رواية عرسنا في الجنة -8
الشمطاء المتبرجة.. اين هذه القصور من مسجد الرحمة المتواضع الذي نشأت فيه؟؟ كنت اصلي فيه واشعر
بحفيف اجنحة الملائكة تحيط بالمصلين..
كريستين: لا تكلمني مثل النساك والرهبان.. انت مهندس ناجح وبنيت مستقبلك في هذا البلد..
قاطعها حسام: من ينسى ماضيه لا مستقبل له.. اذا كان دنجوا الذي اعتنق الاسلام حديثا مشتاقا لأرض
الاسلام فكيف لا اكون انا مشتاقا لها؟؟ كريستين يا حبيبتي.. ان كنت معي فمم تخافين؟؟
كريستين: لا يا حسام انا احبك ولكن ليس لدرجة اني اضحي بكل شي من اجلك.. لن اضحي بطموحي
وبحياتي و اصدقائي..
حسام بصرامة: الحب لا يكون مشروطا.. اخشى انه لا خيار ثالث في هذا الموضوع.. اما تعودي معك واما
ننفصل بالمعروف كما دخلنا بالمعروف..
ثارت كريستين بشدة وصرخت: ايها النذل .. انت تهددني بالطلاق و انا الذي فضلتك على اكابر بني قومي؟؟
انا صنعتك من لا شيء.. اسمع يا حبيبي؛ هنا ليس مثل وطنكم وتقاليدكم.. ان كت تريد الطلاق فانا لي الحق
في نصف ما تملك..
ووسط دهشة كريستين حزم حسام آخر حقائبه وقال "خذيه كله.. انا لا آمن ان يكون كل مالي في هذه الارض
من حرام.. فلم اترك شبهة الا وخضت بها" ثم انصرف لا يلوي على شيء...
القلب المكسور
لعل الشيء الايجابي الوحيد في مواصفات شعبنا والذي لم تستطع الحرب ان تمسحه كسائر المواصفات هو
تفاؤله وتمسكه بارضه. فلم يكن غريبا ان ترى المواطن وقد اصيب بيته بصاروخ يعود في اليوم التالي
ليرممه بما تيسر له من الامكانيات. لذا لم يكن صعبا على حسام الذي اتم دراسة الهندسة في الخارج وعاد
خالي الوفاض الى وطنه ان يجد وظيفة محترمة في احدى شركات المقاولات. ثم انه بمجرد ان ثبت قدميه
على الارض بدأ يفكر جديا بالارتباط... وصودف ان عبير كانت قد انهت لتوها دراسة المحاسبة في جامعة
محلية وتوظفت كمديرة حسابات في نفس الشركة التي عمل فيها حسام. وفرضت عليهما ظروف العمل ان
يلتقيا كثيرا مما اعاد الحرارة الى اعجاب قديم في نفس حسام خاصة وان العمر لم يغير شيئا في طلة عبير
الجميلة سوى انه زادها رونقا وفتنة ونضوجا. ومع علمه باعجاب صديق العمر اسامة بعبير فقد آثر حسام
ان يتجاهل هذا الموضوع خاصة وانه يعرف ان طبيعة حياة المحارب الغير مستقرة التي يعيشها تمنعه من
مجرد التفكير بالزواج. وكان من المتوقع ان يثور غضب اسامة وغيرته لخيانة صديقه المعنوية له .. الا ان
اسامة كان واقعيا فقد احب عبير واحب حسام لدرجة انه آثر الدوس على قلبه من اجل سعادتهما سوية.. فلم
يكتف فقط بان يعطي حسام الضوء الاخضر ليتقدم لعبير بل تطوع ايضا في مساعدته في الحصول على
قلبها.
رغم كل مشاغل اسامة وتنقلاته السرية الدائمة فلم يكن يفوت ابدا ادنى فرصة للاجتماع بصديق عمره حسام
حيث كان يهبط عليه من حيث لا ينتظر ويتجاذب معه اطراف الحديث. وفي احدى لقاءاتهم المسائية السرية
تسامر الرجلان وتناجيا فقال حسام: ما رأيك يا اسامة؟؟ كيف اتقدم لها بطريقة مؤدبة؟؟
قال اسامة مبتسما: انت تسألني؟؟ انت الذي كنت متزوجا وتعرف كيف تفكر النساء؟؟
بون شاسع يا اسامة بين البنات الشرقيات والغربيات.. هناك الفتاة تعرض نفسها عليك.. قال حسام هذا
فقال اسامة برفق: لم لا تكون طبيعيا؟؟ اترك الموضوع ارتجاليا..
حسام: حاولت في عدة مرات ان افتح معها الموضوع ولكنها كانت تتجاهلني تماما.. ربما لا اعجبها..
اسامة: لا يا حسام .. لكن انت تعرف ان عبير خجولة و حيية و هي من النوع الذي لا يفكر باي رجل الا ان
تقدم لها كسائر الفتيات الملتزمات.. ماذا تتوقع منها ؟؟ ان تأخذ هي الخطوة الاولى..
فضحك حسام وقال : يا ليت.. كانت لتريحني من هذا الإحراج..
لسمة: ومم تخاف؟ هل تخاف ان ترفضك؟؟
حسام يتنهد: اخاف ان ترفضني.. اخاف ان تقبل بي.. اخاف من كل شيء..
اسامة باستغراب: تخاف ان تقبل بك؟
حسام: لعلي لا اليق بها... لعلي لست الشخص القادر على اسعادها.
اسامة: لم تقول هذا؟؟ انت مهندس محترم.. وماذا تقول عني اذن؟؟ مجرد مقاتل عادي. مجرم بنظر البعض..
حسام: لا تقل هذا عن نفسك.. انت كنت وما زلت مثالي الاعلى..
اسامة: الله يبارك فيك يا حسام.. انت تضفي علي قداسة لا استحقها.. لقد تغيرت يا حسام .. لم اعد ذلك
الانسان النظيف الذي عهدته.. في عنقي دماء ضحايا كثر.. ثم صمت لوهلة وقال "وكثير منهم ابرياء.."
حسام: اسامة .. لم لا تترك الميليشيات ان كنت لم تعد تؤمن بها؟؟
اسامة: لا اعرف يا حسام.. اتعرف كيف اصف لك شعوري ؟؟ انا اشعر اني كمدمن المخدارت.. اعرف انها
تضرني ومع ذلك لا استطيع التوقف عنها.. دماء القتال تسري في عروقي. . اتفهمني يا حسام؟؟
حسام: وماذا استطيع ان اقول لك؟؟ انت ادرى بظروفك.. ممكن نعود الى عبير؟؟ كيف افاتحها بالموضوع..
فنظر اسامة الى البعيد وكأنه يسترجع شريط ذكرياته وقال بصوت بدت على نبراته مرارة الحزن: اسمعي يا
عبير.. ربما لن تصدقي ما سأقوله لك.. لقد اعجبت فيك ما ان رأيتك.. بل حتى قبل ان اراك.. كنت الفتاة
التي طالما حلمت بها ورسمت صورتها في مخيلتي لاكتشف عند رؤيتك ان الحقيقة اجمل من الخيال وان
الوان ريشتي باهتة امام ابداع الخالق... لفترات كنت اختلس النظر اليك واتظاهر باللامبالاة او حتى بالنفور
ولكن في داخلي براكين تشتعل وحمم نفور ... انا اعرف ان كل من في الصف اعجب بك لكن هم غرقوا في
زرقة بحر عينيك وانا غرقت بالذكاء الذي يشع منهما.. هاموا ببياض وجهك واستدارته وانا همت بنور
الايمان والتقوى الذي يشع منه .. هم اطربتهم موسيقى صوتك الشجي وانا كنت اطرب للمعاني العميقة التي
تحملها كلماتك.. انا رأيت فيك الانسان قبل ان ارى فيك الانثى.. ونظرت الى عقلك وايمانك قبل ان انظر الى
ما لم يستطع حجابك المتقن ان يحجب من مفاتنك. ثم تابع اسامة وصوته قد بدأ بالتهدج : "سامحيني يا عبير
ان اخطأت بحقك.. كنت فيما مضى فتى مغرورا جلفا ساديا.. اتلذد برؤية من حولي يتعذب .. كنت انتقم من
الكل حتى من نفسي.. " ثم صمت اسامة قبل ان تخنقه العبرات وسط ذهول حسام الذي لم يجد شيئا ليتكلم
به.. فقد بدا واضحا ان مشاعر اسامة نحو عبير هي اكبر بكثير مما كان يتهيأ للجميع.
اغلى "نعم"
وشيئا فشيئا تقرب حسام من محبوبته وبدأت تلاحظ اهتمامه بها فشعرت هي الاخرى بشعور لذيذ لم تشعر
مثله من قبل منذ ايام المدرسة، وتولى اسامة تعليم حسام كل ما ينفعه للتقرب من الحبيبة دون بذل اي مجهود؛
بل كان يتكلم فقط بما يجيش في صدره فيأخذه حسام صافيا كنور الشمس على طبق من فضة. وشيئا فشيئا
بدأ التلميذ يتعلم من استاذه حتى جاءت اللحظة التي اطمئن فيها الاستاذ على نباهة تلميذه فتركه يحلق وحيدا
في فضاء الحب. وفاضت مشاعر حسام كلاما معسولا وسحرا جذب عبير اليه يوما بعد يوم حتى باتت
تتحرق ان يفاتحها بالموضوع ويريح بالها. وجاء هذا اليوم وفاتحها حسام اخيرا بالموضوع في كافيتريا
الشركة فشعرت انها اسعد فتاة في الدنيا واغرورقت عينها بالدموع وهي تقول اجمل واعذب "نعم" في حياة
اي بنت.
وبدأ حسام يزورها في بيتها ليتعرفان على بعضهما البعض اكثر؛ وكانا يكتشفان شيئا فشيئا مدى التفاهم
الفكري والانسجام العاطفي الذي يجمعهما وتمت الخطوبة في حفل متواضع حضره الاهل فقط وبدات مرحلة
جديدة من حياة الشابين....
يا ترى هل تشتاقين الي كما اشتاق لك؟ قال حسام بمكر
فاجابت عبير وقد احمرت خدودها من الخجل: ربما
مستغربا: ماذا تعني هذه الربما؟؟ الا يدرك الانسان شعوره؟؟ اما نعم واما لا..
قالت عبير باستحياء لقد استجمعت كل قواي لاقولها ارجوك الا تضغط علي اكثر من ذلك.. انا بنت في
النهاية..
حسام: انا اعرف انك بنت .. ولهذا احببتك.. انت امرأة تفيضين انوثة.. قد تكون الانوثة بالنسبة لبعض
الرجال تضاريس جسد او تكويرات وانحناءات.. اما بالنسبة لي فهي هذا الصوت العذب والابتسامة الدافئة
والحياء الهادىء.
فقالت عبير بصوت عذب وابتسامة دافئة ونبرة يشوبها الحياء" وما رأيك ان استعمل هذه الاسلحة الثلاثة
ضدك؟؟
حسام: آه تكون لك الغلبة فلا احد يستطيع الدفاع امام سلاح يحيط به برا وبحرا وجوا.
عبير: انت مجامل لبق حقا..
حسام: انا لا اقول الا ما اشعر به وعندما اشعر به
صمتت عبير على استحياء وراحت تجدل ضفائر دمية بين يديها فسألها حسام: على فكرة ما لون شعرك؟؟
عبير: ولم يهمك ان تعرف؟؟هل يغير هذا في قرارك؟؟
حسام: لا بالطبع وهل تظنيني سطحيا لهذه الدرجة؟ لكن لطالما تساءل الشباب في صفي عن ذلك؟
قالت عبير باستغراب: وانت كنت منهم؟
حسام: لا بالطبع لا.. انت تعرفين اني كنت من شلة اسامة .. وكنا ملتزمين..
عبير: ارجوك لا تذكر اسم هذا المتعجرف امامي..
حسام: لا تقسي عليه يا عبير والله انه طيب ويخفي خلف مظهره الخشن قلب طفل بريء..
عبير: انت الطيب وعلى نياتك.. ارجوك لا تعكر كلامك الطيب لي بذكره فبدني يقشعر عندما اتذكر كيف
كان يعاملني ويعامل بنات صفي..
حسام: حسنا على راحتك.. لكن لا تهربي من السؤال.. ما لون شعرك؟؟
قالت عبير بدلال : ستعرف بعد عقد القران.
حسام: مصرة على التشويق؟؟
عبير: وماذا يهمك لونه.. الا تعرف اني ممكن اصبغه لك باللون الذي تحبه لارضيك؟؟
حسام: حقا.. انت مستعدة لذلك؟؟
عبير: ولو استطعت ان اغير من لون مقلتي كما قالت السيدة عائشة لفعلت...
حسام: ياااه الى هذا الحد انا غال عندك..
فرمقته عبير بطرف عينيها باستحياء وقالت: ربما....
فقال حسام بثقة: لا يا عزيزتي.. انا اريدك ان تظلي طبيعية كما انت.. فهذا الذي يعجبني فيك...
عذاب قلبين
اعتذر اسامة من صديقه حسام عن المشاركة في حفل زفافه متذرعا بأنه لا يريد ان يعرضه ويعرض عروسه
للخطر كونه المطلوب رقم واحد في المدينة.. ربما كان هذا هو العذر الحقيقي وربما لا. ففي كل الاحوال لم
يكن اسامة قادرا ان يتقبل هذا المشهد المؤلم.. حبه الوحيد يزف الى رجل غيره وليس اي رجل ؛ بل اعز
صديق عنده..
لم يكن لأسامة مواعيد معينة يزورنا فيها ولا كان يعطينا انذار مسبقا، فكثيرا ما كنا ندخل المنزل لنفاجىء به
ينتظرنا في الردهة. فقد كان يخاف ان يعرضنا للخطر ان تواتر خبر زيارته لنا امام الناس.. ومع ذلك فقد
كان قلبي جهاز انذار مبكر لقدومه ؛ اذ تراه يخفق بسرعة بدون سبب قبل كل مرة يزورنا فيها. وفي يوم
زفاف عبير توقع قلبي هذه الزيارة وصدق كعادته..
دلف اسامة الى حجرة والدي المريض وقبل يده ودس تحت الوسادة المبلغ الشهري المعلوم قائلا: والله اشتقنا
لك يا خال انا مسرور لأنك في صحة جيدة اليوم.. انا اراك افضل من المرة السابقة..
فكح والدي كحة شديدة وقال "من اين الصحة يا بني؟؟ انا اسير من سيء الى اسوأ."
فامسك اسامة يد خاله المرتجفة وشد عليها قائلا: لا تقل هكذا يا خال هذه غيمة صيف عابرة ستقوم منها
كالحصان ان شاء الله.
تجاهل والدي كلام اسامة ونظر الي بعيون منكسرة ثم توجه الى اسامة بالكلام وهو يحبس دموعه: "لا
اوصيك بحنين فليس لها غيرك في هذه الدنيا بعدي."
"لا تخف يا خال.. حنين في عيوني ان شاء الله .. انا لا احتاج الى توصية.. اهدأ الآن ارجوك؛ الانفعال
يضرك.." ثم تناول اسامة كأس الحساء الذي اعددته لوالدي وحرص على ان يطعمه لخاله بالملعقة بنفسه؛ و
بعد الانتهاء ناوله حبة الدواء وكاس الماء ثم راح يقص عليه ذكريات الماضي وتطورات الوضع الراهن حتى
غفا ونام.
فقام اسامة من مكانه على رؤوس اصابعه واشار الي بلطف ان اخرج انا ايضا.. غطيت والدي جيدا وقبلته
في جبينه ثم جلسنا انا واسامة في حجرة الجلوس.. جلس اسامة خمس دقائق مطرقا دون ان يتكلم ببنت شفة..
بدا لي هشا وضعيفا وكأنه جذع شجره كسرته العاصفة. الى ان قال اخيرا "اليوم زفافها.. " ثم صمت فترة
اخرى ليستجمع قواه ويغالب دموعه فقال "لم استطع ان اظل وحدي.. انت الوحيدة التي ممكن تفهمني"
ساءني ان ارى البطل الجبار بهذه الحالة من الضعف والانكسار من اجل فتاة لا تستحقه فقلت: "ماذا اقول
لك؟؟ كلام ابناء يعقوب عليه السلام لابيهم: "اتفتأ تذكرها حتى تكون حرضا او تكون من الهالكين.."
فاجاب اسامة بايمان عميق "ولا اقول الا مثله "انما اشكو بثي وحزني الى الله"
فثرت عليه وقلت له:" اعذرني يا اسامة انت تعرف منزلتك عندي وتعرف كم احترمك.. ولعلها المرة الاولى
والاخيرة التي ساكلمك هكذا.. انت تتصرف كالاطفال.. البنات حولك كثيرات وكلهن يتمنين الارتباط ببطل
مثلك.. فلماذا تفكر بها؟؟ الا يوجد غيرها في هذا الكون؟؟"
فاشار اسامة الى قلبه وقال "حنين.. انا زوجتها بنفسي الى اعز اصدقائي وقاربت بينهما.. هذه نهاية قدرتي..
هذا قسمي فيما املك فلا تحاسبيني على ما لا املك.."
تابعت ثورتي وقلت "هراء.. الأمر بيدك.. انت تحب تعذيب نفسك.. لو كنت تريد ان تكرهها لكرهتها..
فهناك الف تصرف منها يدفعك الى هذا.. وحتى لو لم يكن هناك اي سبب فبإمكانك ان تتخيل اي سبب ولو
كان وهميا حتى تكرهها.. لكنك لا تريد هذا.. اتعرف لماذا؟؟ لانك غاوي عذاب.. تحب ان تتعذب.. انت ما
زلت تعيش في الاوهام. في طفولتك كنت تضع العصابة الحمراء وتتخيل انك سوبرمان.. الآن تريد ان تتخيل
نفسك روميو العاشق الذي يقتل نفسه فداء للمحبوبة.. سير لانسلوت الفارس النبيل الذي يحب بصمت زوجة
الملك فيخدمه لاجلها.. متى ستعيش في الواقع وتدرك ان هذه الشخصيات خرافية.. لا احد يستطيع ان يكون
بهذه المثالية.. لا احد.. اتفهمني؟؟ متى تستيقظ يا اسامة من هذا الوهم؟؟ متى؟؟"
فنظر الي نظرة عتب اخترقت قلبي في الصميم وعاد الى لهجته الواثقة فقال "الله يسامحك.. انا لا احتاج الى
نصائح الآن.. كل ما تقولينه اعرفه.. كنت احتاج الى من يقف قربي ويخفف عني.."
فقلت بجنون ونزق "وانا من يخفف عني؟؟ انا لم ايضا اعد استطيع ان اتحمل.."
فمد يده ليمسك يدي لكنه سحبها في آخر لحظة وقال "حنين، انت تعرفين مدى معزتك عندي.. وانا اشعر
بمدى الألم الذي يعتصر قلبك بسبب مكوثك وحدك مع والدك المريض.. وصدقيني لو كان باستطاعتي ان
ازورك يوميا لاستمع الى معاناتك واخفف عنك لما قصرت.. لكن انت تعرفي اني مستهدف.. وانا لا اريد ان
يحصل لكم ما حصل لاسرتي"
فقلت وانا ابكي "انت لا تفهم شيئا.. انا فتاة يا اسامة.." ونظرت في عينيه فرأيت فيهما الحيرة فتابعت " انت
لن تفهمني ابدا.. فلم اعذب نفسي؟؟ ارجوك اتركني وحدي الآن.. انا متعبة "
فقال والحيرة لم تفارقه "على راحتك.." وهم بالانصراف..
لكني ادركت خطأي فناديته ان يرجع وقلت "اعتذر منك.. انا اتعذب معك لاجلك افهمني ارجوك.. انا لا اطيق
ان ارى بطلي في هذه الحالة.. انها تكرهك يا اسامة فلم تحبها؟؟ لم لا تدوس على قلبك و تنساها ؟ لم تتبع من
لا يبالي بك وتهمل من تحلم ان تكون خادمة بين يديك.."
لم يلتفت اسامة البتة الى الجملة الاخيرة بل توقف سمعه عند العبارة الاولى فسأل مستغربا "كيف اكرهها يا
حنين؟؟ لم ترتكب معي اي ذنب؟؟ بل انا الذي كنت قاسيا معها واهنتها وجرحتها عدة مرات.. من الطبيعي
ان تنفر مني منذ ذلك الحين خاصة واني الآن رئيس ميليشيا يعني مجرم حرب مثل بقية رؤساء
الميليشيات.."
لا يا اسامة انت مختلف. لا تشبه نفسك بهم.. انت حملت السلاح اضطرارا .. انت تحسن الى الفقراء وتدافع
عن الضعفاء.. بفضلك لم يعد احد يجرؤ على المس بهم او التنكيل بهم.. اختفت السرقات و جرائم الاغتصاب
واختفت المافيات من المدينة.. طوابير الخبز تقلصت.. الكل يخاف منك يا اسامة.. ويعرفون مصير من
يخالف اوامرك ..
اسامة: يخافون مني.. صدقت.. لكن كنت اتمنى ان يحبوني. كان بودي ان نصل الى نفس النتيجة بدون
استعمال الترهيب.. بودي لو انام واستيقظ لارى الناس يحترمون القوانين والعدالة بدافع من ضمائرهم لا
بدافع الخوف..
فاجبته: شيئا فشيئا يا اسامة الناس ستتعود.. نحن في حرب والناس في حالة ضياع.. لكن لا تفقد الامل.. غدا
تنتهي الحرب وتهجر حياة الليل هذه وتتزوج من تحبها وتقدرك ويكون لك اولاد وبنات تربيهم على الصلاح
والتقوى..
اسامة: لكنها تزوجت يا حنين.. تزوجت.. لقد ضاع آخر امل لي فيها..
فتنهدت تنهيدة عميقة وقلت بصوت خافت "انت لا ترى غيرها.. اليس كذلك؟؟"
لم يسمعني اسامة بل غرق في بحر افكاره ومن ثم ودعني بصمت واطبق الباب بلطف .. نظرت اليه من
النافذة يمشي بلا هدى وتتبعته بنظري حتى ابتلعته الظلمة ثم ارتميت على فراشي ابكي بصمت واردد
"غبي.."
رأس الافعى
بعد سقوط رجاله الواحد تلو الآخر وسقوط شعبيته في اعين الناس واعين محازبيه.. بدأ ابو كفاح يشعر
بالعزلة واضطر ان يقضي معظم ايامه متخفيا في سراديب ضيقة لا يأمن فيها لاحد حتى اتباعه الخلص الا
من يقع مثله في دائرة الاستهداف من قبل خفافيش الليل. في البدء كان يظن انها مجرد مرحلة عصيبة يمر
فيها ثم يتخطاها كما حصل له مرارا من قبل، ولكن نفور الناس التدريجي منه جعله يتأكد ان عصره الذهبي
قد ولى، فتخلى عن جنون العظمة الذي تملكه لعقود من الزمن، وبدأ يرى الامور بمنظار واقعي فلم ير حلا
الا الهروب.. وكانت المانيا الشرقية قد ابدت استعدادها لاستقباله هناك كلاجىء سياسي اذ لم تكن لتتخلى عنه
بهذه السهولة خاصة مع الاسرار الاستخباراتية التي يعرفها عنها.. فاعد له جهاز المخابرات الستازي خطة
هروب سرية عبر مرفأ المدينة بجواز سفر مزيف.. ولم يكن الحصول على هكذا جواز سفر صعبا في بلد لا
يحكمه القانون مثل وطننا ابان الحرب..
انهى ابو كفاح خطة الهروب بسرية مطلقة، واعد كل شيء بدقة وحرفية ممتازة ولم يتبق عليه الا ان
يصطحب معه عشيقته نيرفانا؛ اذ لم يكن ليستطيع ان يتخلى عنها خاصة وانه وضع كثيرا من الاموال باسمها
في حسابات سرية خشية ملاحقته من قبل الانتربول الدولي بتهمة تبييض الاموال. واتفق الطرفان على اللقاء
في مكان سري في منتصف الليل ومن ثم يتجهان معا في سيارة مسروقة كان ابو كفاح يحتفظ بها لاجل
تفخيخها يوما ما. وبالفعل سرت الخطة بانسيابية مطلقة والتقى ابو كفاح بعشيقته في المكان الموعود ونزل من
سيارته ليساعدها في حمل امتعتها.. وحين عاد الى السيارة فوجىء بأنها لا تدور.. فصب عليها جام غضبه
وقال "اللعنة عليك يا بنت العاهرة.. ماذا جرى لك؟؟"
فنظرت اليه نيرفانا شزرا فقال بنصف ابتسامة: "متأسف انا لا اقصدك انت.. اقصد هذه السيارة اللعينة.." ثم
حاول مرة اخرى ان يشغلها ولكن دون جدوى..وظل يحاول حتى يأس وخرج من السيارة ليركل العجلة
بقوة.. منهالا على السيارة بالشتائم القبيحة.. وفي غمرة غضبه سمع صوتا من الخلف يسأل "هل تحتاج الى
مساعدة؟؟"
فتفاجأ ابو كفاح بهذا الرجل الي خرج من الظلام فجأة وسأله بحذر "من انت ؟؟ من اين اتيت؟؟"
انا حارس المبنى هناك واشار الى مبنى على بعد مائة متر.. سمعت جلبة هنا فجئت لاستطلع..
قال ابو كفاح بسخط : لا اعرف ماذا جرى لهذه السيارة؟؟ لم يكن بها أي عطل حينما توقفت لاساعد زوجتي
...
فقاطعته نيرفانا قائلة بحدة: عشيقتك..
فنظر اليها شرزا وتابع دون ان يكترث: في حمل امتعتها ثم عدت الى سيارتي فلم يعمل المحرك..
"دع الامر لي اذن" قال الغريب ثم فتح باب الصندوق الامامي وتفحص المحرك فلم يجد به عطلا فانتقل الى
شرائط الكهرباء وتنبه الى كون احد الشرائط مقطوعا فقال "يبدو ان عندك شريطا مقطوعا.. لا تقلق.. انه
__________امر سهل ساصلحه لك في دقائق.. "
وبالفعل ما هي الا دقائق حتى اصلح الغريب العطل ودار المحرك من جديد..
شكرا لك يا ايها الشاب.. كم تريد مكافأة لك؟؟ قال ابو كفاح وفتح حقيبة الدولارات التي معه واخرج رزمة
الف دولار منها واعطاها للغريب قائلا "تفضل.. هذه لك كلها فانت تستحقها.. لقد انقذتني من ورطة.."
"في الحقيقة انا اريد شيئا ارخص من هذا بكثير" قال الغريب..
حقا؟؟ ماذا تريد قل لي ايها الغريب؟؟ وانا جاهز..
فنزع اسامة قبعته و لحيته المستعارة وقال بنبرة صوته الحقيقية "اريد حياتك" ثم اخرجه بقوة من السيارة
وطرحه ارضا
جن جنون ابو كفاح وقال "انت؟؟ ما الذي جاء بك الى هنا؟؟ كيف عرفت؟؟"
لم يجبه اسامة باي كلمة الا ان خروج نيرفانا من السيارة واحتمائها بأسامة كشف الحقيقة
فاسقط في يد ابي كفاح وقال "حتى انت يا نيرفانا.. هذا آخر ما كنت اتوقعه.. تخونيني بعد كل ما فعلته لك"
فاجاب اسامة بديلا عنها "لم يعد اسمها نيرفانا.. انها فاطمة الآن.."
فضحك ابو كفاح بيأس "فاطمة؟؟ هذه العاهرة تسميها فاطمة.."
اجابت نيرفانا وهي تنظر في عيني اسامة بحبور ماذا علي ان اقول كي تكتمل القصة ؟؟ "وما أبرئ نفسي إن
النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ".. اليس كذلك يا اسامة؟؟
"بلى" قال اسامة باسما "إن ربي غفور رحيم"
ثم توجهت نيرفانا الى الزعيم فقالت " وتلك نعمة تمنها علي يا زعيم ان استبحت جسدي ورميته للكلاب من
اصدقائك تنهش به.. انت لم تترك لك صديقا يا زعيم" قالت نيرفانا.. "اصررت ان تكسب تبجيل الناس
بالخوف والرعب لا بالاحترام.. فانظر كيف كانت خاتمتك.."
"خاتمتي؟؟" قال ابو كفاح ونظر مرتعبا الى اسامة.. "لا يا اسامة.. لا تقتلني.. انا اريد ان اعيش.. انا لم اعد
اشكل خطرا عليك.. انظر ها هي حقيبة سفري.. انا مغادر الى المانيا.. وان شئت خذ اموالي التي وضعتها
في حساب نيرفانا .. انا لم اعد اريدها.. لكن اتركني حيا.. ارجوك.. صدقني لن تر وجهي بعد الآن.."
لم يرف جفن لاسامة وهو يسمع كلام الزعيم وقال بعد صمت بدا دهرا لابي كفاح "ذاكرتك ضعيفة يا زعيم..
لقد نسيت ما اخبرتك اياه عن الجرذ الذي انوي اصطياده قبل خطوتين من فراره من مرمى بندقيتي ... لا
تخيب املي فيك مرتين يا زعيم.. لقد خاب املي فيك اول مرة حينما رأيت حقيقتك.. والآن يخيب فيك املي
للمرة الثانية حينما تتسول حياتك.. الا يكفي انك عشت ذليلا جبانا؟؟ على الاقل واجه الموت بشجاعة.."
"كن واقعيا يا اسامة.. كيف يواجه الموت بشجاعة وهو يعرف ما ينتظره .." قالت نيرفانا..
هز اسامة راسه موافقا ثم حمل جالون البنزين كان قد خبأه قربه ورشه على ابي كفاح المرمي ارضا، فراح
هذا الاخير يتلوى في التراب كالافعى الجريح ويصرخ "لا ارجوك.. لا تحرقني بالنار.. ارجوك.."
امسك اسامة بعود الثقاب بيد مرتجفة وهم بالقائه على الطريح ارضا لكنه تمالك اعصابه وعاد ليطفئه بيده
قائلا "لا يعذب بالنار الا ربها.."، ثم استل مسدسه من خصره واطلق طلقة واحدة في رأس ابي كفاح فخر
صريعا لتوه..
الصيف الساخن
وفي صيف تلك السنة شن العدو الغاشم عدوانا هائلا على الوطن متذرعا باستعمال الفدائيين لاراضينا منطلقا
لعملياتهم ضده. وبدت الحرب الاهلية بمثابة لعبة اطفال قرب هذا العدوان نظرا لحجم الدمار الذي حل
بالوطن والمجازر التي قطعت اوصاله فقد القت الطائرات بآلاف الاطنان من القنابل العملاقة التي تدك
البنايات دكا من اساساتها. ولاقى اهل الجنوب النصيب الاكبر من العدوان ومع ذلك فقد صمدوا صمودا
اسطوريا امام آلة حرب تصب عليهم الحديد و النار بلا كلل او ملل. ولم تمر الا بضعة شهور حتى نظم اهل
الجنوب مقاومة باسلة للعدوان تدرجت عملياتها في البدء من عمليات خجولة فردية لتصبح حرب عصابات
منظمة انهكت العدو. وكان الراغبين في خوض المعارك ضد العدو الاجنبي يخضعون لدورات تدريبية تمهد
لنزولهم الى ميدان القتال. وبالطبع لم يكن اسامة محتاجا لمثل هذه الدورات بل تطوع في المساعدة للتدريب
على القنص وهو ميدان اختصاصه. الا ان الخضوع لدورات دينية كان الزاميا فبدون الاعداد النفسي والديني
للمقاتلين كانت قيادة المقاومة تخشى من اختراق صفوفها من قبل متطوعين يعملون لمصالح شخصية او
مصلحة العدو الاجنبي. وتفاجىء اسامة ان يكون الشيخ قاسم هو المسؤول عن هذه الدورات فقال له: قاسم؟؟
ماذا تفعل هنا؟؟ ظننتك من انصار الحل السلمي.
فتقدم قاسم بهدوء ووقار وقال: يعني ان لم اشترك معكم في حروبكم العبثية.. اكون مسالما؟؟ انا اقسمت الا
اوجه بندقيتي الا الى صدر العدو الحقيقي.. واقسمت الا اقاتل الا في سبيل الله..
اسامة: لكن الا تسمي حربنا ضد الجبهة الوطنية جهادا؟؟ الا يعد تخليص الناس من الطواغيت مثل ابي كفاح
وشربل وامثالهما جهادا ؟؟
تجاهل قاسم السؤال واجاب: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم والرجل
يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله ؟ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله
فردد اسامة في نفسه "لتكون كلمة الله هي العليا؟؟" ثم رفع صوته وقال مستفهما "اتراني لم اكن احارب بهذه
النية؟؟"
قاسم: دعني اسألك : متى انضممت الى التنظيم؟
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك