بارت من

رواية عرسنا في الجنة -7

رواية عرسنا في الجنة - غرام

رواية عرسنا في الجنة -7

تذكرت ما يقوله لي دائما فقلت لها "ان الانسان مبتلى.. واشد الناس ابتلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل.. والله
يحبك ويريد ان يرفع من درجاتك الى درجة الصديقين.. فامتحنك باعز ما تملكين ليرى ان كنت ستصبرين
صبرا جميل.. "
نعم انا اتقبل هذا .. ولكن لم تعد الحياة تعني لي أي شيء.. اريد ان اموت وانتهي من هذا العذاب.. والاقي
ربي واجد في جنته ما وعدني حقا.. هل هذا اعتراض ايضا؟؟
لا اعرف يا ليلى.. لا اعرف.. هذه اسئلة صعبة.. لا استطيع ان اجيب عليها.. ثم قلت وكاني أفجر قنبلة "لم
لا تسألين اسامة؟؟"
اسامة؟؟ صرخت ليلى بغضب ودهشة.. اسمعي يا حنين. هذه آخر مرة اريد ان اسمع فيها اسمه او اسم أي
رجل آخر.. اسامة بالذات هو سبب ما حصل لي.. لقد بدأ حربه العبثية ضد اصدقائه وحولهم الى اعداء دون
ان يبالي بحمايتي .. لقد تركني فريسة سهلة لهم.. واردفت بتهكم.. هذا السوبرمان.. ففضلت ان اصمت في
هذه الظروف اذ لم يكن الوقت وقت نصائح.. وضممتها الي بشدة فبكت حتى بللت دموعها ثيابي..
ورغم كل التحسن الذي طرأ عليها فلم تعد ليلى طبيعية كما كانت ابدا.. كانت تقوم في احيان كثيرا من الليل
وهي تصرخ "انهم هنا.. انهم يريدون ان يعتدوا علي من جديد.. انقذوني منهم.. ارجوكم.." ثم تصرخ
بهستيريا وترطم رأسها بالسرير مرارا حتى يسيل الدم منه.. فكنت اسارع اليها واضمها الي واقول "ما من
احد هنا.. انه كابوس.. ثم لم تخافين؟؟ انظري .. معي سكين .. ان تجرأ احد واقترب منك ساغرزها في
صدره.." فتهدأ وتستكين وتنظر الي بذل وانكسار وتقول لي "لم لا تتركي هذه السكين معي يا حنين؟؟ اريد ان
اضعها تحت وسادتي.." لم اكن لاجيبها بالطبع بل اضمها الي حتى تشعر بالاطمئنان وتغفو بين يدي.. طبعا
لم يكن من الممكن ان انفذ لها طلبها فانا لا آمن ان تؤذي نفسها وغيرها بهذه السكين اذا انتابتها احدى تلك
النوبات القاسية.
المهم بعد شهور من هذا العذاب المتواصل والكوابيس التي لا تنتهي.. علمنا ان قضية ليلى لا يمكن ان تحل
نهائيا طالما ظلت في هذه المنطقة التي اعتدي عليها فيها.. فهي لن تأمن الا يعودوا اليها من جديد ولا تجرؤ
ان تخرج وتواجه الناس الذين يعرفونها ويعرفون ما جرى لها.. فاخترنا ان ننقلها الى العاصمة عند خالتي
سهيلة ولبثت هناك فترة طويلة كان اخوها يرسل لها خلالها عبري بمصروفها دون ان تشعر او تعرف.
الخفاش والجرذ
كان ما حصل لليلى قاسيا جدا على اسامة قاسيا لدرجة انه بقي ليال كاملة لم يذق فيها طعم النوم؛ لا يأكل ولا
يشرب الا من غذاء وحيد الا وهو نار الانتقام. وبدأت باكورة خطة الانتقام باغتيال ابو الجماجم في عقر دار
الزعيم نفسه مما اجبر هذا الاخير على اتخاذ اقصى تدابير الحيطة والحذر فلم يعد يذهب الى اي مكان الا
بحراسة مشددة. ولكن ماذا تفلح الحماية امام تصميم وارادة صاحب الشريطة الحمراء؟ دخل ابو كفاح مطعمه
المفضل "نجمة البحر" مع حفنه من رجاله واستعد ليتناول طبقه المفضل من ثمار البحر.. لكن لم تمض بضع
لحظات الا وسقط رجاله صرعى في غضون دقائق.. واحتل المكان ملثمون بثياب سوداء احاطوا بالزعيم
الذي بدا مذهولا من سرعة تنفيذ لعملية ودقتها.
من انتم؟؟ قال الزعيم وعيناه تدوران في محجريهما من الرعب.
فارتفع صوت من وراء الجنود المدججين وقال: نحن زبانية العذاب جئنا لتاخذك الى الجحيم الذي تستحقه.
فظن ابو كفاح انه في حضرة كوماندوس من الجبهة الوطينة فقال: احذركم ان مسستموني بسوء سيدمر
اتباعي قراكم فوق رؤوسكم.. لقد استلمنا البارحة عبر المرفا عشرات آلاف صواريخ الغراد من المانيا
الشرقية.
" الصواريخ لا تنفع ضد الاشباح" قال الصوت بثقة.
الزعيم: من انت؟؟ اظهر نفسك ان كنت شجاعا..
فاظهر الشبح نفسه فإذا هو اسامة يشق طريقه بطء وسط اتباعه مرتديا سترة سوداء تظهر عضلاته المفتولة
عاصبا رأسه بشريطته الحمراء التي تميزه.. فارتجف ابو كفاح من الخوف وهو يرى اسامة يتقدم نحوه
بخطى وئيدة وثابتة وقال: اسامة؟؟ اهذا انت يا صديقي الوفي؟ صدقني يا اسامة اني لم آمر بالاعتداء على
اختك.. ابو الجماجم تصرف هكذا من بنات افكاره وقد لقي المصير الذي يستحقه على يديك.
اسامة بهدوء : زعيم!! ما من جريمة ترتكب في هذه المدينة الا ولك كفل منها.. اما بالامر او بالايحاء او
بتعاليمك القذرة التي تبثها بين الناس. انت الذي قضيت على اخلاقيات الحرب.
ابو كفاح: انا مستعد ان استر عرض اختك.. ازوجها لمن شئت.. اتزوجها انا ان اردت..
اسامة ببرود: تحمل عارها اسهل علي من ان ازوجها لوحش مثلك..
حاول ابو كفاح ان يستعيد شيئا من رباطة جأشه فقال: انتبه يا اسامة.. انت تمشي في طريق خطأ.. نحن اكثر
منكم وسنقضي عليكم بسهولة ان استمررتم في هذه المعركة.
اسامة باستهزاء: انتم الاكثرية ونحن النوعية..
ابو كفاح مدهوشا: اسامة.. انت كنت تتنصت لكل كلمة اقولها.. اليس كذلك؟؟ انت لم تكن مجرد مرافق
يطيعني طاعة عمياء كما كنت اظن .. كنت تخطط منذ البداية لانقلاب ضدي.
فهز اسامة رأسه بالايجاب وقال: نعم اتظن ان اصراري الدائم على مرافقتك في سيارتك المصفحة كان من
اجل حمايتك؟ ام تظنني غبيا كهؤلاء الذين قضوا في انفجار سيارتهم التي تتقدم موكبك.
ابو كفاح: ارجوك اسامة فلننس الماضي. دعنا نتفاوض و نحن مستعدين لنحقق لكم كل مطالبكم.. هل تريدون
زيادة في المعاشات.. مناصب قيادية؟
اسامة مستهزئا: اتظن كل الناس تباع وتشرى مثلك يا زعيم..
ابو كفاح بغضب: لا تكبر رأسك. انت تعرف اننا نستطيع القضاء عليكم بسهولة فانتم مجرد حفنة من المقاتلين
لا يتجاوز عددكم عدد اصابع اليد.
اسامة مستهزئا: وكيف تحاربون اهدافا غير مرئية ؟ نجن كالجن نراكم من حيث لا تروننا.. نحن كالخفافيش
نظهر من الظلام واليه نعود.
ابو كفاح وقد بدأ الرعب يتسلل الى قلبه: اسامة.. دع احقادك الشخصية جانبا .. فكر بمصلحة المدينة.. لا
يجوز ان نقوم بحرب داخلية بيننا والخصم يتربص بنا على الابواب..
اسامة: انا لا انال ممن يوجه بندقيته الى الخصم.. ولكن ممن يستعد ان يوجهها الى الداخل لأجل الاوامر.. انا
لا انال من المقاتل الشريف ولكن ممن يقتل ويسرق وينهب ابناء شعبه ويفرض عليهم الخوات.
فحاول ابو كفاح ان يبرر هذه الفظاعات بقوله: نحن نحتاج للاموال يا اسامة لاجل تمويل التنظيم.. هذه ليست
خوات.. انها ضرائب.. ثم تذكر ميل اسامة للدين فقال لا بل انها زكاة اموالهم.. نأخذها من اجل حمايتهم
اسامة: الاموال التي تتلقوها من الاشقاء ومن دول المحور الشرقي كافية لتمويل التنظيم.. انتم تأخذون هذه
الاموال الى جيوبكم.. انتم تأكلون القريدس وثمار البحر والكافيار فيما يتضور شعبنا من الجوع ويقف في
طوابير الخبز.. أي زكاة هذه التي تاخذها من الفقير الى الغني؟؟.
وهنا اسقط في يد ابو كفاح وادرك انه خسر المعركة بعد ان استنفذ جميع اوراقه فاسترجع شيئا من شجاعته
وقال: حسنا. لن اجادل اكثر من هذا.. انت انسان مثالي تبحث عن المدينة الفاضلة. ماذا تريد ان تفعل بي؟؟
اتريد ان تقتلني؟؟ افعل هذا ولكن ارجوك وفر علي المزيد من مواعظك الطوباوية تلك.. نحن لم نعرف كيف
تخلصنا من الشيخ مسعود..
اسامة : لا لن اقتلك. اتعرف اني اشكرك انك وضعتني مع الريس ابي صقر.. ثم اردف بتهكم: استاذي
الروحي الذي لن انسى فضله .. في كثير من الاحيان كانت خطوط التماس هادئة وخالية من طرائد القنص..
لقد علمني ان اصطاد الجرذان.. كانت الجرذان حذرة.. تطل رؤوسها اولا.. فان انست الى غياب العدو..
خرجت لمسافة قليلة.. فان انست اكثر الى الهدوء.. خرجت لمسافات اطول.. كان ابو صقر مختلفا عني.. انا
كنت احب ان اصطاد الجرذ ما ان يخرج.. كنت احب الضربات السريعة الدقيقة.. في الرأس تماما.. اما ابو
صقر فقد كان استاذا في فنون الاغواء والدهاء.. كان يردد علي:"ان قتلته مثلك.. فبم اسمتع في بقية الوقت؟؟
ان لذتي في هذه الحياة ان اترصد الجرذ.. ان اشعره بالخوف من اين ستأتي الطلقة ومتى ستصيبه.. ان اجعل
حياته في ذعر دائم.. حتى اذا خرج واطمأن ونسي خوفه.. اصبته بالطلقة القاتلة وقبل خطوتين فقط من نيله
لحريته والخروج من مرمى بندقيتي زوزو.."
انصت ابو كفاح وهو لا يفقه شيئا.. فيما تابع اسامة ببرود: اخرج يا ابا كفاح.. عد الى تنظيمك ..عد الى
زواريبك.. التي اعرفها شبرا شبرا.. وفترا فترا.. لم يحن وقتك بعد..
قتلى على الحاجز
ودخل مرض السيد رأفت مرحلة خطيرة اقتضت نقله الى مستشفى العاصمة الرئيسي، ورغم ما في هذه
الرحلة من مخاطر فقد اصرت عبير على ان ترافق والدها الى هناك فاستقلا سيارة تاكسي يقودها جارهم ابو
شريف حيث جلست عبير في الخلف واسندت رأس ابيها على حجرها، وانطلقت سيارة التاكسي تحت جنح
الظلام حيث حاول سائقها المخضرم تخطي حواجز الميليشات المتناثرة على ارجاء الطريق مستعينا بخبرته
في هذا المجال. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فلم ينجح السيد ابو شريف في الالتفاف حول حاجز
ميليشيا طيار اقامته الجبهة الوطنية على جانب الطريق. فاضطر ان يوقف سيارته خشية ان يطلق المسلحون
النار..
تقدم مسلحان من السيارة بخطوات وئيدة واجبرا السائق على النزول منها ، فقال لهم متوسلا " ارجوكم لا
تؤذونا نحن قوم مسالمون"
واخرج من جيبه ورقة ممزقة قائلا "انظروا معي تصريح من القديس نفسه يسمح لي المرور.. لقد كنت
صديقا له في ايام الدراسة"
ونظر الطويل الى الورقة ثم مزقها قائلا "انتهت صلاحيتها.. لم يعد بيننا وبينكم الا هذا.. "واشار بيده الى
عنقه اشارة الذبح..
ثم ركله برجله واجبره على الركوع ووبصق في وجهه وقال "عليكم اللعنة.. الله يخلصنا من قرفكم.. كلكم
تستحقون الموت.. لا بل ان الموت قليل عليكم.. لماذا لا تعودوا الى الصحراء التي جئتم منها ايها الكلاب
الانجاس؟؟ وتتركوا لنا هذا البلد؟؟"
مسح ابو شريف البصقة عن جيبنه وقال متوسلا: نحن من هذه البلاد ابا عن جد.. ارجوكم نحن مسالمين..
فداس الطويل على عنقه وقال: كلكم تقولون هذا.. ماذا تخبىء في السيارة ايها القذر؟؟ ها.. اخبرني..
متفجرات ام صورايخ؟؟ ام لعل هذه السيارة ملغومة تريد ان تركنها في احد احيائنا؟؟
ابو شريف متوسلا مرة اخرى: ارجوكم ليس معي اي شيء ممنوع.. فتشوا السيارة ان اردتم معي فقط
مريض في حالة حرجة وينبغي نقله الى العاصمة في الحال.
فسلط المسلح القصير الضوء على مقعد السيارة الخلفي ورأى وجه فتاة جميلة محجبة يشع نورا.. فبهت من
جمالها وقال لصديقه: مريض؟؟ انا لا ارى الا فتاة في غاية الجمال.. ثم انه انزل المصباح قليلا ليرى انها
تضع على حضنها رأس رجل بدا عليه الهزال الشديد.
فقال لصاحبه "لكن معه حق.. هناك رجل يحتضر في هذه السيارة.."
فتقدم الطويل ورفع رجله عن ابي شريف بعد ان غمز رفيقه ليأخذ مكانه وفتح الباب عنوة وامسك عبير من
يدها وشدها خارجا بقسوة حتى كاد يخلع كتفها.. ثم نظر في وجه السيد رأفت بمتعن وقال "ما دمت تحتضر
ايها السيد فلم لا تسمح لنا ان نعجل في موتك.." فأجابه رأفت بيقين "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون."
فثار غضب المسلح الطويل وقال "ايها القذر.. اتظن اننا في مسجد حتى تلقي علينا مواعظك؟؟ وشرفي لندك
كل مآذنكم حتى تصبح موئلا للبوم والغربان.. لا بل سنجعل منها اصطبلات لخيولنا و زرائبا لبهائمنا كما
فعل اجدادنا"
فاجاب السيد رأفت بنفس متحشرج ولكن بثقة " لن يضروكم إلا أذى... "
فامسك المسلح بقميص السيد رأفت ووضع يديه على رقبته قائلا "ساقتلك بيدي العاريتين هاتين واكفنك بجلد
خنزير حتى تحرم من الدخول الى جنتكم.. جنة العذارى والخمر والغلمان.."
فابتسم السيد رأفت ابتسامة صفراء وقال" ان الله لا ينظر الى اجسادنا بل الى اعمالنا."
واستشاط الطويل غضبا وفقد اعصابه فالتفت الى صديقه وقال "انه يستفزني.. انه يدعي الشجاعة.. " ثم التفت
الى عيبر وقال "اتعرف؟؟ لن اقتله.. لنرى كيف سيحافظ على رباطة جأشه ان اغتصبنا ابنته امام عينيه.."
وهنا اعترض القصير وقال "لا يا صديقي ليس الى هذا الحد.. حتى الحرب لها اخلاقيات.. نقتل ونذبح نعم..
لكن لا ننتهك اعراض الناس.. ثم انه نظر الى عبير بشفقة وقال "ثم هي تشبه العذراء مريم كما ترسمها
ايقوناتنا.."
فصرخ الطويل بقسوة وقال "دعك من مريم ويسوع.. لو كانوا موجودين حقا.. لخلصونا من هؤلاء الانجاس
منذ زمن.. لا يغرنك منظرها الوديع.. كلهن عاهرات من الداخل.."
حاولت عبير المقاومة والتملص من قبضة المسلح الا انه ضربها بكفه ضربة قوية فخارت قواها وانهارت
ارضا.. ثم نظر في عيني السيد رأفت وقال "ارني كيف ستحافظ على شرفك ايها النذل؟؟ من سيخلصها مني
الآن؟؟"
وهاله ان يرى ان هذا المريض المحتضر يرد على نظرته بنظرة حادة كالصقر ادخلت في قلبه الرعب وقال
"ربي وربك سيخلصها من يدك.. لن تمسها بسوء ايها الفاسق.."
ودهش الجميع لرؤية المسلح الطويل يسقط ارضا صريعا في ثانية ويلحقه القصير بعد ثانيتين حيث احدث
وقوعه على زجاج السيارة الامامي دويا هائلا..
وعلى الفور ركب ابو شريف في السيارة وانطلق فيها مسرعا قبل ان يأتي سائر المسلحين وشرع في
الصراخ كالطفل "انها معجزة.. رب العالمين انقذنا منهم.." فيما ضمت عبير رأس ابيها الى صدرها وقالت
"ليت لي يقينك يا ابت.. "
فاجابها ابوها بثقة "لقد انقذت يوما ما فتاة مسيحية على احد حواجزنا من مصير مماثل فما كان الله ليضيعني
.." ثم ان التعب انهكه واخذته سنة من النوم.
الفارس يترجل
ودخل مرض السيد رأفت مراحله الاخيرة؛ ومع ذلك فقد كان دائم الابتسام ويردد عباراته المأثورة "إذا أحب
الله عبدا ابتلاه بالمرض ليكفر عنه سيئاته ويطهره" على رغم الآلام المبرحة التي تنتابه فلم يكن السيد رأفت
يشكوها؛ لأحد بل كان مثابرا ومجاهدا وعاملا كالجبل لا يكل ولا يمل ولا ينحني لأي ريح مهما كانت عاتية
ومدمرة !!! ولكن هذا الجبل الشامخ الذي صمد امام الريح كان ينحني لنسمة رقيقة ويشعر بوجودها قربه ولو
كانت بعيدة عنه اميالا فلم يخف السيد رأفت عن عبير أي شيء تماما كما كانت تفعل معه.. وحدث مرة ان
فاجأته نوبات الألم امامها، فكانت أول مرة ترى فيها عبير هذا العملاق الجميل يتلوى ويبكي كطفل صغير...
ولاول مرة ترى دموعه تنهمر من عينيه، وهو لا يردد إلا قول" أستغفر الله العلي العظيم اللهم أغفر لنا بكل
ذرة الم معاصينا وذنوبنا وأعفو عنا العفو الكريم واصفح عنا الصفح الجميل.." عبارات تزداد تقطعا مع
ازدياد الألم ولكنها لا تتوقف ابدا. وكانت نوبات الألم متقطعة وعلى فترات متباعدة في بادىء الامر ولكن
بدأت وتيرتها تتسارع ... فبدأ المقربون من السيد رأفت يدركون ان هذه بداية النهاية !!!!!!!!!
لقد تعرض السيد رأفت لفقدان الكثير من وزنه وشحب لونه تحت تأثير المرض الذي يسري في جسده
سريان النار في الهشيم، ولم يعد يستطيع أن يقرأ جريدته المفضلة يوميا ولم يعد يستطيع أن يمسك بمصحفه
ليقرأ فيه كما تعود بعد صلاة الفجر والعشاء يوميا، فبدأت عبير في ملازمته والعمل على كل ما يختص به
سواء كان هذا مواعيد الأدوية او الاهتمام بنظافته الشخصية وتنظيف حجرته إذ لم يكن يطيق أن يدخل عليه
أحد أو يراه هكذا غيرها!! وكانت السيدة نادية مشغولة بتربية أبنائها فتركت لبنتها البكر شرف خدمة والدها
والعمل على راحته تحت إشرافها من آن لآخر لمجرد الاطمئنان أن الأمور تمشي على ما يرام !!! وكثيرا ما
كانت عبير تجلس لتمشط له شعره الناعم أو تحلق له ذقنه وهو مستسلم كطفل صغير وديع وهادئ لا يشكوا
أبدا حتى لو آلمته عرضا.. كانت تقرأ له الأحداث من هنا وهناك فيستمع ويبتسم، وبمجرد أن تهب واقفة
يقول لها لا تتركيني وحدي؛ بل ضعي يديك تحت رأسي وضميني إليك، إني أشعر بالبرد عندما ترحلين
فكانت تهرع إليه لتضمه لصدرها وتضع يدها تحت رأسه حيث ينام لساعات وهي تبكي وتدعو الله أن يخفف
عنه !!!
وازداد الألم، وكان لا بد من ذهابه إلى المستشفى لأن البيت لم يعد صالحا لرعايته، وكانت الأم تتناوب مع
أبنتها على رعايته فأسر لها أنه لم يعد يرتاح مع أحد غيرها، ولا يريد أن يبقى معه غيرها، لذا فكان يقول لها
عندما كانت إدارة المستشفى تهم بإخراج الزائرين أختبئي في الخزانة حتى لا يروك لتظلي معي؛ و يضحكان
سويا كأنهم اطفال.. ثم يقضيان الليل يسبحان ويسمعها القرآن الذي يحفظه حتى تصحح له لو اخطأ ؛
ويتذاكران سوية ايام الطفولة والمراهقة وكل شئ جميل مرا به، وبعد ذلك كان ينام بين يديها فتحتضنه وكأنها
تغذيه بأنفاسها حتى يستطيع أن يستمر في مكافحة المرض والتغلب عليه !!!
وفي صباح اليوم الاخير تحلى والدها بنشاط غريب.. لدرجة انه استطاع الجلوس وتناول فطوره بنفسه على
غير عادة وبشهية منقطعة النظير.. تفاءلت عبير خيرا وداخلها الامل لاول مرة ان تتحسن صحته ويعود
معافى كما كان؛ فالغريق يتمسك بقشة من الامل؛ ولم تدر عبير ان نشاطه هذا هو من حلاوة الروح؛ وكأنه
يريد ان يودع هذه الدنيا الفانية. ولم تطل فترة النشاط هذه؛ اذ بدأ ينتكس مجددا في فترة الظهيرة.. فناداها
لتقترب منه واسند رأسه على صدرها وبدأ لسانه يثقل عن الكلام فاومأ لها باصبعه اشارة ما فلم تفهم عليه..
فجاهد نفسه وقال "ارو لي قصة.." واستغربت الفتاة طلب ابيها هذا.. فهذه اول مرة يطلب منها هذا الامر..
لكنها لم تستطع ان ترفض طلبه..
"كان يا ما كان.. في قديم الزمان.. كان هناك اميرة حلوة اسمها عبير.. وكان الفرسان يتنافسون لطلب يدها..
لكن عبير كان قلبها معلقا برجل آخر.. فارس شامخ كالجبل ترى في عينيه صورة والدها الحنون.." ثم خنقتها
العبرات وعبء مرض والدها والم الحب القديم الذي لم تندمل جروحه بعد، فتوقفت وضمت رأس ابيها الى
صدرها بقوة ثم نظرت في وجهه فرأته يبتسم و يشهق شهقة يلفظ فيها انفاسه الاخيرة.. وظلت ظلال
الابتسامة مرتسمة على وجهه الابيض كالقمر ليلة البدر.. فضمته ضمة اخيرة الى صدرها وتمتمت "لا ايها
الفارس.. لا تتركني وحدي الان.." وقبلت جبينه الطاهر ثم اجهشت بالبكاء حتى غابت عن الوعي.
اشواق الافريقي
سار حسام بجدية في اجراءات الحصول على جنسية هذا البلد الاوروبي.. ومضت الايام والاشهر والسنون
حتى اصبح موعد الحصول على الجنسية في الافق القريب كما اكد له اصدقاؤه في دوائر العمل الحكومية،
وبالفعل ما هي الا ايام حتى رن هاتف حسام في بيته يخبره ان مسألة الحصول على الجنسية اصبحت مسألة
ايام ولا تحتاج الا الى اجراءات قانونية روتينية. فذهب حسام الى المسجد المجاور الذي تركه لمدة شهور
ليصلي صلاة الشكر. ولفت سمعه هناك صوت انسان يجود القرآن ولكن يتعتع فيه فاقترب منه فاذا هو شاب
في مقتبل العمر داكن البشرة اجعد الشعر وافطس الانف بحيث يوحي شكله انه من احد البلدان الافريقية..
تقدم حسام وسأله بالانجليزية: ما اسم الاخ؟
اغلق الشاب المصحف وقال وهو يبتسم ابتسامة واسعة افترت عن اسنان بيضاء: دنجوا كوتونو.
حسام: انت من مهاجري افريقيا اليس كذلك؟
دنجوا: لا انا ولدت هنا.. لكن اجدادي من افريقيا.. وانت من اين؟؟
وفاجىء هذا السؤال حسام مع انه متوقع وكانه نسي الى اين ينتمي ومن اين جاء فقال : "انا؟؟ انا من الشرق
الاوسط.." ليقينه ان هذا الشاب لن يعرف بلده بالتحديد
فدهش دنجوا وارتسمت ابتسامة مضيئة على وجهه: حقا؟؟ من اي بلد ؟ بلاد الشام التي باركها الله ام من بيت
المقدس؟؟ ام لربما من مهبط الوحي نفسه؟؟
فهز حسام رأسه بأسى وقال: اخي في الاسلام.. هذه الاسماء لم تعد موجودة.. لقد قسم الاستعمار بلادنا. ثم
تنبه الى امر.. فسأل:
"لكني كنت ازور المسجد دوريا منذ سنوات ولم اكن اراك فيه.. هل كنت في منطقة اخرى؟؟"
دنجوا: لا ان من سكان هذه المنطقة منذ زمن ولكني رجعت الى الاسلام حديثا...
حسام: رجعت؟؟ هل كنت مسلما وارتددت عن هذا الدين؟؟
دنجوا: بالطبع.. الا نولد كلنا على الفطرة؟؟ الا نولد كلنا مسلمين؟؟
حسام بتأثر شديد: صدقت.. ان ايمانك اقوى من ايماني يا صاح..
دنجوا: حاش لله، ما انا الا عبد فقير كان على شفا جرف هار من النار لولا ان تغمده الله برحمته. والحمدلله
ان هداني الى ان التقي برجل من ارض الاسلام الأولى ليعلمني ما جهلت من ديني..
حسام وقد دمعت عيناه: بارك الله فيك يا اخي.. لكن اسمح لي الا اناديك دنجوا من الآن فصاعدا.. انت
بلال.. تيمنا ببلال الحبشي صاحب رسول الله..
سر دنجوا كثيرا بهذا الاسم وشكر حسام حتى انه كاد يقبل يديه وانهمر الدمع غزيرا من عينيه حتى لمعت
وجنتاه السوداويين تحت انعكاس اضواء فوانيس المسجد...
ماذا يبكيك اخ بلال؟؟ سأل حسام مستغربا؟؟
قال دنجوا بصوت متهدج "مشتاق.."
حسام: مشتاق لمن؟؟ لاهلك؟؟
دنجوا: نعم.. مشتاق لاهلي وأخوتي..
حسام: بامكانك ان تزورهم .. الاسلام لم يجبرك على اعتزالهم بل اعتزال عقيدتهم فحسب..
دنجوا: ما هؤلاء قصدت.. هؤلاء ليسوا بأهلي.. اهلي واخوتي واحبائي هم المجاهدون في ارضكم الطاهرة..
هم الحجاج في بيت الله الحرام.. هم اخوتي المحاصرون تحت نيران الاحتلال.. ثم توقف عن البكاء لحظة
وقال وقد داخله بريق من الامل "ممكن تاخذني معك؟؟ انا اعرف انك لا تطيق صبرا ان تعود الى ارضك..
خذني معك.."
صمت حسام "صمت القبور" فتابع دنجوا بحماس "انا حداد ماهر.. استطيع ان اعمل في اي مكان على وجه
الارض.. ارجوك خذني معك.." ظل حسام على صمته ثم نطق الجوهرة اخيرا وقال: "انا لست بالرجل الذي
تظنه" وانسحب وسط دهشة دنجوا.
العودة الى الوطن
وجاء اليوم الموعود المنتظر منذ اربع سنين وذهب حسام ليقسم على يمين الولاء للبلد الاوروبي الذي يقيم فيه
كآخر خطوة في مسلسل حصوله على الجنسية. واصطحب معه زوجته كريستين التي كادت تطير من الفرح
لحصول زوجها على الجنسية وما سيجره هذا من تحسن مركزه الاجتماعي. وطلب القاضي من حسام ان
يضع يده على الدستور ويقسم بالولاء للدولة.. مد حسام يده ولكن لسانه انعقد وابى ان ينطق بالقسم. ودهش
القاضي لهذا الموقف الغريب الذي يواجهه لاول مرة وظن ان حسام مريض او يعاني من الاعياء.. وتناولت
كريستين كوب ماء من الساقي لعلها تساعد زوجها على التقاط انفاسه لكن بدون فائدة.. لقد غيرت كلمات
دنجوا حسام الى الابد اوبالاحرى بعثت الروح في حسام القديم.
غادر حسام مبنى القنصلية وزوجته كريستين تجري خلفه تحاول اقناعه بالعودة دون فائدة. وصل حسام الى
منزله وشرع في حزم حقائبه.. وقال لكريستين: سنعود...
كريستين بغضب : ستعود؟؟ الى اين؟؟
حسام: الى موطني..
كريستين: تعود الى ارض الحرب والويلات؟؟ اسمع يا حسام.. هذا موطنك.. الم نحسم هذا الموضوع من
قبل؟؟
حسام: كنت مخطئا والتراجع عن الخطأ فضيلة؟؟
كريستين: اذن انت مستعد لتتخلى عني..
حسام: انت التي تتخلين عني.. المراة في عرفنا تلحق زوجها الى أي مكان..
كريستين: لكن انت لا تأخذني الى أي مكان؟؟ انت تاخذني الى الجحيم..
حسام: جحيم الوطن ولا جنة الغربة.. اسمعي يا كريستين يا حبيبتي.. انا جئت الى هذه البلاد لاتعلم ومن ثم
اعود وافيد بلدي.. اقامتي كانت مؤقتة في الاصل.. لكن غرتني هذه الحضارة الزائفة.. هذا العمران
المتطور الخالي من الروح.. انا ادخل قصور الشانزليزيه هنا ولا ارى الا ابنية فارغة منمقة كالعجوز
الشمطاء المتبرجة.. اين هذه القصور من مسجد الرحمة المتواضع الذي نشأت فيه؟؟ كنت اصلي فيه واشعر
بحفيف اجنحة الملائكة تحيط بالمصلين..

يتبع  ,,,

👇👇👇
تعليقات