رواية عندما تنحني الجبال -12
قال بصوت أجش :- لم تخسري كل شيء يا نانسي .. ما زلت تملكين قلبي .. أنا أحبك .. ولن اتوقف لحظة واحدة عن حبك
استدارت نحوه صائحة بشراسة :- إياك أن تتكلم عن الحب يا محمود .. أنت لا تعرف ما هو الحب .. وان تعرف أبدا ما يعني ان يضحي الانسان لأجل من يحب وان يتقبله كما هو بعيوبه وزلاته لأنه يحبه
أغمض عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا .. ثم قال بإصرار :- مهما رفضتني سأظل اكررها لك حتى تصدقيها وتؤمني بحقيقتها .. انا احبك يا نانسي .. احبك ومستعد لفعل أي شيء لتعويضك عن كل ما سببته لك من ألم .. اطلبي أي شيء .. أي شيء وسأنفذه لك فورا .. فقط امنحيني الفرصة .. فرصة واحدة لأثبت لك أهميتك لدي ومدى حبي لك
نظرت إليه من بين دموعها وقد شع بصيص من الامل داخلها .. أهذا ممكن ؟ هل هناك أمل ولو بسيط في ان تجد السعادة مع زوجها الذي تحب بلا أي عوائق أو شكوك ؟
لاحظ ترددها فأشرق الأمل داخله .. وعندما تكلمت أخيرا تمتمت :- لدي شرط واحد لأي تفاهم بيننا يا محمود .. شرط واحد قد يدفعني تنفيذك له إلى التفكير بكامل علاقتنا
أسرع يقول بلهفة :- اطلبي ما شئت
صمتت للحظات طويلة قبل أن تقول :- شرطي هو ان تخرج عائلة عمك من حياتنا تماما .. أن تغادر منزلك .. أو نغادره نحن .. علاقتك بهم يجب أن تقتصر على عملك مع عمك لا أكثر
ساد صمت طويل جمد خلالها محمود للحظات وقد صدمه طلبها .. ثم قال بتوتر :- أنت تطلبين مني التخلي عن عائلتي يا نانسي .. عمي لم يكن يوما مجرد عم .. كما لم تكن زوجته مجرد زوجة عم .. لا أستطيع إخراجهم من حياتي بهذه السهولة فقط لإرضاء إحدى نزواتك
أحست نانسي وكأن طعنة نجلاء اخترقت صدرها حتى بدأت تحس بالاختناق وصعوبة التنفس .. هاهو يفضل ريم عليها مجددا .. ها هو يرفض التخلي عنها رغم كل شيء .. هزت رأسها بألم غير قادرة على النظر إليه .. وتحركت نحو الباب دون أن ترى فأمسكها قبل أن تخرج وأدارها إليه قائلا بعنف :- انظري إلى يا نانسي .. انظري إلى وحاولي إنكار ما تشعرين به نحوي .. كل منا ينتمي إلى الآخر .. وقد جمعت بيننا ذكريات كثيرة تثبت هذا ..وإن كنت قد نسيت فانا قادر على تذكيرك
شدها إليه بقوة ومال نحوها محاولا تقبيلها .. فأبعدت وجهها عنه وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تلمسني .. انا لا أستطيع حتى النظر إليك .. اتركني
تركها فجأة فابتعدت عنه وهي تكبت نشيجا قويا .. واستندت إلى الجدار وقد أحست بتراكم الضغوط عليها سيفقدها القدرة على الوقوف .. أطل ألم كبير من عينيه وهو يقول:- إياك أن تدعي كراهيتي يا نانسي .. إياك حتى أن تفكري بها .. لا تسمحي لمشاكل صغيرة وأوهام لا أساس لها ان تهدم ما جمع بيننا .. إن لم يكن من اجلنا .. فمن أجل طفلنا
رفعت نانسي رأسها إليه وحدقت به مذهولة ..لا يمكن أن يكون قد قال ما طنته قد قاله .. رمش بعينه ملاحظا صدمتها .. ثم نظر إلى بطنها الضامر المخفي بالملابس الفضفاضة مؤكدا :- نعم يا نانسي .. طفلنا .. عندما فقد الوعي ذلك النهار كان طبيب جدتي موجودا لحسن الحظ .. قام بفحصك وأفصح عن شكوكه بان شبب فقدانك الوعي قد يعود إلى حملك .. أنت قد تكونين في هذه اللحظة حاملا بطفلنا يا نانسي .. وأنت لن تسمحي لهذا الطفل بأن يولد ويعيش بعيدا عن احد والديه
كانت ما تزال تحدق به كالمجنونة وتلك الكلمة تدوي داخل رأسها بعنف .. طفل .. طفلها .. طفل محمود .. امتدت يدها تلقائيا نحو بطنها .. وحاولت دون تركيز حساب الأيام التي مرت على موعد دورتها الشهرية .. طفل .. طفل محمود .. ألهذا كانت خائرة القوى خلال الأيام السابقة .. تعاني من الغثيان والدوار .. ؟
لا .. لا يمكن .. مستحيل .. ترجمت رفضها على شكل همس :- مستحيل .. لا يمكن
عاد يمسك بها ليجبرها على النظر إليه .. وهو يقول بإصرار :- ليس مستحيلا يا نانسي .. أنت ستنجبين طفلنا .. لن أسمح أبدا بأن يولد ابني بعيدا عني .. انت ستعودين معي إلى البيت .. وأنا سأهتم بك وأرعاك .. فأنت تبدين ضعيفة ومتعبة .. وبحاجة ماسة إلى العناية .. وأعدك بانني لن أؤذيك مجددا
سطع ضوء قوي داخل رأسها في هذه اللحظة .. وظهرت الحقيقة المرة لتقتل كل امل لديها .. هذا ما اعاد إذن .. هذا ما جعله يائسا إلى هذا الحد لإعادتها إلى بيته .. فهس ستنجب له طفلا .. وريثا صغيرا يحقق آماله
وليس لأنه يهتم لأمرها كما حاول إقناعها .. لأنه لو كان حقا يكن لها أي نوع من المودة .. لو كان متمسكا بها بما يكفي لقدر الضغط الذي تعاني منه ولاستجاب لمطلبها الوحيد منه .. وهو ابتعاده عن ريم .. نظرت إلى وجهه الوسيم .. إلى الأمل و الاصرار في عينيه .. إلى ت وتر فمه .. وتذمرت .. تذكرت كل شيء .. فتراكم الألم ليخرج دفعة واحدة على هيئة صراخ جنوني :- ألن تؤذيني مجددا ؟ وكيف تؤذيني أكثر مما فعلت ؟ أنا اكرهك يا محمود .. أكرهك .. وأكره هذا الطفل الذي يجمعني بك .. وأتمنى الا انجبه أبدا
تحررت منه مستغلة صدمته لعنف كلماتها وبشاعتها .. واندعت خارجة من الغرفة .. وأقفلت باب غرفة النوم ورائها بينما وجد نفسه يلحق بها حتى وقف في الممر عاجزا .. مضطربا .. ليرى كلا من ماهر ووالدته يقفان على بعد أمتار عنه .. ينظران إليه بتعاطف وشفقة
انهارت نانسي في بكاء هستيري فوق السرير الصغير .. بينما حاولت كل من الفتاتين مواساتها بلا فائدة .. ثم دخل ناهر مع أمه مشيرا إلى شقيقتيه بالخروج .. فنفذتا أمره بلا تردد .. جلست السيدة رجاء إلى جوارها وضمتها إليها لتبكي على صدرها وهي تقول بحنان :- لقد رحل يا عزيزتي .. توقفي عن البكاء .. فهو لن ينفعك في ظروفك هذه
مسحت دموعها ونظرت إلى السيدة الطيبة التي قالت :- لم نتعمد الاستماع إلى كلامكما .. ولكنكما كنتما تصرخان .. وقد عرفنا بأمر الطفل
تمتمت نانسي :- إنها مجرد شكوك .. قد لا اكون حاملا حقا
:- ما أسهل أن نتأكد .. غدا صباحا سآخذك إلى طبيب مختص .. وسنعرف الحقيقة
جلس ماهر على السرير المجاور قائلا بقلق :- نانسي .. فكري جيدا بخطواتك القادمة .. الأمر لم يعد متعلقا بك وحدك .. هناك طفل متورط في القضية .. والدكتور محمود متمسك بك كما هو واضح .. وأنا لم أره يوما على هذه الحالة
هزت نانسي رأسها قائلة بألم :- لا مجال لعودتي إليه .. أعرف بانني أثقل عليكم ببقائي هنا .. ولكنني سأبدأ فورا بالبحث عن عمل والسعي خلف .....
قاطعتها السيدة رجاء مصدومة :- أي كلام هذا يا ابنتي .. هذا بيتك .. ولن أسمح لك بالتشكيك في ترحيبنا بك
قال ماهر بحزم :- لن نضغط عليك يا نانسي .. ولكننا معك خطوة بخطوة في كل ما تقررين فعله
مد يده إلى جيبه وأخرج ظرفا مغلقا وهو يقو ل:- لقد ترك لك الدكتور محمود هذا .. إنه مبلغ من المال لتأمين حاجاتك
قالت بصوت مختنق :- أنا لا أريد منه شيئا
قال ماهر :- هذا بالضبط ما قلته له .. بانك هنا لن تكوني بحاجة إلى أي شيء.. ولكنه دس الظرف في يدي غير مبال باعتراضي ورحل .. وأنت ما زلت زوجته يا نانسي .. وما هذا إلا جزء من حقك عليه
وضع الظرف على المنضدة المجاورة للسرير .. ثم غادر الغرفة برفقة والدته .. بينما تكومت نانسي على نفسها فوق السرير وهي تفكر بألم .. طفل .. هل حقا سأنجب طفلك يا محمود ؟ حتى بعد أن تركتك ورحلت عنك .. تترك لي تذكارا لن يسمح لي بنسيانك يوما ..وكأنني أستطيع يوما أن أنساك ..
ثم عادت إلى البكاء مجددا
الفصل السابع والعشرون
في انتظارك
داعبت نسمة رقيقة بشرة نانسي فأغمضت عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا مشبعا برائحة أوراق الربيع العطرة .. كان الطقس رائعا .. مائلا إلى البرودة .. إلا انه كان مناسبا للغاية لشخص بكآبة نانسي بحاجة إلى ما يرفه عنه قليلا .. فتحت عينيها لتتأمل الحديقة المحيطة بالكلية .. بينما هي تجلس فوق أحد المقاعد الحجرية .. بعد ان أخرجها غثيان مفاجئ من إحدى المحاضرات
لم يستطع شيء تحسين مزاجها منذ ذهبت إلى الطبيب برفقة أم ماهر وتأكدت من حملها .. عمر الجنين 10 أسابيع .. وهذا يعني بان الحمل قد تم في الليلة التي أخذها فيها محمود عنوة لأول مرة .. أكد الطبيب على اهمية الغذاء الصحي والمتكامل نسبة إلى نحولها الملحوظ .. ومنذ ذلك اليوم والكل يعاملها بحرص وكأنها مصنوعة من الزجاج .. السيدة رجاء تطعمها بإفراط . . لمياء ولبنة تمنعانها من بذل أي جهد .. ماهر يأتيها بما تحتاجه من محاضرات .. حتى بدات تحس بالاختناق وبالحاجة إلى الخروج والتخلص من إحساسها بالعجز .. وأصرت على مرافقة ماهر هذا الصباح إلى الجامعة . والآن .. في لحظة صفاء مع نفسها .. عرفت نانسي بأن السبب الرئيسي لإصرارها على الحضور هو أملها في رؤية محمود ولو من بعيد .. حتى مع علمها بأنه لا يكون موجودا في هذا اليوم من الاسبوع .. ولكنها بعد أيام على لقائها به .. بدأ الشوق يضنيها لرؤيته أو حتى سماع صوته وقد توقف عن الاتصال بها واكتفى بالاتصال بماهر يوميا للاطمئنان عليها رغم كراهيته لهذا .. توقفه عن محاولة التحدث إليها جعلت خيبة الأمل والحزن والكآبة تسيطر علبها .. هل صدق حقا بانها ترفض وجود هذا الطفل ؟
ربما في البداية .. معرفتها بحملها كانت صدمة كبيرة لها في حالتها النفسية السيئة .. إحساسها بانه قد سعى إليها وبحث عنها لأجل الطفل .. وليس لأجلها هي .. وأن الحب الكبير الذي ادعى انه يشعر به اتجاهها كان مجرد حيلة يستميلها بها ويخدعها بها .. كي تستسلم وتعود من جديد تحت رحمته
إلا انها بعد أن استمعت إلى خفقات قلب الجنين داخل عيادة الطبيب .. وتفكيرها كل ليلة بالكائن الذي بدأ يتشكل داخلها .. جعل إحساسا دافئا وعاصفا يجتاحها .. سوف تنجب طفلا .. طفلا صغيرا تحبه ويحبها بلا حدود .. طفل صغير يكون لها تماما .. طفل هو جزء من الرجل الذي حصل على حبها واحترامها وكراهيتها في وقت واحد .. فجأة .. لم تعد فكرة الحصول على ما يذكرها بمحمود سيئة
ورغم هذا .. فهي ما تزال قلقة ومتوترة بشان المستقبل .. حتى الآن لم تستطع أن تقرر تماما ما ترغب بفعله . لقد طلبت الطلاق من محمود .. وقد نصحها ماهر باللجوء إلى محامي مختص ليقوم بالإجراءات المناسبة إن رفض محمود منحها الطلاق من تلقاء نفسه .. وحتى الآن هي تتلكأ مؤجلة الأمر المحتوم وكأنها تنتظر .. تنتظر ماذا بالضبط ؟؟؟
تنهدت وهي تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحتضن نفسها وتمنحها الدعم في حالة الضعف التي تحس بها .. فكرت بيأس .. متى سينتهي الألم ؟
نانسي
التفتت إلى ماهر الذي اقترب برفقة ندى كما اعتاد دائما .. جلسا إلى جانبها بينما سألها ماهر :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت :- أفضل بكثير بعد أن تنشقت بعض الهواء النقي
تأمل وجهها الشاحب وقال بإصرار :- تبدين متعبة .. ما كان عليك الحضور إلى الجامعة اليوم
نظرت نانسي إلى ندى التي تأرجحت نظراتها بين الفضول .. والانزعاج باهتمام ماهر الشديد بنانسي .. فقالت بضيق :- أنت محق .. أظنني سأعود إلى البيت
نهض فور وقوفها وقال :- سأوصلك
اعتذر من ندى التي رغم المودة التي تحملها لنانسي .. بدت غير سعيدة على الإطلاق بهذا الترتيب .. وفور ابتعاد نانسي وماهر سألته نانسي بحدة :- هل تعرف ندى بأنني أقيم في منزلك بشكل مؤقت ؟
قال بغضب :- أي سؤال هذا يا نانسي .. منذ متى أتجول هنا وهناك ناشرا أسرارك ؟
زفرت بقوة وهي تقول بتوتر :- أنا آسفة .. أعصابي مرهقة هذا اليوم .. وأشعر برغبة كبيرة في الشجار مع احدهم وكنت أنت كبش الفداء
نظر إليها متفحصا وهما يعبران معا بوابة الجامعة وهو يقول :- انا لا امانع في ان تفرغي غضبك بي .. ألن تخبريني بما يزعجك ؟ هل كنت تأملين برؤية الدكتور محمود ؟
نظرت إليه بحدة ساخطة من فراسته المعتادة .. وقالت بغيظ :- بالطبع لا .. ولماذا قد ارغب برؤيته ؟ لا تتعب نفسك بإيصالي .. عد غلى ندى .. سآخذ سيارة أجرة وأعود وحدي
أسرعت تقول عندما فتح فمه ليعترض :- إياك ان تحتج .. انا بحاجة إلى السير قليلا على أي حال .. لست في عجلة من أمري
تركها مستسلما لإصرارها وهو يقول :- لا ترهقي نفسك
تركته ملوحة بيدها وقطعت الشارع .. لتتوقف في منتصفه فجاة مذهولة وهي ترى سيارة زرقاء تتجه نحوها بسرعة جنونية بدت غير قادرة على تفاديها . جمدها الرعب .. فلم تشعر إلا بماهر يدفعها بقوة بعيدا عن طريق السيارة التي لم تخفف حتى من سرعتها وهي تبتعد عن الانظار .. سقطت نانسي على الأرض بعنف مع ماهر الذي قفز واقفا وهو يشتم هاتفا بغضب :- الحقير .. ليس لسيارته لوحة ..
لفتت انتباهه آهة انطلقت من فم نانسي فأسرع نحوها ليساعدها على الوقوف ..إلا أنها سرعان ما انثنت وهي تئن وقد شحب وجهها وألم حاد يمزق بطنها .. تغير لون ماهر عندما تذكر حملها وهتف بلوعة :- ما الذي حدث ؟ هل أذتك السقطة ؟
تمتمت مغمضة عينيها :- لا اعرف .. أحس بألم شديد
قال فورا وثد اتخذ قراره :- يجب ان يراك الطبيب حالا
دون ان تعترض هذه المرة .. ساعدها في الوصول إلى سيارته .. ونقلها إلى عيادة الطبيب الذي طمأنهما بعد ان قام بفحص نانسي بينما انتظر ماهر خارجا .. ثم اشتدت نبرته حزما وتحذيرا وهو يشدد على اهمية اعتنائها بنفسها والتزام الراحة خلال الأيام القادمة .. ووصف لها بعض الأدوية لتثبيت الجنين .. ثم خرجت نانسي محمرة الوجه برفقة ماهر بعد ان ألقى الطبيب بتعليمات خاصة ظنا منه بأن ماهر هو زوجها
في البيت .. بدا ماهر كالنمر الحبيس وهو يجوب غرفة الجلوس ويصيح غاضبا :- أنا متأكد مما رأيت .. ذلك السائق اتجه نحوك متعمدا بنية صدمك وقد ازال الأرقام من سيارته كي لا يتم التعرف عليه .. لا يمكننا السكوت عن هذا
تمتمت نانسي من حيث كانت ممددة على الأريكة بإلحاح من السيدة رجاء :- أنت تبالغ يا ماهر .. لماذا قد يرغب أي أحدهم بأذيتي ؟
إلا أنها كانت في الحقيقة تشعر بالقلق والخوف أكثر مما اظهرت .. وهي تتذكر مشهد السيارة الزرقاء القديمة الطراز تندفع نحوها بإصرار وكأنها حقا ترغب بأذيتها .. ولكن لماذا قد يرغب أي كان في إلحاق الأذى بها ؟ السؤال هو .. من قد يرغب في هذا ؟ هل هناك حقا من يكرهها إلى هذا الحد ؟
برزت صورة محمود فجأة امام عينيها فأزاحتها بعنف .. مهما كبرت المشاكل بينهما فإن محمود أبدا لن يسبب لها الأذى .. هل أنت متأكدة .؟
قطع ماهر أفكارها القلقة بهتافه :- أبالغ ! .. لقد كنت هناك يا نانسي .. ورأيت ما رأيته انا بالضبط شخص ما حاول إيذئك عمدا
قالت أم ماهر بقلق :- المهم انها بخير الآن .. لن تتعرض لأي أذى إن لازمت المنزل او حظيت بالمرافقة أينما ذهبت .. صحيح ؟
ارتفع في تلك اللحظة صوت لمياء وهي تقول مترددة :- أليس من حق زوج نانسي ان يعرف بما حدث ؟
اتجهت الانظار نحو الفتاة الصغيرة التي تلقت ركلة خفية من شقيقتها الكبرى لتصمت بينما قال ماهر :- لمياء محقة .. الدكتور محمود يجب أن يعرف
أسرعت نانسي تهتف مذعورة :- لا
نظر ماهر إليها وهو يقول بحزم :- فكري جيدا يا نانسي .. من حق الدكتور محمود أن يعرف بان شخصا ما قد حاول إيذاء زوجته .. الوضع لا يحتمل عنادك الطفولي هذا .. حياتك وحياة طفلك هما على المحك الآن
تناول هاتفها المحمول ودفعه نحوها قائلا بإصرار:- اتصلي به يا نانسي .. أنا لا أطلب منك التنازل والذهاب إليه .. فقط أخبريه بما حدث
تناولت الهاتف بيد مرتجفة .. وطلبت رقم هاتفه باضطراب شديد .. دوى الأزيز المألوف ليعبث بأعصابها .. ولم يطل الأمر حتى سمعت صوته الجهوري يقول بحدة :- نانسي
خفق قلبها بعنف لدى سماعها لصوته .. ووجدت نفسها عاجزة عن قول أي كلمة .. فعاد يكرر بصوت عصف به القلق :- نانسي .. اهذه انت ؟
غلبها الانفعال .. فدفعت الهاتف مذعورة نحو ماهر الذي نظر إليها بعتاب وهو يرفع الهاتف ويتحدث عوضا عنها :- دكتور محمود .. أنا ماهر .. لا .. نانسي بخير .. أنا من ألح عليها بالاتصال بك ولكنها عجزت في اللحظة الأخير عن إخبارك بما حدث
بكلمات مختصرة حكى ماهر ما حدث لمحمود .. فلاحظت تغير ملامحه واحمرار وجهه أمام كلمات محمود العاصفة التي انهالت عليه من الطرف الآخر .. وهو يجيب عن أسئلته .. تمتمت في النهاية :- بالتأكيد .. إنها هنا .. تفضل
لم تستطع نانسي التراجع وقد وجدت الهاتف بين يديها .. رفعته إلى أذنها وهي ترتجف كم الخوف هامسة :- ألو
أتاها صوت محمود القلق يقول :- نانسي .. هل أنت بخير ؟ هل أصابك مكروه ؟
اهتمامه الشديد جعل إحساسا دافئا بالحماية يجتاحها .. وجعل دموعا تتجمع في عينيها وهي تقول باضطراب :- أنا بخير
:- هل أنت متأكدة ؟ ما الذي قاله الطبيب ؟ هل الطفل بخير ؟
قالت بتوتر :- الطفل بخير يا محمود .. ليس عليك أن تقلق
ارتفعت حدة صوته وهو يقول بغضب :- أليس علي حقا أن أقلق يا نانسي ؟ أنا أعرف جيدا بأنك لم ترغبي أبدا بهذا الطفل .. وقد أخبرتني بنفسك عن رفضك له .. وأخمن بأنك ستكونين أكثر من مسرورة إن لم يقدر له أن يولد .. لقد ألحيت عليك مرارا بأن تعودي إلى بيتك كي أتمكن من العناية بكما معا إلا أنك بعنادك المعتاد رفضت وأصريت على تعريض نفسك للخطر .. ليكن بعلمك يا نانسي .. إن أصاب ابني أي مكروه بسبب أي إهمال أو تقصير منك .. فستدفعين الثمن غاليا
أحست نانسي بطعنة ألم قوية جعلتها نعجز عن التنفس للحظات .. محمود لم يكن قلقا عليها .. إنه مهتم فقط بسلامة طفله .. لقد صدق ظنها إذن .. محاولته السابقة لاستعادتها لم تكن إلا وسيلة لاستعادة الطفل الذي يأمل في إنجابه
الصدمة التي تعرضت لها منذ ساعات وحالة الضعف التي تمر بها .. الغضب والالم والمرارة .. كل هذا اجتمع داخلها ليدفع كل ما اختزنته داخلها من مشاعر عاصفة إلى الحافة .. تدفقت دموعها وهي تقف هاتفة بكل ما يعتمر داخلها من ثورة :- أهذا ما يهمك يا محمود ؟ لقد كدت فقد حياتي تحت عجلات سيارة مجهولة وكل ما تفكر به هو الطفل .. فلتعلم إذن بان مكروها لن يصيب ابني .. سأحميه بحياتي إن اضطررت .. وسأحرص على ألا يعرف أبا انانيا باردا وقاسيا وخاليا من المشاعر مثلك .. أب خائن لا يعرف معني الحب والإخلاص .. أب لن يتورع عن خيانة أمه تحت سقف بيتها بلا أي اعتبار للقيم والأخلاق .. أكرهك يا محمود .. أكرهك وأحتقرك ولا أصدق بانني قد أحببتك يوما .. أكرهك واتمنى لو انني لم اعرفك أبدا ....
خنقتها الدموع فسقط الهاتف من يدها وهي تخفي وجهها بيديها وتجهش في بكاء مر جعل السيدة رجاء ترتجف لوعة وقلقا وهي تضمها محاولة تهدئتها .. بينما التقط ماهر الهاتف .. وتحدث إلى محمود قائلا :- انا آسف يا دكتور محمود ... نانسي لن تستطيع التحدث إليك أكثر .. نعم .. حسنا . سأخبرها
أنهى المكالمة .. ونظر إلى نانسي التي عادت تجلس على الأريكة وأمه تطبطب عليها بحنان وهو يقول :- الدكتور محمود قادم إلى هنا .. سيكون موجودا خلال ربع ساعة
محمود سيكون هنا .. سيأتي إليها .. وسيثبت لها بأنها مخطئة في ظنها .. وأنه يحبها هي .. ويهتم لأمرها هي .. سيأتي لأنها في حاجة إليه .. في حاجة إلى وجوده إلى جانبها في هذه الظروف .. وإلى حمايته لها
اختفى فجأة غضبها منه .. ولم تعد ترغب إلى بحضنه يلفها ويمنحها الدفء والحنان .. سيبرر لها كل شيء .. ويفسر لها كل شيء .. وهي ستتفهم .. وتسامح .. فقط إن عاد إليها وأحبها من جديد
مرت ربع ساعة .. ثم نصف ساعة .. ثم ساعات أخرى دون أن يأت محمود .. ورغم هذا .. ظلت نانسي مصرة على أنه سيأتي .. وأن هناك ما أخره وعطله عن الحضور .. لقد قال بأنه سيأتي .. ومحمود لا يكذب
حقا .. ألم يكذب عليك مرارا مدعيا حبه لك ؟ ألم يعدك بحمايتك والعناية بك ثم أهانك وأذلك مرارا وتكرارا ؟
فوق سرير لمياء الصغير .. سهرت نانسي لساعات طوال دون أن تتوقف دموعها عن السيلان .. لقد منعت ماهر من الاتصال به .. وسؤاله عن سبب تأخره .. ورغم هذا .. ما زال جزء منها واثق بأنه سيأتي في النهاية
ومهما تأخر الوقت .. إن لم يكن من أجلها .. فلأجل طفلهما ..
ولكن محمود لم يأت .. وتجاوزت الساعة منتصف الليل .. وعم الهدوء الشقة الصغيرة وقد نام أصحابها .. ولم يعد هناك سوى نانسي المستيقظة .. تضع يدها على بطنها .. وتهمس لطفلها بألم شديد .. والدك سيأتي في النهاية .. لابد أن يأتي
إلا أن النعاس غلبها في النهاية .. ووجدت نانسي نفسها تنام وقد عرفت بأنها كانت مخطئة منذ البداية .. وأن محمود قد أخلف وعده كما أخله عدة مرات من قبل
لقد عرفت هذه المرة بأنها النهاية .. النهاية حقا
الفصل الثامن والعشرون
بين الحياة والموت
لم تفتح نانسي عينيها حتى تأكدت من خروج لبنة ولمياء كل إلى مدرستها أو معهدها .. انتظرت حتى أصبحت وحيدة في الغرفة ثم فتحت عينيها وانقلبت على ظهرها .. تحدق في السقف بجمود .. وهي تشعر بالخواء داخلها .. وكانها قد فقدت القدرة على الشعور بأي إحساس .. لم يأت محمود .. وهذا يعني انه بكل بساطة لم يعد يريدها .. وهي كالحمقاء انتظرته طوال الليل وقد نسيت كل ما فعله بها .. أين قوتها .. أين كرامتها ؟ لقد سمعت من قبل عن تأثير هرمونات الحمل على المرأة ولكنها لم تعرف بانها تسبب لها داء الحماقة والوهم
اختفت الأصوات خارج الغرفة فعرفت بان البيت قد خلا الآن إلا من السيدة رجاء .. فنهضت وهي تفكر بأنها يجب أن تتخذ قرارا حاسما حول حياتها المستقبلية .. لا يمكن أن تبقى عبئا على ماهر وعائلته لفترة طويلة مهما رحبوا بها وأحسوا بالمسؤولية اتجاهها
خرجت إلى المطبخ لتجد السيدة رجاء تبدأ بتنظيف المائدة من بقايا إفطار الاولاد .. وعندما راتها تهللت أساريرها وهي تقول :- صباح الخير يا عزيزتي .. أرجو أن تكوني قد نمت جيدا
ابتسمت نانسي مؤكدة على هذه الحقيقة التي تعرف كلتاهما زيفها .. فنانسي لم تخطئ قراءة الشفقة المرتسمة على وجه المرأة المسنة .. لابد أن لمياء ولبنة قد أخبرتاها بأن نانسي قد قضت الليل كله ساهرة في انتظار زوج لم يعد يريدها
عندما رأتها السيدة رجاء تشمر عن ساعديها بهدف تنظيف الأطباق .. أسرعت تمنعها قائلة :- لقد كان الطبيب واضحا .. يجب أن تتجنبي أي جهد قد يتسبب بأذية الطفل
قالت نانسي باحتجاج :- لم أعد أطيق الجلوس بلا عمل أكثر .. أشعر بأنني عالة وعديمة الفائدة .. لن أستطيع البقاء في بيت لا أشعر بأنني عضو فعال بين أفراده .. أرجوك يا خالتي .. أنا أعرض تنظيف الأطباق ليس أكثر
نظرت إليها السيدة رجاء بتردد قبل أن تقول :- حسنا .. لا بأس.. سأسمح لك بغسل الأطباق إن تناولت فطورا كاملا
أشرق وجه نانسي وهي تجلس أمام المائدة وتبدأ بالأكل مع أم ماهر التي شاركتها الطعام وهي تسامرها في محاولة مها لشغل عقلها عن التفكير بمحمود
سمعتا فجأة جرس الباب .. يسبق صليل مفاتيح ماهر الذي اعتاد أن ينبه الموجودين لوصوله قبل الدخول احتراما لخصوصية نانسي
تبادلت نانسي نظرات القلق مع السيدة رجاء .. فلم تمر ساعة على خروج ماهر إلى الجامعة .. نظرت الاثنتان إليه عندما أطل عبر باب المطبخ شاحب الوجه زائغ النظرات .. فوقفتا مذعورتين .. وامه تقول بقلق :- ما الأمر يا ماهر ؟ ما الذي اعادك بهذه السرعة ؟
نظر إلى نانسي الشاحبة .. التي عرفت مسبقا ما سيقوله ماهر .. قال بهدوء :- نانسي .. يجب ان تأتي معي حالا
سألته بتوتر :- إلى أين ؟
:- إلى الدكتور محمود
أسرعت أمه تقول بحدة :- هل جننت يا ماهر ؟ كيف تفكر بأخذها إليه وهو لم يتعب نفسه بالحضور أمس بينما انتظرته المسكينة طوال الليل
بالكاد سمعتها نانسي وهي تحس بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان عندما قال ماهر :- الدكتور محمود لم يحضر مساء الأمس لأنه لم يستطع الحضور .. لقد تعرض لحادث أثناء خروجه من مبنى الشركة .. وهو في المستشفى الآن .. بين الحياة والموت .. مجهول المصير
نظر إلى عيني نانسي التين تحجرت فيهما الدموع قائلا :- أعرف بأنك غاضبة منه يا نانسي .. ولكنه بحاجة إليك في هذه اللحظات .. لن تسامحي نفسك إن أصابه مكروه وانت بعيدة عنه
لن تعرف نانسي كيف بدلت ملابسها وخرجت برفقة ماهر شبه واعية لحديثه إليها في السيارة .. وشرحه لها ما حدث بالضبط .. بدلا من الذهاب إلى الجامعة .. اتجه ماهر إلى شركة محمود بنية لقاءه ومواجهته كي يعرف سبب تخلفه عن الحضور مخالفا كل تحذيرات نانسي .. ليجد المكان في فوضى عارمة .. والكل هناك يتحدث عن حادث إطلاق النار الذي تعرض له محمود فور تجاوزه بوابة الشركة .. لقد توقفت سيارة زرقاء لا لوحة لها وأطلق سائقها رصاصتين نحو محمود أصابتاه على الفور وأسقطتاه على الأرض مضرجا بدمائه قبل ان تبتعد هاربة .. لا احد يعرف شيئا عن حالته بعد نقله إلى المستشفى حيث أجريت له عمليات جراحية عدة استغرقت الليل بطوله .. وماهر لم ينتظر ليعرف ..بل أسرع عائدا ليخبر نانسي وجها لوجه ويأخذها إلى هناك لتكون إلى جواره
نظر إلى نانسي بطرف عينه قائلا :- هل سمعت ما قلته يا نانسي ؟ سيارة زرقاء بلا لوحة أرقام حاولت قتل الدكتور محمود .. هل يبدو لك هذا المشهد مألوفا ؟
كانت نانسي ترتجف وهي تفرك يديها باضطراب .. وعقلها يدور ويدور حول فكرة واحدة لا غير .. محمود يموت .. لقد كانت حياته على المحك طوال الليل بينما كانت هي تلومه على التأخر دون ان تعرف ما اصابه .. محمود يموت الآن وسيتركها وحدها .. سوف تخسره غلى الأبد .. لم يكن عقلها قادرا على التفكير بما يقوله ماهر .. كل ما كان يهمها هو أن تصل إلى هناك .. ان تكون معه في حالته الصعبة .. أن تقف إلى جانبه وتمسك يده مطالبة إياه بألا يموت .. لا يمكن ان يموت حارما ابنهما القادم من أبيه .. لن يجرؤ على هذا
ارتجف فمها واحترقت عيناها بالدموع الحبيسة .. ولكنها لم تسمح لها بالفرار .. لقد تذكرت فجأة الساعات التي قضتها امام غرفة العمليات في انتظار خبر عن والدتها .. هاهي تحس بانها معرضة للتيتم من جديد .. ستفقد الآن زوجها وحبيبها وعائلتها الوحيدة .. لا .. إن كان هناك من لحظة تتطلب منها التسلح بالقوة فإنها هذه .. لن تنفع محمود باستسلامها للبكاء والانهيار .. فهو يحتاج إليها قوية .. وصامدة .. كي تحثه على الكفاح لأجل الحياة .. وصلا إلى المستشفى أخيرا .. سارت نانسي خلف ماهر الذي تكفل هو بالسؤال عن محمود .. فعرف بانه قد خرج من غرفة العمليات قبل ساعات قليلة .. وأنه الآن في غرفة العناية الفائقة .. دون ان يعرف مصيره بعد
أمام جناح العناية الفائقة .. كان هناك جمع من الناس المنتظرة .. كان العم طلال هناك ممتقع الوجه .. واجم الملامح .. والسيدة منار تبكي بمرارة وهي تدعو لمحمود بالشفاء .. ريم كانت منطوية في الزاوية وقد بدت شاحبة بوجهها الخالي من الزينة .. وعينيها القلقتين .. بينما كان فراس يجوب الممر بلا هوادة منتظرا أي أخبار من الطبيب .. بالإضافة إلى بضعة موظفين من الشركة رافقوا سيارة الإسعاف إلى المستشفى
نظر الجميع إلى نانسي فور وصولها برفقة ماهر .. فاختفى الحزن من وجه ريم .. وتوحشت ملامحها وهي تقول بغضب :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ لا أحد على الإطلاق يرحب بك هنا
استعادت نانسي صلابتها على الفور وهي تقول بحزم :- أنا هنا لأكون مع زوجي يا ريم .. ولا أحد يستطيع منعي من هذا
قالت ريم بكراهية :- لقد تركته ورحلت بنفسك .. لم تعد لديك عليه حقوق .. بل وتأتين برفقة صاحبك غير عابئة بكلام الناس .. أهو من تركت محمود لأجله ؟
ارتفعت يد نانسي على الفور لتصفع ريم بقوة جعلت تلك تصرخ مذعورة فهبت أمها تصيح غاضبة :- أيتها الحقيرة
أسرع السيد طلال يبعد زوجته وابنته زاجرا بخفوت .. بينما قال فراس بنية التهدئة :- الوقت غير مناسب للشجار .. ما يهمنا جميعا هو مصير محمود
سألته بلهفة وهي تتشبث بذراعه :- كيف هو الآن ؟ أرجوك يا فراس ... أخبرني
قال متوترا :- الطبيب يقول بأن العملية قد تمت بخير .. لقد أخرجت الرصاصات بنجاح .. فقد اخترقا إحداهما كتفه على بعد سنتيمترات من قلبه لحسن الحظ .. والاخرى للأسف اخترقت رئته اليمنى .. لقد تم نقله منذ ساعة تقريبا إلى غرفة العناية الفائقة ولا يسمحون لأي أحد بزيارته
نظر حوله بتوتر قائلا بصوت منخفض :- لقد وصلت الشرطة قبل قليل .. وطرحت الأسئلة على الجميع .. من المتوقع أن يستجوبك أحدهم لاحقا .. لا أصدق بان أحدا قد يفكر بإيذاء محمود
ارتجفت نانسي وهي تفكر لأول مرة بهذه الحقيقة .. أحدهم حاول أذية محمود .. لماذا ؟ لماذا قد يرغب أي أحد بقتل محمود ؟
نظرت حولها إلى عائلته التي لفها القلق و التوتر .. إلى موظفيه اللذين ظهر عليهم الحزن العميق .. وتذكرت محمود .. الرجل القوي الصارم .. لماذا قد يرغب أي أحد بقتله ؟
خرج الطبيب فجأة .. فأحاط به الجميع لسماعه وهو يقول بارتياح :- لقد صحا أخيرا .. مؤشراته الحيوية ممتازة .. إنه ضعيف الآن فحسب .. ويحتاج إلى أكبر قدر من الراحة والعناية
أسرعت السيدة منار تقول بلهفة :- هل نستطيع رؤيته ؟
ظهر التردد على الطبيب وهو يقول :- أنا آسف .. لا يسمح إلا لشخص واحد برؤيته .. شخص يكون الأقرب إليه من عائلته .. ويكون بعيدا عن الشبهات أيضا .. إنها تعليمات الشرطة حتى يتم القبض على الفاعل
أسرع ناهر يتدخل بقوله :- السيدة نانسي زوجته أيها الطبيب .. كما انها تملك دليلا قاطعا على وجودها في مكان آخر وقت وقوع الحادث
اتجهت الأعين نحو نانسي بينما قال العم بامتعاض :- أنا عمه .. وبمثابة والده .. انا من رباه وأنا الأحق برؤيته
قالت ريم بحقد :- كما انها قد تركته طالبة الطلاق .. فعليا هي لم تعد زوجته
نقل الطبيب نظره بين العائلة المتحفزة .. والفتاة الشاحبة التي بدت على حافة الانهيار .. فاتخذ قراره على الفور :- السيدة زوجته على أي حال .. وهي الأقرب إليه في غياب والديه
كادت نانسي تعانق ا لطبيب امتنانا لرده .. إلا أنها في الوقت ذاته كانت ترتجف اضرابا لرؤية محمود الوشيكة .. ارتدت الملابس المعقمة .. وسارت خلف الممرضة إلى حيث يرقد محمود .. حبست أنفاسها وهي تنظر إلى الجسد الممدد أمامها
كان وجهه الذي اختفى نصفه تحت قناع الأكسجين .. شاحبا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه المغمضتين .. بدا كظهره مؤلما بالأسلاك التي وصلت جسده بالأجهزة المتطورة .. وبالضمادات المحيطة بصدره .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه .. وتجلس إلى جواره .. لكم يبدو بعيدا في هذه اللحظة عن الرجل الذي عرفته خلال الأشهر الماضية .. مدت يدها نحو يده الملقاة إلى جانبه .. وأمسكت بأصابعه الباردة .. وهي تهمس :- ستكون بخير .. يجب أن تكون بخير
أغمضت عينيها .. وسمحت للدموع الغزيرة بالتدفق من بين أجفانها .. وهي تدعو الله في قلبها أن يشفي لها محمود .. حتى لو انه لم يكن لها في النهاية .. المهم ان يكون سعيدا حتى لو كان برفقة امرأة اخرى
لأول مرة تدرك نانسي ماهية الحب الحقيقي .. الحب الحقيقي هو أن تترك الشخص الذي تحبه يعيش سعيدا .. ولو على حساب سعادتها .. وهي تحب محمود .. تحبه ولن تكون لغيره ابدا
فتحت عينيها عندما أحست بضغط مفاجئ على أصابعها .. ثم أجفلت عندما رأت عيني محمود مفتوحتان .. تنظران إليها بثبات .. خفق قلبها بقوة .. وارتجف جسدها كاملا .. وهي تحس بالمشاعر العاصفة تجتاحها
كان ينظر إليها بطريقة جعلتها تعجز عن قول أي شيء .. عيناه العسليتان النصف مغمضتين .. كانتا تنظران إليها بشيء من الانفعال 00 وكأن وجودها إلى جانبه كان آخر ما توقع رؤيته
لم تعرف ماذا تقول .. هل تعتذر لوجودها المزعج إلى جواره .. أم تهنئه بالسلامة .. أم تجهش بالبكاء ؟
عيناه كانتا قد لاحظتا الدموع التي بللت وجنتيها .. فهمهم بشيء من أسفل قناع الأكسجين .. فأسرعت تقول بلهفة :- لا تقل شيئا .. سنتحدث لا حقا بكل شيء .. فور أن تتعافى بإذن الله وتقف على قدميك مجددا
لم تتوهم نانسي رؤية دموع تتلألأ في العينين الذكوريتين .. رؤيتها لضعف محمود الغير مألوف .. جعل قلبها يتمزق .. ودفعها لرفع يده نحو شفتيها لتطبع قبلة قوية على ظهرها .. ثم تضع راحتها على وجنتها مستمتعة بالاتصال الوحيد المتاح بينهما .. نبهها صوت الممرضة الخافت إلى أن دقائق الزيارة المتاحة لها قد انتهت .. وأنها تستطيع رؤيته بعد ساعتين وفقا لجداول الزيارات المفروض على القسم .. تشبثت أصابعه بيدها .. فطمأنته متماسكة :- لن أذهب إلى أي مكان .. سأعود لاحقا لرؤيتك .. أعدك
تركت يده .. وخرجت لتجد ماهر في انتظارها ... فلن تستطع كبح دموعها أكثر .. انهارت باكية كما لم تفعل يوما .. وكأنها قد استنفذت كل قدرة لديها على التماسك .. أمسكها ماهر .. وأجلسها على أحد المقاعد .. وهو يقول :- اهدئي يا نانسي .. ستؤذين نفسك والطفل بهذه الطريقة
ولكنها استمرت بالبكاء فأمسك ماهر بكتفيها وهزها برفق وهو ينظر إلى عينيها قائلا بحزم :- محمود بحاجة إليك يا نانسي .. يجب لأن تتسلحي بالقوة لتقفي إلى جانبه في محنته
كلماته كانت بالضبط ما احتاجت نانسي إلى سماعه كي تستعيد رشدها وتتماسك مجددا .. خاصة مع الأعين الحاقدة التي انصبت عليها كراهية لوجودها هنا
بعد ساعات .. غادر العم طلال متحججا بالأعمال المتراكمة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه في غياب محمود .. ثم غادرت ريم برفقة أمها التي أصابها التعب بعد قضائها الساعات في انتظار أخبار عن محمود .. لم يبق هناك سوى ماهر وفراس اللذين ظلا إلى جانب نانسي طوال الوقت .. قال فراس وهو يجلس إلى جانبها :- أنا آسف لما فعلته كل من ريم ووالدتي يا نانسي .. إنهما قلقتان على محمود .. نحن هنا منذ البارحة وقد أرهقت أعصابنا جميعا من شدة القلق
تمتمت :- لست غاضبة منهما
كانت غاضبة .. ولكنها لم ترغب بإزعاج فراس الطيب القلب .. قال لها :- أنا سعيد لأنك هنا يا نانسي .. محمود بحاجة إليك .. وأنا لا أقول هذا بسبب الحادث .. فهو في حالة سيئة منذ تركته ورحلت .. محمود يحبك يا نانسي ولا يستطيع العيش بدونك
تقبلت كلامه صامتة ولم تعلق .. لم تستطع التفكير في هذه اللحظة بمشاكلها مع محمود .. كل ما كان يشغل عقلها هو شفاء محمود وعودته كالسابق .. قال لها ماهر بعد فترة :- نانسي .. أنت متعبة .. دعيني آخذك إلى البيت لترتاحي قليلا وسأعيدك لاحقا
قالت بحزم :- لن أتحرك من هنا حتى أطمئن على استقرار حالة محمود .. فلا تتعب نفسك بالإلحاح علي يا ماهر .. إن كنت متعبا فلتذهب .. لست مضطرا للبقاء
قال غاضبا :- هل تظنين بأنني عديم الرجولة لأتركك في ظرف كهذا يا نانسي .. لن أتركك وحدك حتى لو دفعتني دفعا من هنا
جاء لاحقا ضابط الشرطة لطرح أسئلة على نانسي فأجابت بمساعدة ماهر الذي حكى عن السيارة الزرقاء التي حاولت صدم نانسي أمام الكلية .. وعندما رحل قال ماهر :- أرجو أن يمسكوا بالمجرم الحقير في أسرع وقت .. من قد يرغب بإيذائك أنت ومحمود معا يا نانسي ؟
دخلت نانسي لرؤية محمود عدة مرات .. وفي كل مرة كانت تجده نائما .. فتجلس إلى جانبه تتأمل ملامحه الوسيمة الشاحبة بشوق ولهفة .. حتى تخرجها الممرضة بهدوء ولطف .. تم نقل محمود أخيرا بعد ذلك إلى غرفة خاصة بعد أن اكمئن الأطباء على استقرار حالته .. دخلت نانسي إلى الجناح المرفه المخصص له .. لتجده بين يدي الممرضات الحريصات على راحته .. والطبيب الذي انهمك بفحص مؤشرات محمود الحيوية وجروحه مطمئنا عليه قبل أن يغادر .. دخل معها كل من ماهر وفراس .. وأسرعا يهنئان محمود بالسلامة بينما رد هو عليهما شاكرا بهدوء .. وقد بدا رغم شحوبه وضعفه .. متماسكا وصلبا .. وكأنه يأبى التخلي عن هيبته رغم كل شيء .. نظر إلى نانسي التي وقفت بعيدا دون أن تتفوه بحرف .. وسألها بهدوء :- كيف حالك يا نانسي ؟
ارتجفت بلا سبب وهي تعجز عن الرد .. فاعتذر كل من ماهر وفراس .. وغادرا تاركين نانسي تواجه الموقف وحيدة
قال لها :- اقتربي
مشت بخطوات مرتبكة نحو السرير .. دون أن تجرؤ على النظر إليه .. ووقفت قريبا منه فقال :- ألن تنظري إلي ؟ أيبدو مظهري بشعا إلى هذا الحد بهذه الضمادات ؟
كلماته المداعبة .. كانت كافية لإشعال فتيل مشاعر نانسي المتحفزة للانفجار .. فتدفقت دموعها وهي تبكي بلا تحفظ .. رفعت يدها نحو فمها في محاولة منها لكبت شهقاتها التي تعالت بدون فائدة ... فاضطربت عيناه وهو يمد يده إليها .. فأسرعت تجلس على طرف السرير .. وتنحني نحوه داسة وجهها في تجويف عنقه .... تبكي وتبكي وهي تشم رائحته .. وتحس بدفئه غير مصدقة لأنه هنا .. إلى جانبها .. على قيد الحياة .. لم يكن قادرا على رفع يده نحوها .. وقد رغب بشدة في التخفيف عنها .. في لمسها .. والإحساس بها .. همس بانفعال :- انظري إلي .. أرجوك .. أريد أن أراك
رفعت رأسها .. ونظرت إلى وجهه الحبيب الذي لم يفصله عنها سوى مسافة قصيرة .. نظرت عيناه إلى وجهها تتأملان كل جزء من ملامحه الناعمة .. عينيها الباكيتين .. وفمها المرتجف .. قال بصوت أجش :- أريد أن أقبلك .. أرجوك
رجاءه مس فؤادها في الصميم ... فمالت بلا تردد تضع فمها على فمه بشوق تقبله بحرارة .. ثوان مرت .. دقائق .. لم تعرف .. وكل منهما غائب في شوقه إلى الآخر .. حتى اتكأت دون ان تدري على كتفه المصاب فتأوه مما جعلها تبتعد مذعورة وهي تهتف :- يا إلهي .. انا آسفة .. كم انا غبية
:- لا تعتذري .. إن كان علي ان اموت فأنا أفضل الموت بين يديك
أسرعت تضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام قائلة بصوت أجش :- لا تقل هذه الكلمة مجددا .. انت لن تموت .. يجب ان تشفى وتخرج من هنا سليما معافى .. فابننا في حاجة إلى وجودك إلى جانبه
لم تعرف إلى أي حد أثارت كلمة ابننا الدفء في قلبه .. إلا انه نظر إلى وجهها قائلا برقة :- ابننا فقط
ارتبكت .. وقبل ان تجد ردا على استفساره .. ارتفعت طرقات على الباب .. دخلت بعدها كل من السيدة منار وريم التي تجاهلت تماما وجود نانسي .. وأسرعت تطبع قبلة ساخنة على خد محمود وهي تقول بلهفة :- حمدا لله على سلامتك يا محمود .. كيف تشعر الآن ؟ هل تتألم ؟
بينما قالت السيدة منار بصوت مفعم بالمشاعر :- لقد قلقنا عليك للغاية .. لم نتحرك من المستشفى حتى أكد لنا الطبيب بانك بخير .. وأن حياتك ما عادت في خطر
شكرهما محمود بهدوء .. بينما تراجعت نانسي إلى الخلف شاحبة الوجه .. وقد اعاد لها منظر تقبيل ريم له ذكرى ذلك المشهد الذي كان سببا في تركها البيت
قالت منار :- لا أصدق أن أحدا قد يرغب بقتلك .. ليس هناك من يكرهك أو يتمنى لك الأذى .. أتمنى ان يمسكوا بالفاعل في أسرع وقت لينال جزاءه ويتعفن في السجن
ثم نظرت إلى نانسي بطريقة ذات معنى جعلتها تصدم من التلميح الواضح .. هل تتهمها هذه المرأة بمحاولة قتل محمود ؟
ربتت ريم على وجنته وهي تقول بعاطفة جياشة :- لقد كدت اموت من القلق عليك .. الحمد لله أنك بخير الآن
تجاهل ريم وهو ينظر إلى نانسي التي تراجعت حتى وصلت إلى الباب وهو يقول :- نانسي .. إلى أين تذهبين ؟
نظرت إليه وهي ما تزال مذهولة من اتهام منار الضمني .. ومن الحميمية الصريحة التي غلفت معاملة ريم له .. وقالت باضطراب :- أنا .. يجب أن أذهب
كسا الوجوم وجهه وهو يقول :- لست مضطرة للرحيل
أسرعت منار تقول :- دعها تذهب يا محمود .. لقد قضت وقتا طويلا وهي تنتظر خبرا عنك .. لابد انها مرهقة .. لولا وجود صديقها الشاب الذي ساندها بحماس لانهارت من التعب
قالت ريم بلؤم :- هذا صحيح .. لقد نامت على كتفه عدة مرات في غرفة الانتظار .. المسكينة
أخفض محمود عينيه متحاشيا النظر إلى نانسي .. وقد خلا وجهه من أي تعبير .. وكأنه يدينها على وصف منار وريم لطريقة دعم ماهر لها .. ألا يستطيع أن يرى إلى أي حد كانت منهارة ؟ وأنها لولا دعم ماهر وسط رفض عائلته لما تمكنت من الصمود لحظة ؟
استعادت قوة صوتها وهي تقول :- أنت بخير الآن .. ولم تعد بحاجة إلي
تمتم بهدوء :- بالتأكيد
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك