأقابل ماهر
تمتمت أمها :- بلغيه تحياتي .. وشكري على زيارته
ألقت نانسي نظرة عابرة على نفسها في المرآة .. ومررت أصابعها بسرعة بين خصلات شعرها الذهبي الناعم .. ثم مطت شفتيها بضيق .. لكم تبدو بائسة
بينما هي تنزل الدرج .. تمكنت من رؤية ماهر .. صديقها وزميل دراستها يقف في الصالة .. يتأمل اللوحة الجدارية الكبيرة التي دفع والدها مبلغا كبيرا للحصول عليها
ماهر هو الصديق الحقيقي الذي بقي لها .. والذي لم يتركها منذ علم بقصة والدها .. منذ عرفته أول مرة في سنتها الجامعية الاولى .. أدركت معدنه الثمين وصدقه ونبل أخلاقه .. عندما رآها تنزل .. استدار إليها وتناول كفها الرقيقة وشد عليها برفق قائلا :- كيف حالك يا نانسي ؟
تمتمت :- بخير .. شكرا لك
دعته للدخول إلى إحدى القاعات الخالية .. فلاحظت محاولاته الجاهدة لتحاشي التقاء عينيهما خشية أن ترى الإشفاق في عينيه .. إن كان هناك من يفهمها حقا فهو ماهر
سألها :- كيف حال السيدة مريم ؟
:- أمي بخير .. ما زالت تحت تأثير الصدمة .. ولكنها بخير .. وتشكرك على لطفك
ساد صمت طويل بينهما دون ان يجد أحدهما ما يقال .. نظر ماهر حوله متأملا الصالة الفاخرة الأثاث .. ومعالم الثراء الموزعة في جميع زواياها .. لابد أنه هو الآخر يعرف .. فالبلد كله يعرف بأن أملاك سلمان راشد اللص الكبير قد صودرت جميعها .. تمتمت فجأة :- سأعود للمواظبة على الدوام في الكلية
اتسعت عيناه بدون تصديق .. لقد امتنعت عن الذهاب إلى الجامعة منذ ألقي القبض على والدها .. وتمزيق الصحف لسيرته شر تمزيق .. قال بقلق :- هل أنت متأكدة ؟
قالت بجفاف :- ما من داعي لبقائي في البيت .. هل تنتظر مني أن أعتزل الناس إلى الأبد ؟ لقد حان الوقت لأن أتابع حياتي .
بدا التفكير العميق في عينيه البنيتين قبل أن يقول :- أنصحك بأن تعيدي النظر في قرارك هذا يا نانسي
عقدت حاجبيها :- ماذا تعني ؟
قال بهدوء :- أرى أنه من الأفضل أن تنتظري لبعض الوقت قبل العودة إلى الجامعة .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل
شعرت بغصة ألم تخنقها .. لطالما كان ماهر صريحا .. صريحا بشكل مؤلم أحيانا .. ولكن ربما هذا ما يدفعها للثقة به .. إنه لا يعرف الزيف أو الكذب .. يقول فورا ما يفكر به دون اهتمام لآراء الآخرين
أوضح كلامه قائلا :- يجب أن تعرفي حقيقة الوضع الآن في الكلية يا نانسي .. لا سيرة للطلاب أو الأساتذة إلا قصة والدك .. إن موجة من الجنون تجتاحهم .. لا تنسي بأن أعداءك كثر في الكلية
نعم .. هي تعرف هذا جيدا .. لطالما كانت نانسي سلمان راشد الاسم الأكثر شهرة في الكلية .. لقد كانت الطالبة الأكثر شعبية بشخصيتها القوية وغرورها الذي يميزها .. لطالما كانت علاقتها بزملائها علاقة تفوق واستعلاء .. لم لا ؟ .. لقد كانت دائما الأفضل .. الأجمل .. الأكثر أناقة ..الأكثر تفوقا في الدراسة .. كما كانت علاقتها بالأساتذة وثيقة بسبب علمهم بأهمية والدها .. الكل كان حريصا على رضاها .. طبعا .. ليس كلهم
تمتمت بحنق :- هل تعني بأنني يجب أن أهرب وأختبئ عن الناس كالفأر الجبان ؟ أقسم على أن هذا ما يرغبون جميعا بحصوله .. ولكن لا .. لست أنا من تهرب من واقعها .. سأعود إلى الكلية كما كنت وأفضل .. لأثبت للجميع بأنني مهما حدث فسأظل نانسي راشد .. ولن أسمح لأي منهم بأن يتجرأ علي بكلمة
تنهد ماهر وهو يقول :- أعرف بأنني لن أستطيع تغيير رأيك يا نانسي .. ولكن تأكدي بأنني سأقف دائما إلى جانبك
تمتمت :- أعرف هذا يا ماهر .. وأشكرك على اهتمامك بي
صافحته بقوة عندما نهض ليغادر .. التقت عيناهما وهو يقول :- هل أراك في الغد إذن ؟
ابتسمت قائلة :- في مكاننا المعتاد
منحها ابتسامة تقدير لشجاعتها قبل أن يغادر المنزل .. بينما ألقت هي نفسها على المقعد وهي تزفر بقوة
هي تعلم جيدا بأن ما ينتظرها في الغد ليس سهلا .. ليس سهلا بالمرة
ولكنها لن تكون نانسي راشد لو لم تثبت للجميع بأنها ليست بحاجة لدعم والدها كي تنتصب شامخة في وجه الصعاب
الفصل الثاني
المنبوذة
أخذت نانسي نفسا عميقا قبل ان تغادر سيارة الاجرة .. تقف أمام بوابة الحرم الجامعي الكبير .. كانت متوترة للغاية ..إلا انها لملمت شتات نفسها .. وتأكدت من أناقة تنورتها وقميصها الأسودين .. لن يحدث شيء.. لن يحدث شيء .. بقيت تردد هذه العبارة بينما هي تعبر الطريق متجهة نحو مبنى الكلية .. لقد تمسكت بقوتها منذ بدأت مصيبة العائلة ولن تضعف الآن
سارت بخطوات حازمة بين الطلاب الذين امتلأت بهم الساحة .. وهي تكرر داخلها .. لن يحدث شيء
سرعان ما بدأت الانظار تتجه نحوها .. أخذ الجميع يبتعدون عن طريقها .. بدأت الهمهمات والضحكات الساخرة الخافتة .. أمسكت اعصابها وهي تضم قبضتيها بقوة .. تمكنت من سماع اسمها يتردد .. بل واسم والدها أيضا .. ثم شعرت بأحدهم يبصق على الأرض ما إن مرت إلى جواره .. تمكنت بصعوبة من الاحتفاظ بهدوء ملامحها .. رأت مجموعة من زميلاتها يقفن في الزاوية .. فاتجهت نحوهن وعلى شفتيها شبح ابتسامة :- صباح الخير
كان الرد الذي تلقته نظرات استنكار .. ثم ابتعادهن عنها دون أن يخاطبنها بكلمة .. شعرت وكأنها قد صفعت على وجهها .. هؤلاء الفتيات كن يركضن حولها كالذباب فيما مضى .. كل منهن كانت تسعى خلف رضاها .. كانت مثلهن الأعلى .. ووسيلتهن للوصول إلى دعم الأساتذة .. وعميد الكلية الذي كان يوليها اهتماما خاصا بسبب علاقته بوالدها
توجهت فورا إلى كافيتريا الكلية .. حيث وجدت ماهر ينتظرها على إحدى الموائد في الزاوية إلى جوار النافذة .. حيث اعتاد انتظارها باستمرار .. ما إن جلست إلى جواره حتى نهض أحد الشبان من مقعده قائلا بعنف :- أليس هناك من يتولى تنظيف المكان من القذارة ؟
ثم اندفع خارجا من المكان .. نظر ماهر بقلق إلى نانسي .. وإلى وجهها المحتقن وقال :- هل أنت بخير ؟ هل تفضلين أن نغادر المكان؟
قالت باقتضاب :- كلا .. فليغادر من لا يعجبه وجودي .. أنا لا أهتم
أمسك بيدها قائلا :- نانسي .. فلتعودي إلى البيت .. ولتنتظري حتى تهدأ النفوس .. أنت لا تعرفين ما المشكلة
أعطاها جريدة الصباح .. ولكنها لم تأخذها .. بل اكتفت بالنظر إلى الصفحة الاولى حيث كانت صورة والدها تتصدرها .. قالت بهدوء :- لن أهرب يا ماهر .. هذا أمر علي مواجهته
نظرت إلى ساعتها ثم نهضت قائلة :- ستبدأ محاضرتي بعد قليل
قال :- لا محاضرات لدي .. سأنتظرك هنا .. وإن شئت أرافقك
ابتسمت له رافضة .. ثم تركته متجهة إلى المدرج حيث سيلقى المحاضرة أكثر أساتذة الكلية كرها لها .. إن لم يكن الوحيد .. دخلت إلى القاعة حيث كان الطلاب يثرثرون في انتظار الأستاذ .. إلا أن صمتا رهيبا أطبق على المكان عندما دخلت .. الكل كان يحدق بها .. بين غاضب ومتهم ..ومستنكر .. استجمعت شجاعتها وسارت نحو الصف الأيمن من المقاعد وجلست على المقعد الأخير .. وجلست .. وخلال ثوان كان جميع الطلاب قد انفضوا من حولها تاركين الصف الذي تجلس فيه خاليا.. بينما تجمعوا كلهم في الصفوف الباقية .. ضمت يديها إلى بعضهما .. وحدقت بهما بإصرار .. لن أبكي .. ولن أخرج من القاعة .. كانت تحتاج إلى كل شجاعتها كي لا تهرب تاركة المكان
صباح الخير
دوى صوت الدكتور الحازم والقوي وهو يدخل المدرج .. رفعت عينيها بضيق .. ليتها هربت قبل أن يراها الدكتور محمود فاضل بهذا الوضع .. كان الدكتور محمود أصغر دكتور في الكلية وقد تمكن بجهده وذكاءه من الحصول على درجة الدكتوراه قبل أن يتجاوز الثلاثين .. كانت له شعبية كبيرة بالرغم من ندرة تواجده في الكلية .. إذ أنه موجود فقط لإلقاء محاضراته .. ثم يختفي بعدها بلا أثر .. المعلومات المتداولة عنه بين الطلاب لم تكن كثيرة .. فغير كونه رجل ذكي ذو شخصية قوية وطاغية .. كانوا يرددون شائعات عن إدارته لأعمال عائلته الناجحة .. والتي تفسر أناقة ملبسه وكبرياءه الظاهرين .. نظرت إليه فالتقت عيناها بعينيه العسليتين الشبيهتين بعيني الصقر .. حاولت جهدها أن تتظاهر بالقوة والكبرياء .. وألا تمنحه فرصة السخرية والشماتة من وضعها .. إلا أنه قال بصوت صارم :- ما الذي يحدث في هذه القاعة ؟ لماذا يتجمع الطلاب في مكان واحد ؟ فليتوزع الجميع على كل المقاعد حالا
تبادل الطلاب النظرات بتوتر .. قبل أن يضرب سطح المكتب بقبضة يده صائحا :- حالا وبدون نقاش
بدأ الطلاب يتزحزحون من أماكنهم على مضض .. بينما شعرت نانسي بأظافرها تكاد تدمي راحتيها .. رافضة رفع رأسها .. نانسي تعرف بالضبط ما وراء موقف أستاذها الإيجابي .. لقد كان يهدف إلى إذلالها وإشعارها بأنها تدين له بعد الشجار العنيف الذي دار بينهما قبل أشهر قليلة .. والذي كان سببه هو عدم خضوع هذا الأستاذ لسلطتها .. ورفضه لمنحها أي امتياز عن غيرها من الطلاب .. بل كان يتعمد أحيانا جلدها بكلماته السليطة أمام الجميع بقصد إحراجها والتقليل من شأنها .. وعندما فعلت كما تفعل عادة مع كل أستاذ عنيد .. وعرضت عليه المال والمركز .. كان رده عنيفا .. سيلا من الاتهامات والإهانات القاسية .. تذكر بأنه قال لها ببرود :- أنت طفلة مدللة وفاسدة يا آنسة نانسي .. ولدت وفي فمك ملعقة نم الذهب .. واعتدت على خضوع الجميع لنزواتك .. ولكن هذا لن يستمر .. سيأتي يوم لن تجدي فيه يدا تمتد لك .. بل ستجدين من سيصفعك بقوة ويعيد تربيتك من جديد
كان هذا كثير بالنسبة إلى نانسي .. فانفجرت به تتوعده بأنه لن يبقى أستاذا في هذه الكلية .. بل هو لن يجد مكانا يأويه لأنها ستظل خلفه حتى ترميه في الشارع .. انتهى الشجار بأن طلب هو من أحد الموظفين إخراجها من مكتبه .. ومنذ ذلك الحين .. لم يتبادلا كلمة واحدة .. ولكنها ظلت تحضر محاضراته بتحدي لتثبت له بأن كلماته لم تؤثر بها أبدا .. والآن .. دافع عنها أمام جميع الطلاب وكأنه يقول لها صراحة بأنها لم تعد تساوي شيئا .. وأن كل ما تستحقه الآن هو شفقته
حاولت طوال المحاضرة ألا تنظر إليه كيلا تلتقي نظراتهما .. ولكنها رغما عنها كانت تسترق النظر إليه .. كان يلقي محاضرته بأسلوبه الأنيق والذكي والشيق .. وقد احتلت الفتيات جميع المقاعد الأمامية طمعا في لفت انتباهه .. لم لا ؟ .. لقد كان الدكتور محمود يمتلك كل مواصفات فارس أحلام أي فتاة .. قامة طويلة .. كتفين عريضتين لجسد قوي متناسق ..تكسوه دائما حلة أنيقة داكنة لتمنحه صورة الأستاذ القدير ..
شعر داكن كثيف .. وملامح وسيمة قوية .. وعينين بلون الجوز قادرتين على خلب لب أي طالبة .. حتى هي .. لم تكن تنكر الجاذبية التي يتمتع بها .. رغم اختلافها عن الأخريات .. فنانسي راشد لا يمكن أن تخضع لجاذبية رجل .. فهي تعرف مسبقا بأنها لن تجد أبدا رجلا كفئا بما يكفي ليستحقها ..
انتهت المحاضرة .. وخرج الدكتور دون أن يلقي عليها أي نظرة .. بقيت مكانها تنتظر الجميع حتى خرجوا .. ثم لملمت شتات كبريائها وخرجت لتلاقي ماهر في الكافيتريا ..
منذ تعارفهما الأول في السنة الأولى .. ربط الجميع اسمها باسم ماهر .. وسرت حولهما الكثير من الأقاويل بسبب تلازمهما المستمر طوال السنوات الماضية .. كان ماهر وسيما .. يتمتع بقدر وافر من الجاذبية .. بشعره العسلي الأجعد وعينيه البنيتين الدافئتين .. كان هناك خشونة في بعض ملامحه ولكن بدون شذوذ .. مما منحه مظهرا رجوليا جذابا .. ومع هذا .. ما كانت نانسي تكن له إلا مودة الأخوة والصداقة .. ورفضت اتهامات وتلميحات الكثير من زميلاتها عن مشاعره الخفية نحوها .. ماهر كان دائما الأخ الذي لم تحظى به
كان هناك الكثير من الشبان الذين حاولوا كسب رضاها ونيل إعجابها ..وقد ارتمى الكثير من زملائها أمامها مصرحين بإعجابهم بها .. ولكنها كانت دائما تصدهم بسخرية قاسية .. مع الوقت .. وعندما أدرك الجميع بأن غرورها وكبريائها سيصدان أي شاب يقترب .. كانوا يكتفون بمراقبتها من بعيد بأعين الإعجاب والرغبة أحيانا وهي تخطو بقامتها النحيلة والرشيقة عبر ممرات الكلية .. بجمالها الغريب ذي الجاذبية الخطرة .. المتمثل ببشرة ذهبية تناقضت بشدة مع لون عينيها الصارخ الخضرة .. وملامحها الناعمة المتناسقة ..وشفتيها الممتلئتين .. وشعر ذهبي ناعم يتراقص دائما حول كتفيها بإشراق وحيوية
رفع ماهر عينيه نحوها ونهض مستقبلا إياها قائلا بقلق :- كيف كانت المحاضرة ؟
تمتمت وهي تلقي بنفسها على نقعدها :- سيئة للغاية .. كيف يمكن ألا تكون كذلك مع محمود فاضل ؟
قال مترددا :- ولكنني سمعت بأنه كان إيجابيا معك
عبست قائلة :- هذا رائع .. هل وصلت الأخبار إليك بهذه السرعة .؟ ذلك المغرور .. الحشرة المتسلقة اجتماعيا .. لقد هدف إلى إذلالي وإهانتي بتصرفه
قال ماهر :- الدكتور محمود ليس سيئا إلى هذا الحد يا نانسي
قالت بغيظ :- أعرف تماما بأن علاقة وثيقة تربطكما .. ولكن لا تتوقع مني أن أشكره .. أنا وحدي من يعرف الهدف الرئيسي من تصرفه الظاهر النبالة .. الرجل يكرهني .. وقصده كان كسب نقطة ضدي
غمغم :- لم يبدو عليه أنه يكرهك كما تظنين يا نانسي .. أعتقد بأنه ناضج كفاية حتى ينسى شجاركما
حدقت به للحظات قبل أن تقول :- هل تحدثت معه عني ؟
قال بضيق :- ليس بالفعل .. كل ما في الأمر أنني قابلته صباحا في مكتبه .. وخلال حديثنا سألني عنك بشكل عابر .. إن كنت بخير في الظروف ا لحالية
سألته متجهمة :- وكيف أجبته ؟
:- بأنك كنت دائما قوية وقادرة على الوقوف في وجه الصعاب .. هل ظننت بأنني سأتكلم عن ظروفك حقا من وراء ظهرك ؟
هكذا إذن .. لقد كان قلقا .. يرغب بسماع أخبار عن يأسها وتعاستها .. قالت بجفاف :- لا .. أعرف بأنك لن تفعلها
نهضت قائلة :- سأعود إلى البيت .. إن بقيت في هذا المكان أكثر سأقتل أحدا
ثم أردفت ساخرة :- ألن تجن المدينة من الفرح إن فعلت ؟ فضيحتان خلال فترة قصيرة .. سيجد الناس الكثير ليثرثروا حوله
نهض بدوره وهو يقول بانزعاج :- هذا نوع سخيف من المزاح يا نانسي .. سأوصلك بسيارتي
:- لا تتعب نفسك
بعد تخليها القسري عن سيارتها وسائقها الخاص المكلف دائما بأخذها أينما شاءت .. لم يكن من السهل على نانسي السماح لأحد بإيصالها .. حتى ماهر .. أكملت قائلة :- سأسير إلى البيت .. أشعر برغبة في المشي
:- سأسير معك قليلا ثم أودعك
ظلا صامتين حتى خرجا من مبنى الكلية .. متجاهلين النظرات التي لاحقتهما خلال سيرهما .. وعندما استدارت لتودعه .. لاحظت شابا يقترب منهما .. يحيط به اثنين من رفاقه وفتاة رقيعة تتأبط ذراعه .. إنها تعرف هذا الشاب .. بل يعرفه جميع طلاب الكلية .. بسمعته السيئة .. وسيرته الممتلئة بالمشاكل الأخلاقية .. نفشت نفسها بكبرياء وقد أدركت بأنه يستهدفها .. وقبل أن تكمل تساؤلها عما يريده منها كان قد وصل إليها .. استدار ماهر نحوه متحفزا :- ما الذي تريده يا جابر ؟
لوى جابر فمه ساخرا وهو يقول :- لا تتوتر يا زميلي العزيز .. إنما أردت إلقاء التحية على ابنة الحسب والنسب
امتعض ماهر من مناداته له بالزميل :- ارحل من هنا وإلا ندمت
نظر جابر إلى نانسي التي كانت ترمقه بازدراء وقال متهكما :- الرحيل هو ما كان ينتظره الجميع من ابنة القصور المحترمة .. أن تختفي عن وجه الأرض بمجرد أن يوجه نحوها أحدنا كلاما .. ألا تجد الجرأة على رفع رأسها في وجه أي كان .. ولكنها أتت إلى هنا بكل صفاقة .. دون خجل مما فعله والدها .. أليست هي ابنة ذلك اللص الذي مات كالجرذ الحقير في السجن ؟
انتفض جسد نانسي بعنف عندما ذكر عبارته .. وغلى الدم في عروقها .. أمسك ماهر يدها بقوة محاولا تهدئتها .. بينما أكمل جابر :- ما الذي جئت تفعلينه هنا ؟ هه .. هل جئت تستجدين الأخرين طلبا للمال ؟ كي تأكلي .. أم لتحافظي على مظهرك الأرستقراطي ؟
ضيق عينيه .. واقترب منها وهو يرمقها بنظراته الصفيقة من راسها حتى أخمص قدميها وهو يقول بوقاحة :- أعرف طريقة سهلة وممتعة للغاية لكسب المال يا حلوتي .. حيث أن ...
وقبل أن يتم عبارته .. سقطت كفها على وجهه بصفعة عنيفة جعلته ينتفض بقوة .. ويرفع يده تلقائيا إلى وجهه الذي ارتسمت أصابع نانسي عليه .. وخلال لحظات احتقن وجهه وهجم محاولا الوصول إليها لولا أن اعترضه ماهر بجسده .. بينما كانت نانسي تقول بصرامة :- أنت هو الشخص الذي يحتاج إلى المال يا جابر ..اسمك جابر صحيح ؟.. جابر ونيس .. ومن لا يعرف الطالب الذي كاد يكمل عشر سنوات في الكلية دون أن يتخرج ؟ .. ولم يفعل إن كان يكسب رزقه من الإتجار بالممنوعات .. والنصب على الطلاب السذج .. أو التحرش بالفتيات .. أخبرني يا جابر .. أصحيح ما سمعته بأن والدك قد طردك من المنزل ؟ لأنه قد أبى أن يعترف بك ابنا حتى لا تجلب له العار ؟
أبعد جابر ماهر عنه .. وأصلح ثيابه وهو ينظر إليها بطريقة أخافتها حقا .. قال ضاغطا على حروف كلماته :- ستندمين كثيرا يا عزيزتي .. ستدفعين ثمن هذه الصفعة غاليا .. وأؤكد لك بأنني سأستمتع كثيرا وأنا أقبضه منك
مسح جسدها مجددا بنظراته القذرة .. قبل أن يرحل مع رفاقه .. وقفت نانسي للحظات تحاول طرد ذلك الشعور الذي جعل جسدها يقشعر .. هتف بها ماهر بقلق :- نانسي .. هل أنت بخير ؟
تمتمت :- أنا بخير .. أراك غدا يا ماهر
استدارت مبتعدة قبل أن يرى دموعها .. أو يراها أحد الجماهير التي اجتمعت لتشاهد الموقف .. فلم تر الشخص الذي وقف في طريقها .. والذي اصطدمت به بعنف سقطت على إثره كتبها على الأرض ..
انحنت تجمعها وهي تهتف بصوت مرتجف :- عفوا
وعندما اعتدلت .. رفعت عينيها لتر آخر شخص تمنت أن تراه في لحظة كهذه .. لقد كان محمود فاضل .. والأسوأ .. أن نظرته الحادة استقرت على الدمعة الوحيدة التي فرت رغما عنها من عينها
بدون أي كلمة إضافية .. انسحبت نانسي مسرعة .. قبل أن تتعرض لمزيد من الإهانات في هذا اليوم الصعب
الفصل الثالث
الضحية
سارت نانسي لاول مرة على قدميها نحو منزلها .. لحسن حظها ان الطريق لم يكن طويلا .. ولكن لدهشتها .. فالطريق الذي تسير فيه للمرة الاولى خلب لبها بجماله وهدوئه .. إذ انها وما إن ابتعدت عن الطرقات الرئيسية .. دخلت في الشوارع الجانبية التي اصطفت على جانبيها المنازل الأنيقة والفخمة .. المحاطة بالحدائق الغناء .. أذهلها هدوء المكان الشديد .. إذ بدا وكأن لا أثر للحياة فيه .. فكرت للحظة بأن انفجار قنبلة وسط هذه المنازل لن يهز شعرة من سكانها .. خاصة لو كانوا على شاكلتها .. فهي ما اهتمت يوما بما يحدث حولها .. وبما يدور خارج منزلها الكبير .. منزلها الذي لن يعود كذلك قريبا
عندما وصلت أخيرا .. كانت متعبة للغاية .. وقد لاحظت عليها حنان هذا وهي تقول :- هل أسخن لك الغداء ؟
تمتمت نانسي بإرهاق :- لا يا حنان .. كل ما أريده هو أن أنام
كانت معتادة على مناداة حنان لها باسمها .. فحنان لم تكن أبدا مجرد خادمة عادية .. لقد ترعرعت في هذا المنزل إلى جانب نانسي عندما كانت والدتها تعمل فيه قبل وفاتها .. غادرت حنان عندما تزوجت لعامين .. ثم عادت بعد طلاقها لتعمل من جديد في المكان الذي لم تعرف غيره منزلا .. عندما دخلت نانسي إلى غرفتها .. وجدت لينا تجلس على حافة سريرها ممسكة بصورة والدهما .. كان وجهها البريء شاحبا .. وقد اختفى اللون الوردي الذي قلما فارق وجنتيها في الماضي .. وعيناها الزرقاوان كانتا حزينتين للغاية .. سألتها بهدوء :- كيف كان يومك في الجامعة ؟
كذبت نانسي قائلة :- لقد كان جيدا للغاية
جلست إلى جانبها وتناولت منها الصورة .. وأخذت تتأملها بدورها صامتة حتى سألتها لينا :- نانسي ... أمازلت تحبينه ؟
سألتها نانسي بحذر :- أتعنين أبي ؟
قرأت الإجابة في عينيها فقالت بهدوء :- طبعا ما زلت أحبه .. فهو بالرغم من جميع أخطاءه كان أبا رائعا ومثاليا .. ولم يقصر بحقنا قط
كتمت داخلها صوت هتف بحدة :- ألم يخطئ بحقكما عندما حطم حياتكما بما فعله ؟
رسمت ابتسامة على شفتيها وهي تقول :- هل تذكرين المرات التي كان يجلسك فيها على ركبتيه ويهزك كالطفلة قائلا بأنه لن يسمح لك أبدا بأن تكبري ؟ .. لقد كنت ابنته المدللة
تمتمت لينا قائلة :- لماذا أجد نفسي غير قادرة على مسامحته ؟
أحاطتها نانسي بذراعها بحنان وهي تقول :- ستسامحينه يا نانسي .. أنت تحتاجين فقط لبعض الوقت
صمتت لينا للحظات قبل أن تقول :- لا أستطيع العودة إلى المدرسة
وقبل أن تقول نانسي أي شيء انفجرت لينا قائلة بعنف :- لا أستطيع ان أواجه الناس أو زميلاتي في المدرسة .. أو معلماتي اللاتي كن يميزنني عن غيري بسبب أبي .. أنا لست بقوتك وشجاعتك يا نانسي .. أريد أن أبقى في البيت حتى ينسى الناس من هو سلمان راشد
أخذت تبكي بحرقة .. فما كان من نانسي إلا أن تمتمت :- ليس عليك أن تعودي إلى المدرسة حتى تشعري بأنك مستعدة لهذا
ثم نهضت قائلة :- أين أمي ؟
:- إنها في غرفتها .. تعاني من الصداع كالعادة .. وتنتظرك حتى تتحدث إليك
عندما دخلت نانسي إلى غرفة أمها .. وجدتها تعيد سماعة الهاتف إلى مكانها وعلى وجهها خيبة أمل كبيرة .. سألتها :- ألم تعثري على خالي بعد ؟
هزت رأسها نافية :- لا .. أنه لا يرد على هاتفه المحمول .. أو على هاتف منزله في مارسيليا
جلست نانسي إلى جوارها على الأريكة التي توسطت الغرفة .. خالها فوزي هو القريب الوحيد الذي بقي لهم .. فوالدها يتيم بلا أخوة .. وجداها لوالدتها متوفيان منذ سنوات .. سألتها نانسي بقلق :- كيف تشعرين اليوم ؟
ابتسمت أمها بشحوب وهي تقول :- أفضل بكثير
ولكن نانسي كانت تعرف بأن أمها تكذب .. فمنذ وفاة والدها ووالدتها تذبل كما لو أنها لم تعد تجد سببا لتعيش لأجله
تمتمت :- أخبرتني لينا بأنك أردت رؤيتي
اعتدلت أمها وهي تقول بجدية :- هذا صحيح .. يجب أن نتحدث عن تركنا لهذا البيت يا نانسي .. يجب أن نجد مكانا آخر يأوينا في أقرب وقت
سألتها نانسي بحذر :- وهل لديك أي اقتراحات ؟
:- أنت تذكرين منزل الشاطئ الذي يمتلكه خالك .. لقد ذهبنا إليه عدة مرات برفقته .. أظن من الأفضل أن ننتقل إلى هناك لفترة من الزمن .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل .. قبل أن نعود من جديد ونختلط بالمجتمع كغيرنا من الناس
اتسعت عينا نانسي وهي تقول :- هل تريدين منا أن نهرب يا أمي ؟
بدا الألم على وجه أمها وهي تقول :- نعم يا نانسي .. نحن غير قادرين على مواجهة غضب الناس ونبذهم لنا .. فكري بلينا .. إنها صغيرة جدا على أن تساء معاملتها بسبب ما فعله والدها
نهضت نانسي وهي تقول بحزم :- لا .. أنا أرفض أن أهرب بهذه الطريقة .. على الناس أن يتقبلونا كما نحن .. بل وأن يحترمونا أيضا
أمسكت بيد أمها وهي تقول برجاء :- أرجوك يا أمي .. لا أريد أن نبدأ حياتنا الجديدة بالهرب كالجبناء .. امنحيني فرصة واحدة فقط .. سنبحث عن شقة صغيرة في أي حي بسيط .. وسأجد وظيفة ما .. لا بد أن يكون هناك من هو بحاجة إلى توظيف طالبة اقتصاد في السنة الثالثة
بدا الاعتراض على وجه امها ولكنها منعتها وهي تسرع في القول :- لا تعترضي يا أمي .. أعدك بأن الأمور ستتحسن
قالت الأم :- أنا من عليه البحث عن وظيفة .. يجب ألا تهملي دروسك قبل أن ...
قاطعتها نانسي بحزم :- لن تتعارض الوظيفة مع الدراسة .. أعرف الكثير ممن يعملون ويدرسون في الوقت نفسه .. وأنت غير قادرة على التفكير بالعمل حتى تتحسن صحتك
ترقرقت الدموع في عيني أمها الجميلتين .. وعرفت نانسي بانها تتذكر زوجها الراحل .. وتلومه على كل ما يحصل وإن أبت أن تظهر مشاعرها لبناتها ..
عندما خرجت من الغرفة .. وجدت نانسي حنان في انتظارها تقف في الممر .. فاقتربت تسألها :- هل من خطب يا حنان؟
قالت حنان :- نانسي .. أنا أعرف كل شيء عن ظروفكم الحالية .. وأعرف بانكن مضطرات لترك هذا البيت في وقت قريب
أحست نانسي بطعنة ألم لسماع الحقيقة .. ولكنها أخفت مشاعرها منتظرة ما ستقوله حنان التي أكملت :- أريد البقاء معكن ..أن أرحل معكن إلى أي مكان تقصدونه
استوعبت نانسي بسرعة ما تقوله حنان .. ثم أسرعت تقول :- كنت اتمنى هذا يا حنان .. أنت تعرفين بأنك فرد من العائلة .. ولكننا لن نعود بقادرين على دفع راتبك كالسابق
قالت حنان بهدوء :- أنت تعرفين جيدا يا نانسي بان راتبي لم يكن يوما سبب بقائي هنا .. فأنا لم أعرف غير هذا المكان منزلا .. وغيركم عائلة بعد وفاة أمي .. وبعد طلاقي .. أصبحتم فعلا آخر من تبقى لي .. لا مكان آخر أقصده إن رحلت من هنا .. كما انني لا أريد راتبا .. أريد الإقامة معكن .. والمساهمة في تحمل مسؤولياتكن الجديدة .. سأستمر في العمل .. في الطهي والتنظيف .. وإن اضطررت فسأعمل كي أساهم في مصاريف البيت
منعت نانسي نفسها من البكاء تأثرا بصعوبة وهي تقول بخفوت :- لست مضطرة لتقديم التضحيات للبقاء معنا يا حنان .. يكفي انك الانسان الوحيد الذي احبنا بصدق واعتبرنا عائلته
أشرقت عينا حنان وهي تقول :- هل هذا يعني أنني أستطيع الرحيل معكن ؟
أومأت نانسي برأسها .. فما كان من حنان إلا أن عانقتها بقوة .. مسحت نانسي دمعتها الفارة .. على الأقل .. هناك شخص على وجه الارض تستطيع الثقة به
:- وظيفة ؟؟؟؟
نطق ماهر بالكلمة باستنكار وهو ينظر إلى نانسي التي ردت بضيق :- نعم .. وظيفة .. أين الغريب في هذا ؟
قال ماهر صريحا كعادته :- في الواقع لم أتخيلك يوما كفتاة عاملة .. بل ..
لم يستطع إكمال عبارته .. ففعلت هي بلهجة حادة :- طفلة مدللة تحصل على كل ما ترغب دون جهد
هز كتفيه قائلا :- لم أقصد الإهانة .. بل قصدت بأن هذا ما تستحقينه .. على كل حال.. أنا لا أعرف حقا أين يمكن أن أبحث لك عن وظيفة مناسبة لك
قالت باهتمام :- ماذا عن شركة الاتصالات التي تعمل أنت فيها ؟ أما من مكان شاغر ؟
قال مفكرا :- لا أعرف .. سأستفسر عن هذا .. وإن شئت سأسـأل بعض معارفي عن أي وظيفة متاحة
قالت بامتنان :- سأكون شاكرة لك لمساعدتك لي
سألها باهتمام:- هل وجدت سكنا مناسبا ؟
هزت رأسها نافية :- أنا أبحث منذ أسبوعين دون جدوى .. لا أجد مكانا مناسبا لذوق أمي
لم تستطع إخباره بأن المشكلة تكمن في الإيجارات المرتفعة والتي لا تناسب وضعهم الجديد
قال بجدية :- هل تريدين أي مساعدة ؟
أسرعت تقول :- لا .. أنا أتدبر الأمر جيدا
لم تكن تريده أن يعرف التفاصيل الدقيقة لظروفهم الصعبة .. نهضت قائلة :- علي العودة إلى البيت قبل حلول الظلام
نهض بدوره قائلا :- وأنا لدي موعد بعد نصف ساعة
قالت مداعبة :- أهو موعد غرامي ؟
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لم أسقط إلى ذلك الدرك بعد
غادرا مبنى الكلية .. ثم انفصلا عند بوابة الجامعة كالعادة .. كانت نانسي تواظب على الدوام منذ 3 أسابيع .. دون أن تلاحظ أي تغيير في ردة فعل الطلاب .. ما زالت الأنظار تتجه إليها أينما سارت .. وما زالت التعليقات تلاحقها باستمرار .. والكل يتحاشاها ويرفض الاحتكاك بها .. لقد نسوا تلك الأيام التي كانوا يسعون فيها راكضين خلف رضاها
سارت كالعادة مشيا إلى البيت .. فقد أدركت بأنها يحب أت تنسى رفاهية التنقل بسيارات الاجرة اقتصادا في المصروف
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك