بارت من

رواية عرسنا في الجنة -6

رواية عرسنا في الجنة - غرام

رواية عرسنا في الجنة -6

النفق المظلم. لكن بداية فتور الحرب الباردة بين القطبين ادت الى تغيرات اقليمية دراماتيكية فرضت على
الافرقاء ان يخففوا قليلا من حربهم الشعواء خشية ان تمتد نيرانها الى المحيط الاقليمي كله. فأجبر التنظيم
القومي على اللقاء مع خصمه اللدود زعيم الجبهة الوطينة في خيمة اقيمت على عجل عند خط التماس برعاية
دولية. وكان اسامة في عداد الوفد المرافق للتنظيم كونه الحارس الشخصي لزعيمه ابو كفاح بالاضافة الى
سكرتيرة الحزب نيرفانا التي جاءت الى الاجتماع ببزة عسكرية انيقة.
وبعد خمس دقائق من حضور ابو كفاح ووفده حضر قائد الميليشيا الوطنية "شربل" الملقب بالقديس. وشعر
اسامة لدى رؤيته بالغثيان اذ لم يكن يتصور ان يرى نفسه امام زعيم قتلة ابناء مدينته وزعيم قاتلي امه دون
اية ردة فعل.. في مرات عديدة من اللقاء كان اسامة يضع يده على خصره متحسسا مسدسه ومتمنيا لو يستله
من غمده ويقضي على رأس الافعى ولكنه كان منطقيا رغم ثورته فهو يعرف ان البديل جاهز للوراثة وان
اغتيال الزعماء لن يجر على البلد الا حمامات دماء اخرى هو بغنى عنها. لقد كان السلام ثمنا مقبولا يستطيع
ان ينسى فيه اسامة امر الانتقام من القتلة. ولكن ما ادمى فؤاده فعلا فهو رؤيته لابي كفاح يحضن رئيس
الجبهة الوطنية المناهضة ويعامله كأنه صديق حميم ويقول: "والله زمان يا شربل .. متى كانت آخر مرة
اجتمعنا فيها؟؟"
شربل: "اذكر ان هذا كان عقب مجزرة قمنا بها ضد المخيمات.. لكن بصراحة لا اذكر اي واحدة منها
بالضبط.."
"ولم تذكر؟؟ العالم كله لا يذكر.. التاريخ لن يذكر.. لقد توقف التاريخ عند الهولوكست" قال ابو كفاح مبتسما.
اجال القديس نظره في الوفد المفاوض وتوقف عند نيرفانا فنظر اليها بشهوة وقال "لو كنت اعرف انك
ستصطحب زوجتك معك لكنت جئت بزوجتي وقضينا سهرة عائلية ممتعة"
فضحك ابو كفاح وصحح وسط دهشة نيرفانا: لا يا عزيزي هذه عشيقتي وليست زوجتي .. فانا تزوجت
القضية فقط وهي لا ترضى ان يكون لها ضرة.
فقهقه القديس من الضحك وقال "لا تغضب يا رفيق. لكنت اصطحبت معي احدى عشيقاتي اذن كي لا تظن
انك وحدك زير النساء هنا.."
فابتسم ابو كفاح وقال " لا احد يشكك في امكانياتك.. لكن نيرفانا هنا بصفتها سكرتيرة الحزب لا بصفتها
الشخصية.."
"سكرتيرة الحزب؟؟ هذه حظوة لا تنالها اي محظية.. انت محظوظة يا نيرفانا" قال شربل دون ان يرفع نظره
عن الفتاة. "ان استقلت من هذا المنصب فانا مستعد لاستقبالك عندنا"
"كفاك وقاحة وسماجة" قال ابو كفاح.. دعنا نبدأ الجلسة المغلقة وننتهي من هذه المهمة القذرة. ثم ا شار بيده
الى المصورين الصحفيين لينسحبوا الا ان احد الصحفيين المشهورين اقترب منهما وطلب الاذن بتصويرهما
فاذنا له وقال القديس "الخلاف بيني وبين ابو كفاح لم يكن شخصيا ابدا.. انه خلاف سياسي بامتياز" واردف
ابو كفاح مخاطبا الصحفي "اكتب تحت هذه الصورة هذا العنوان : لقاء الصليب والهلال، فأنا احب هذه
العناوين البراقة."
وبعد انصراف الصحفيين ابتسم شربل لنظيره وقال غامزا من قناته "اما زلت تؤمن بالهلال يا ابو كفاح؟؟ "
"بقدر ما تؤمن ببركات القديس شربل.." اجاب ابو كفاح بسرعة.
"سريع البديهة دائما كما عهدتك.. لا عجب ان يقتنع الحمر بك دونا عن سائر القادة القوميين.."
"شكرا يا شربل.. لكن دعنا من المجاملات الآن .. اريد ان ننهي هذه المهمة القذرة بسرعة.. ماذا تريدون؟؟"
شربل: "نريد ان يعود الوضع كما كان عليه قبل ان يدعمكم الحمر انتم والفدائيين.."
ابو كفاح: استيقظوا من احلامكم.. لقد تغيرت الظروف انتم الاقلية الآن.. لقد تغيرت الديموغرافيا.
شربل: ربما انتم الاكثرية ولكن نحن النوعية
ابو كفاح: الى متى ستظلون فاشيين هكذا؟؟
شربل: حتى تتخلوا عن رجعيتكم وجهلككم وغبائكم..
ابو كفاح: انتم خونة بالفعل.. تتعاملون مع عدو الامة العربية ومع سرطان الشرق الاوسط.
شربل: عندما يكون وجود الاقلية مهددا فهي تتعامل مع الشيطان ان اقتضى الامر.
ابو كفاح: انا لا افهم لم تعيشون في عقدة الخوف والاضطهاد؟؟ نحن لا نريد ان نقضي عليكم. نريدكم فقط ان
تعترفوا بعروبة هذا البلد..
شربل: الفناء اهون علينا، نحن لم ولن نعتبر انفسنا جزءا من هذه المنطقة المتخلفة ابدا.. نحن قطعة من
الغرب لا بل قطعة من الجنة.. انظر كيف يعاملكم الاشقاء.. كالعبيد. على الاقل نحن نتعامل مع العدو من
منطلق الند للند.
ابو كفاح: ومتى كانت تهمك الكرامة يا نيافة القديس؟؟ صحيح ان الاشقاء يعاملونا بدونية مطلقة ولكن هم
مستعدن ان يخسروا عشرة الاف جندي لحمايتنا وحماية مصالحهم.. اما حلفكم مع العدو الذي تتعاملون معه
فلا تتأملوا منه خيرا، سيلفظكم صدقني.. انه ليس مستعدا ان يدفع جنديا واحدا من اجلكم.. انتم تحلمون...
تسيرون عكس مجرى التاريخ.. استيقظوا
شربل: استيقظوا انتم، نحن نريد ان ننهض بكم.. لولانا لكانت البلد متخلفة كسائر البلاد المجاورة ثم اردف
مستهزئا "الشقيقة بعرفكم..."
ابو كفاح: متخلفة __________ربما لكن على الاقل مستقرة.. انظر اين قادتنا حروبكم؟؟ دمرتم البلد فوق رؤوسنا
ورؤوسكم..
شربل: "حروبنا" ؟؟ عذرا صحيح اني قديس لكن لم اكن لأتصور ان تتكرم الملائكة وتجلس معي على نفس
الطاولة.. على كل حال هل انت متضايق من "حروبنا"؟؟
قهقه ابو كفاح حتى بدت نواجذه "اتمزح؟؟.. بغيرها كيف كان لشخص فاشل مثلي ان يصبح قائدا؟؟"
فابتسم شربل وقال: لطالما اعجبتني صراحتك.. ثم تناول قطعة قريدس من الصحن الموجود امامه وقال ذق
هذه القطعة من هذه القريدس فهي لذيذة حقا..
تردد ابو كفاح قليلا فتابع شربل "ماذا؟؟؟ اتخاف ان اسممك؟؟"
فقال ابو كفاح ضاحكا: "السم لا بقتل الافاعي يا قديس.. لكن كنت اقول في نفسي من يصدق اننا نأكل هذه
المأكولات الفاخرة في حين يتضور شعبنا من الجوع.. الناس تتقاتل على رغيف الخبز .
فقال شربل وهو يكبت ضحكة مكتومة "فليأكلوا بسكويت.."
وفي هذه اللحظة تسلم اسامة برقية مستعجلة فمررها الى الزعيم الذي عقد حاجبيه ما ان قرأ السطور الاولى
منها ثم حدج شربل وقال " هذه خيانة.. نحن نتفاوض هنا وانت تأمر رجالك بالهجوم؟؟ "
شربل متصنعا البراءة "لا احد يستطيع ان يسيطر على قواته سيطرة كاملة.."
"مر قواتك ان ينهوا الهجوم على الفور" قال ابو كفاح بغضب شديد.
"لا تقلق ساعالج الوضع ما ان ننتهي من الاجتماع " قال القديس بمراوغة.
فثار غضب ابو كفاح وضرب الطاولة بقبضة يده قائلا "اوقفهم الآن.. والا حولت مناطقكم الى جحيم احمر"
شربل بهدوء ولكن بتهديد "انت تعرف انك لا تستطيع ذلك.. القوى العظمى لن تسمح لك.. انها تريد وقفا
فوريا لاطلاق لنار.."
ابو كفاح بغضب "انت تستغل فترة المفاوضات لتحسين مواقعكم فيها.. هذه رذالة.. انت تتجاوز الخطوط
الحمراء"
حمراء؟؟ متى كان هناك خطوط حمرا ء عندنا يا ابو كفاح؟؟ على الاقل انا اخون عدوي وليس مرافقي؟؟ ثم
نظر الى اسامة بسخرية وقال "هل سيكون مصيره مثلهم؟؟"
لقد كانت اغرب مفاوضات شهدها اسامة.. صحيح انه لم يفهم كثيرا منها ولكنه لم يشعر ولا للحظة انه امام
طرفين متقاتلين.. فعلى رغم التنافر الحاد بينهما شكلا بدوا له كتروس ساعة تتطاحن فيما بينها لكنها تسير في
نفس الاتجاه في النهاية وتحقق نفس المآرب.. بعد هذه الجلسة ايقن اسامة ان انتمائه للتظيم كان خطأ بل
خطيئة لا تغتفر.. وادرك اخيرا ما سبق وقاله له ابو صقر .. كلنا بيادق على هذه الرقعة..
حاميها حراميها
وشيئا فشيئا بدت الغشاوة تنقشع عن عيني اسامة وتبين له ان الصورة التي رسمها في خياله عن ابي كفاح
مختلفة تماما عن الصورة التي يراها عن قرب. ومع ذلك كله فقد ظل اسامة ابن التنظيم البار يطيع زعيمه
طاعة عمياء متجاوزا عن سيئاته ومركزا على محاسنه التي بدأت تتضاءل شيئا فشيئا حتى وصل الى اللحظة
التي لم يستطع ان يكذب فيها على نفسه اكثر من هذا... وفي وسط هذه المحنة والضياع لم يجد اسامة احدا
يشكو له همه الا "الريس" ابو صقر فزاره فجأة في موقعه الذي لايفارقه..
استقبله ابو صقر بالترحاب وقد بدت على عينيه علامات الدهشة وقال له "اهلا وسهلا بالابن الحبيب ..
طولت الغيبة.."
فاجابه اسامة بحنين "اشتقت لك يا ريس.. آه لو تعلم كم احن الى الايام المملة التي قضيناها سويا"
فقهقه ابو صقر ضاحكا وقال "هذه اول مرة ارى فيها انسانا يستمتع بالملل.."
فاجابه اسامة "نعم يا ريس.. فترات الملل تمر ببطء بحيث يشعر الانسان فيها بكل ثانية وكل دقيقة وتنطبع في
ذاكرته كل التفاصيل.."
فهز الريس راسه وقال "آه انا افهم عليك الآن.. انها النوستالجيا.. الحنين الى البؤس.."
ثم انتبه اسامة الى ان الريس قد غير موقعه واستلم نافذة جديدة فقال: اراك قد غيرت نافذتك اليوم..
فاجاب ابو صقر بابتسامة بلا لون: تغيرت الاوامر..
تقدم اسامة ونظر من خلال النافذة فرأى قتيلا من مدينتنا مرميا على الارض فاهتاج وصرخ "ابناء السفلة لقد
اغتالوا مواطنا بريئا.. كنت اعلم ان لا امان لهم.. لقد خرقوا وقف اطلاق النار.."
لم يتزحزح ابو صقر من مكانه وقال بلا مبالاة: نعم لقد خرق وقف اطلاق النار على ما يبدو..
اسامة مهتاجا: سأنال منهم هؤلاء السفلة.. وجهز بندقيته ليصيب اي هدف متحرك. الا انه عاد وتذكر امرا
فقال: لكن يا ابو صقر.. مستحيل تقنيا ان يصيبوا القتيل في هذه الزاوية فهي مغلقة تماما عن مرمى بنادقهم.
اجاب ابو صقر ببرودة: اصبت.. مستحيل.
اسامة: لقد اخترقونا اذن؟؟ ربما اقتحموا احد مراكزنا..
ابو صقر: لا لن يفلحوا في هذا وانا حي.. ثم ربت على بندقيته وقال لها "اليس كذلك يا زوزو؟"
اسامة: ابو صقر، مالك تتكلم بالالغاز؟؟ قل لي ماذا يجري..
ابو صقر متأففا: تلقينا الاوامر ان نستأنف القتال..
اسامة مدهوشا والدم يكاد يتجمد في عروقه: تقصد انك انت من ...
رفع ابو صقر يديه وكأنه يتبرأ من المسؤولية: لا بد لنا من ذريعة..
نظر اسامة الى الريس نظرة فيها مزيج من الدهشة وعدم التصديق والالم وقال: ذريعة؟؟؟ انا لا اصدق ما
تقول..
ابو صقر مقاطعا: لا تقلق، اصبته بحرفنة.. لم يتعذب.. في منتصف الجبهة.. ثم ربت على بندقيته وقال "سقط
بنيران صديقة، اليس كذلك يا زوزو؟؟"
فهجم اسامة على ابو صقر وامسكه من ثيابه قائلا "مجرم.. قاتل.. "
لم يدافع ابو صقر عن نفسه بل ابتسم وخلص ثيابه من ايدي اسامة بهدوء قائلا "انتبه.. لقد كويتها اليوم.. وانا
لا افعل ذلك الا مرة في السنة.." ترك اسامة ثياب ابو صقر وانهار على الارض متكوما على نفسه وبدأ ينشج
بالبكاء كالطفل الصغير فهزه ابو صقر بعنف وقال" اسامة يا ولدي، انها حرب.. اتعرف ما معنى الحرب؟؟
لا محرمات في الحرب.. تذكر يا اسامة نحن بيادق شطرنج يا اسامة.. مجرد بيادق.."
لم يستمع اسامة لكلام ابو صقر فقد سرح في عالم آخر وبدأت الامور فجاة تتضح له وبدأ مسلسل الاحداث
يبدو منطقيا اكثر.. لقد تبين ان حماة المدينة هم اول من يستبيح ارواح سكانها واموالهم ان استدعت مصلحتهم
ذلك.. وتذكر اسامة والدته التي اقسم على الانتقام لها وردد في عقله جملة الريس الشهيرة "سانفذ الاوامر حتى
لو طلب مني ان اقتل والدي...." واطرق هنيهة ثم اضاف " الروحي."
وفي اليوم التالي تبلغ اعضاء التنظيم نبأ مقتل ابو صقر.. وتمهل الاصدقاء في ابلاغ ابنه الروحي اسامة.
فجاء المسوؤل المباشر عنه "ابو العلاء" الى اسامة بخطى وئيدة وقال منكسا رأسه: ارجو ان تحافظ على
رباطة جأشك يا اسامة فالخبر الذي ساقوله لك لن يكون سهلا عليك..
اسامة متظاهرا بالجزع: خير.. ماذا حصل؟؟
ابو العلاء وقد احنى رأسه: الريس.. ابو صقر..
اسامة متظاهرا بالجزع: ما به ابو صقر؟؟ لقد كنت مرابطا معه منذ ايام؟؟
ابو العلاء: احتسبه عند الله..
اسامة بانفعال شديد: قتله الجبناء الخونة؟؟
ابو العلاء: في الحقيقة لقد اصيب بطلقة من بندقيته..
اسامة: انتحر؟؟
ابو العلاء: اعتقد انك اخبر الناس به انه ليس من النوع الذي ينتحر.. يبدو انه كان ينظف بندقيته فانطلق منها
عيار ناري بالخطا.
فذرف اسامة دمعة مصطنعة وقال: خانته زوزو..
وفي الايام التالية اختفى اسامة من الساحة وتزامن هذا الاختفاء مع سقوط كيير عدد كبير من قناصة التنظيم
صرعى برصاص قناص مجهول.. ولم يكن عسيرا على التنظيم معرفة هوية القاتل فلم يكن احد غيره قادر
على القنص بهذه الدقة، واصبح اسامة المطلوب رقم واحد من طرف التنظيم.
الورم الخبيث
وذاع صيت هذا القناص الماهر بين المستضعفين واصبح عندهم بطلا مثل روبن هود سيما وانه خلصهم من
عدد كبير من رجال المافيات الذين كانوا يعيثون في الارض فسادا ويعتدون على حقوق الناس. وانضم اليه
على الاثر شبان من شلته القديمة عانوا مثله من ممارسات التنظيم ومافياته وازدادوا قناعة واخلاصا له حينما
اخبرهم عما يفعله التنظيم بحق شعب المدينة من اجل تأجيج الحرب مع الخصوم. ومع كل نجاح تحققه هذه
المقاومة السرية كان عدد المنضوين تحت لوائها يزداد وصيتها ينتشر بين الناس. لم يكن لهذ المنظمة اسم فقد
تكونت كردة فعل على الظلم والعدوان ولكن سرعان ما لقبها الناس بمنظمة "خفافيش الليل" لأنها كانت لا
تضرب الا في ليلا وفي آخر مكان ووقت يتوقعه رجال التنظيم.
وفي هذه الاثناء بدأ الالم الخفيف الذي شعر به السيد رأفت يشتد عليه حتى لاحظت السيدة نادية هذا الامر و
قلقت كثيرا لكن السيد رأفت اصر أن هذه الآلام لا تعدو عن كونها نتيجة الارهاق الذي يعانيه من عمله
المضني في التعليم، الى ان جاء اليوم الذي وقع فيه السيد رأفت ارضا غائبا عن الوعي وهو يقوم من فراشه
فاخذوه على عجل الى المستشفى حيث اظهرت الفحوض المخبرية اصابته بورم خبيث في الرئة. وكان وقع
هذا المرض قويا كالصاعقة على عبير فلم تصدق لاول وهلة ان والدها قد سقط ضحية لهذا المرض الخبيث
لذا سارعت لاخذ موعد منفرد مع الطبيب المعالج لتعرف منه خطورة الوضع:
هل الوضع خطير يا دكتور؟؟
قال الطبيب باسف: لا استطيع ان اخفي عنك نعم هو كذلك.. لكن رجاء لا تخبريه بهذا لأن الوضع النفسي
سيفاقم من خطورة وضعه الصحي.
وما هي وسائل العلاج التي ستقومون بها؟
جلسات علاج كيماوي.. جلسات اشعة .. وكثير من المورفين..
لكن هذه كلها حلول تبطىء انتشار المرض.. الا يوجد حل جذري للموضوع؟ عملية جراحية نستأصل فيها
الورم مثلا..
للاسف المرض اصبح في مراحل متقدمة لا ينفع معه استئصال الورم وانا متعجب حقيقة كيف استطاع والدك
ان يتحمل كل هذه الآلام طوال هذه الفترة دون مورفين؟؟
لا اصدق انه لا يمكننا ان نقوم بشيء ما؟؟ هل هناك علاج ممكن في الغرب كي نسافر به؟؟ انا عندي عم
يقيم هناك.. "
الطبيب: اخت عبير.. في هذا الموضوع الطب لا يملك حلا في أي بلد في العالم.. لكن وكلي امرك الى الله
ودعي ايمانك قويا.
اجهشت عبير بالبكاء وقالت: يعني القضية قضية وقت؟؟ كم بقي له.. اخبرني ارجوك.. لا لا بد ان يكون
هناك حل.. لا اتخيل ان افقده امامي دون ان استطيع ان اقوم بأي شيء من اجله..
الطبيب: الاعمار بيد الله يا ابنتي.. مهمتك في هذه المرحلة الا تظهري له انت ووالدتك أي قلق او ضيق..
اجعليه يعيش ما تبقى له من عمره وهو ينعم بعنايتكم وحنانكم.
كانت عبير عاطفية جدا لكن قوية فقد استطاعت ان تخفي قلقها الكبير لمرض حصنها المنيع عنه لا بل حولته
الى حنان منقطع النظير من ابنة تجاه والدها حتى كانت تشعر انه طفلها الصغير في كثير من الاحيان.
وطبيعي ان تمر الاسرة بحالة ضيق مادي كبير نتيجة غلاء ادوية السرطان وندرتها في بلد يعاني من الحرب
ولكن الله يسر لهذه الاسرة الكريمة محسنا سريا كان يزودهم بالمبلغ المطلوب كلما احتاجوا له وكأنه يتتبع
اخبارهم اولا بأول. لم تعرف عبير هوية هذا المحسن الكريم ولكنها جزمت انه احد اصدقاء الوالد الكثر الذين
ساعدهم في فترة شبابهم... فالدنيا دين ووفاء.
من اجل ضفائرها
كلف الزعيم ابو كفاح اشرس رجاله ابو الجماجم قائد سرية "جهنم" بأن تأتي باسامة حيا او ميتا. ولم يكن ابو
الجماجم يحتاج لتوصية فبعد يومين من الملاحقات والمطاردات عاد ابو الجماجم مبتسما ابتسامة النصر.
"هل قضيتم عليه؟" سأل ابو كفاح بلهفة
ابو الجماجم : لا ولكننا قبضنا على اخته وهتكنا عرضها .. هكذا سيكون انتقامنا منه افظع واشرس..
فثار ابو كفاح وامسك بقميص ابو الجماجم وشده: ماذا فعلت يا مجنون؟؟ وما ذنب اخته حتى تنال منها؟؟
ابو الجماجم وقد تراجع مذعورا: انت علمتنا هذه الطريقة.. انت قلت لنا لا خطوط حمراء في الحرب.
فارخى ابو كفاح قبضته عن قميص مساعده المخلص وجلس متهالكا على كرسيه واحنى رأسه للامام باسى
وقال "لكن ليس معه.. ليس معه.."
فاستغرب ابو الجماجم : ابو كفاح.. انت رجل مناضل.. حياتك على كف عفريت. لطالما خضت المعارك
وعرضت حياتك للخطر.. كيف يخيفك هذا الصعلوك ومن معه؟؟
فنظر ابو كفاح الى البعيد وقال بتهكم مر: اتظنه ليكتفي بموتي؟؟ اذا ظفر بي فسيذيقني اشد انواع العذاب.. لقد
كان مرافقي لاعوام.. انه يعرف كل شيء عني.. مسالكي الخفية.. طريقة تفكيري.. نقاط ضعفي..
فاشتدت حمية ابو الجماجم وقال بكبرياء: لا تخف لن ينال منك ونحن معك.. لن نفارقك ولو للحظة..
فاعادت هذه الكلمات الامل والطمأنينة الى نفس ابي كفاح فقال: ابو الجماجم.. انا لا اخاف من الموت ولكن
مما ينتظرني بعده.. ماذا لو كان الشيخ مسعود الذي نستهزأ به على حق؟؟ هل هناك حقا جهنم و عقارب و
افاعي وملائكة عذاب و حميم مستعر؟؟
"انا اصدق بوجود جهنم لكن على هذه الارض.. انها فرقتي" قال ابو الجماجم وهو يضحك باستكبار..
الزعيم: انا كذلك لا اصدق هذه الترهات.. ان هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا.. ولكن..
ابو الجماجم: ولكن ماذا سيدي الزعيم؟؟
الزعيم: ولكن ماذا لو كانوا على حق؟؟ مهما كان الاحتمال هذا ضعيفا؟؟ الا ترى الناس تمتنع عن اكل لحم
البقر ان سمعت ان هناك احتمالا ولو واحد بالمليون عن اصابتها بمرض قاتل منه؟؟ ماذا سيكون مصيرنا؟؟
ثم ضحك ضحكة هستيرية وقال "لا لا مستحيل.."
فاكد ابو الجماجم راي زعيمه وهز براسه قائلا "مستحيل.. مستحيل.." ثم ضحك ضحكة غبية وقال "لو ان الله
موجود.. لم يكن ليتركني اقوم بكل ما اقوم به من فظاعات.. انا ممكن اؤمن بوجود الشيطان.. لكن الله.
مستحيل.." وعاد ليضحك ضحكته الغبية ثانية.
كان حوارا غريبا بينهما.. حوار الصوت مع صداه ... كل طرف منهما يحاول ان يقنع الآخر بما هو مقتنع
به اصلا او بالاحرى بما يتلائم مع هواه فالاقتناع لا يكون الا لمن يملك عقلا.. لمن يملك قلبا..
"ليتني استمعت لنيرفانا حينما حذرتني منه.. كنت غبيا.." قال ابو كفاح هذا ببؤس شديد وضرب على فخذه
بقوة حتى كاد ينخلع ثم قال "اتعرف ما يضايقني يا ابا الجماجم؟؟ انا لا اخاف من هذه الاساطير الدينية.. لكني
منذ الآن استطيع ان ارى جنازتي.. وارى الناس التي تمشي فيها.. ارى فيها من يخافني.. ارى فيها من كان
يحترمني.. لكن..."
ابو الجماجم: لكن ماذا يا سيدي.؟؟
الزعيم: لكن لا ارى بين هذه الوجوه كلها وجها يحبني.. لا احد .. قال هذا وضغط على حرف الدال مقلقلا
فيه شفتيه كأقسى تعبير منه على غربته وسط هذه الشهرة الكبيرة التي يحظى بها.
ابو الجماجم: لا يا سيدي انت مخطىء.. كيف تجزم بهذا الامر؟؟
فاجاب ابو كفاح بابتسامة ساخرة "ببساطة.. لاني لم احب احدا يوما ما... الا نفسي.."
"لكن نحن نحبك يا زعيم" قال ابو الجماجم بتأثر واضح "وطالما نحن معك فلن يمسسك احد بسوء" ثم شد على
قبضة ابي كفاح بقوة مترجما شعوره بالثقة والامان لزعيمه.. ولكن فجأة ارتخت يده وسقط صريعا.. لقد
اصابته طلقة من بندقية قنص ليلية اخترقت طلقتها زجاج النافذة.
كوابيس الدم
كانت الايام الاولى جحيما لا يطاق ولا يمكن تخيله على ليلى و من حولها.. حاولت الانتحار عدة مرات ولم
يردعها لا موعظة دينية ولا معالجة نفسية رغم ايمانها العميق.. وفي اوقات معينة اضطررنا الى توثيقها الى
السرير حتى لا تؤذي نفسها.. وكان هذا امرا صعبا علينا لما يتطلب من قوة بدنية كبيرة على النساء ولم يكن
اسامة يجسر على مساعدتنا لانها كانت تجن بمجرد رؤية أي رجل او سماع اسم أي رجل حتى لو كان
اخوها. كنت انظر اليها بحسرة وبعدم التصديق اذ لم تعد ليلى هذه الفتاة الجميلة الشقراء التي يشع وجهها
ذكاء وحيوية بل اصبحت بقايا انسان .. اشلاء انسان.. عينان __________معلقتان في اللاشيء.. ووجه خال من أي
تعابير حتى تعابير الخوف والحزن.
لكن ككل مصيبة تبدأ قوية وتخف مع الوقت بدأت ليلى تتقبل ما حصل لها تدريجيا فتخلت نهائيا عن فكرة
الانتحار لتدخل في مرحلة جديدة وهي مرحلة العزلة.. تقضي الساعات والايام وحدها دون ان تسمح لاحد
بالدخول عليها.. تعيش على الحساء والخبز حتى بدت عظامها تنفر من تحت وجنتيها.. رفضت ان يدخل
عليها أي شخص حتى موطن اسرارها وتوأم روحها حنين.. كان صديقها الوحيد في هذه المرحلة القرآن..
كانت تعيد قراءة سورة مريم مرات ومرات وتبكي عند قوله تعالى "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا.." فتحتضن المصحف وترتجف كريشة في مهب الريح.
وظللت في هذه المرحلة فترة طويلة وانا اتنصت عليها من وراء الباب.. اتمنى الدخول عليها لكن ارتدع
عندما اتخيل ردة فعلها.. وصبرت على ذلك حتى رأيتها تنتقل فجأة الى مرحلة جديدة اصبحت تركز فيها
على مقطع "فناداها من تحتها الا تحزني.." وكأن هاتفا سماويا اتاها ليسلي عنها وبدأت عقدة العزلة تنفك عنها
شيئا فشيئا واصبحت تستأنس بوجود احبائها قربها وخاصة انا بل كانت تطلب مني ان انام قربا واحضنها
كالطفل الصغير الذي فقد حضن امه. لكن الجرح الذي يطيب لا يندمل بسهولة فما كان بالامكان ابدا ان تنسى
ليلى ما حصل لها.. فقد حفرت هذه الحادثة في نفس ليلى وشما بالمهانة لا يمكن ان يمحوه الزمن.
وطوال هذه الفترة السابقة كانت ليلى صامتة لا تتكلم حتى خشينا ان تكون قد فقدت القدرة على الكلام لولا اننا
كنا نسمعها ترتل القرآن ليلا. وحتى عندما كانت تطلب مني ان امكث معها او اضمها كانت تشير الي بالرمز
وكأنها كانت تتمنى كالسيدة مريم ان ينطق رضيع ما ويبرأها من تهمة لم يتهمها فيها احد اصلا الا نفسها..
كانت تشعر انها مذنبة.. مقرفة.. دنسة.. لدرجة انه في يوم من الايام دخلت لتغتسل و تتطهر كما تتطهر
النساء فسمعنا لها شهيقا في الحمام ودخلنا عليها فاذا بها متكومة في المغطس تبكي بهيستيريا وتصرخ بذعر
وتقول " انظري يا حنين.. المغطس مليء بالدم.. انا استحم بالدم يا حنين". طبعا لم يكن هناك لا دم ولا من
يحزنون ولكن المسكينة اصبحت تشمئز من جسدها وتحتقر نفسها وبدلا من ان تعتز بانوثتها و مفاتنها كسائر
الفتيات اصبحت لا تطيق النظر الى كل ما يشير الى انوثتها في جسدها.... ومن يومها لم نعد نتركها تستحم
وحدها بل اصبحنا نساعدها في ذلك ان تطلب الامر فتسلم لنا جسدها كما تسلم الشاة نفسها الى الجزار بدون
مساءلة او اعتراض.
وشيئا __________فشيئا بدات ليلى تتكلم اكثر وتتحاور اكثر وبدأت تتقبل كلام النسوة الديني لها بأن ما حصل كان امتحانا
من الله تعالى لها ولصبرها.. وكات تظهر امامهن الجلد والتصبر.. ولكن بيني وبينها كانت تقول كل ما يجول
في نفسها "لماذا انا يا حنين؟؟ خسرت امي برصاصة طائشة.. والآن خسرت اعز ما تملك الفتاة.. خسرت كل
شيء" ثم تتوجه الى السماء مهبط الرحمات بيديها وتقول ماذا فعلت يا رب حتى تعاقبني هكذا؟؟ فاوصيها الا
تعترض فتجيب " انا لا اعترض يا حنين.. انا اسأل فقط .. كما سألت الملائكة عن حكمة خلق الانسان.. اين
الحكمة مما جرى لي وكل ما يجري لي يا حنين؟؟ اين الحكمة؟؟ انا لا اعترض بل فقط اسال.. ان الله لا
يرضى ان يذل المسلم .. اليس كذلك؟؟ فلم سمح لهذا بان يجري لي؟؟ اتراني لست مسلمة؟؟ اتراني اغضبته
بشيء؟؟
لم اعرف كيف اجيبها اذ لم اكن متعمقة بالدين كثيرا ولكم تمنيت لو كان اسامة معنا ليخفف عنها.. لكني
تذكرت ما يقوله لي دائما فقلت لها "ان الانسان مبتلى.. واشد الناس ابتلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل.. والله
يحبك ويريد ان يرفع من درجاتك الى درجة الصديقين.. فامتحنك باعز ما تملكين ليرى ان كنت ستصبرين
صبرا جميل.. "

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات