بارت من

رواية عرسنا في الجنة -4

رواية عرسنا في الجنة - غرام

رواية عرسنا في الجنة -4

ازيز الرصاص والقذائف. ويروى عنه – وهذه رواية لم اتاكد منها- انه اصيب مرة في كتفه بشظية قذيفة
هاون سقطت قرب موقعه على الجبهة ولكنه لم يقطع صلاته ولم يشعر بالالم الا بعد انتهاء الصلاة. وشكل
تدين اسامة القوي الذي لم يفارقه لحظة واحدة دافعا قويا للحنين الذي يراوده الى جامع الرحمة المجاور
لمنزله القديم الذي ترعرع فيه متتلمذا على يد الشيخ مسعود. ولما بلغ الحنين اوجه طلب اسامة مأذونية من
قائده المباشر في الجبهة "ابو العلاء" وذهب الى موقع منزله القديم ليستعيد الذكريات التي تعبق في ارجاء
مرتع الطفولة والمراهقة. دخل اسامة الى المنزل المهجور ليراه كما تركه في تلك الليلة المشؤومة سوى ان
الجرذان انشأت فيه مقرا دائما لها تسرح فيه وتمرح ثم خرج الى الشرفة التي سقطت فيها والدته فركع على
الارض وبكى بكاء مرا ليقف بعد ذلك بشموخ وينظر الى بساتين الليمون الممتدة على مد النظر نظرة تحدي
مجددا العهد بالانتقام لها. وبعدها دلف اسامة الى مسجد الرحمة العتيق وتأمل قبته الخضراء التي حولها
مسلحو التنظيم الى مكعب مدعم باكياس الرمل واتخذوها متراسا يترصدون العدو فيه في ايام الاشتباكات
ورفع نظره متتبعا اثر مأذنته الحجرية فرآها قد احدودبت بفعل عوامل الزمن و الحرب وعاودته ذكريات ايام
الصبا حينما كان صوت الشيخ مسعود يلعلع في ارجاء المسجد، يبكي المصلين حينا ويضحكهم حينا آخر
ونظر الى باحة المسجد الذي كان يفيض بالناس كما يفيض الجدول بمياه النهر فلم ير الا عددا قليلا من
المصلين لا تتجاوز اعدادهم اصابع اليد وميز من بينهم الحاج "ابو النور" الذي افترش كعادته ارض المسجد
ونام عليها. عادت ذكريات اسامة الى خطب الشيخ مسعود وتذكر كيف كان الشيخ يلاحظ سهوات ابي النور
في خطبه فيرفع من نبرته ليستسيقط هذا الاخير مذعورا فيسبح ويستغفر قبل ان تداهمه نوبة نعاس اخرى بعد
خمس دقائق. كانت اياما جميلة...
تقدم اسامة برفق من "ابي النور" وسأله عن الشيخ مسعود وفيض المصلين الذين كانت تغص بهم اروقة
المسجد. فتنحنح الحاج ابو النور وسعل سعالا جافا كاد يبصق فيه ما في جوفه لولا انه تذكر انه في بيت الله
ولا يجوز ان يقوم بهذا العمل فاخرج من جيبته المهترئة منديلا قديما اكل عليه الدهر وشرب فبصق فيه وقال"
الشيخ مسعود يا ابني توفي منذ سنتين وبعد رحيله انفضت جموع المصلين تباعا خاصة بعد ان بدأ هذا
المسجد يتعرض للقنص وقذائف العدو .. ثم اشار باصبعه النحيل الى زجاج مهشم وبضعة ثغرات في الجدار
الاسمنتي وتابع قائلا "في الاسبوع الفائت اخترقت رصاصة هذا الزجاج واصابت احد المصلين في رأسه
وتابع بلا كثير اهتمام فقال "من حسن حظه ان المقبرة ملاصقة للمسجد.. لقد صلينا عليه هاهنا ودفناه في
المقبرة.. فالشهيد لا يغسل يا بني.." لم يكن الحاج ابو النور يوفر فرصة يبرهن يها عن علمه وتقواه
للآخرين، وكان الكبار في السن من امثال الحاج ابو النور لا يعيرون كبير اهتمام للموت فهم قد شهدوا امامهم
رحيل كل اصدقائهم وذويهم وباتوا يترقبونه في كل ساعة.. فلم يعد هذا الموضوع يخيفهم.. وزادت الحرب
العبثية من لا مبالاتهم هذه لوفرة مناظر الجثث المرمية على جانبي الطريق يوميا.. لا بل ان الحاج ابو النور
بالذات يقضي امتع لحظات ايامه الاخيرة في المقبرة يسامر اصدقائه القدامى ويلقي عليهم السلام واحدا تلو
الآخر ...
المهم ، فهم اسامة من فحوى كلام ابو النور ان معظم الائمة استنكفوا ان يأخذوا مكان الشيخ مسعود في امامة
مسجد "الرحمة" نظرا لخطورة موقعه على خطوط التماس. ولكن فهم اسامة أن الله قيض لهذا المسجد اماما
درس في كلية الشريعة وتخرج منها حديثا فتاقت نفس اسامة ليتعرف عليه وسأل عنه ابا النور فاشار الى
شاب في مقتبل العمر بلحية متوسطة الطول ووجه بيضاوي اسمر يجلس في المحراب ممسكا بمصحف
صغير يتلو فيه.
تقدم اسامة من الشيخ ثم جلس القرفصاء امامه بهدوء وقال " السلام عليكم يا شيخنا.."
فرفع الشيخ نظره عن المصحف وقال "وعليكم السلام يا اسامة.."
فاستغرب اسامة وسأل الشيخ "اتعرفني؟؟" ثم حدق جيدا فرأى فيه قاسم الصديق القديم.. فهتف بحبور "قاسم؟؟
اهو انت ؟؟ لم اعرفك فهذه اللحية غيرتك كثيرا.."ثم صمت للحظات وتابع "لكن بصراحة هي تناسبك وتمنحك
هيبة ووقارا"
ضحك قاسم وافتر فمه عن اسنان مرصوصة صقلها سواكه الدائم بعود الاراك وقال "لم انقطعت عنا يا
رجل؟؟ اهكذا تنسى اهل محلتك؟؟"
فاجاب اسامة "كان بودي ان اطل عليكم منذ مدة.. ولكن لم يدم اطول وقف لاطلاق النار اكثر من ثلاث
ساعات.. صدقني اني بالكاد ارى اهلي واخوتي"
فاثار الموضوع اهتمام قاسم وقال بصوت مرتبك "وكيف حال اختك ليلى؟؟ هل تجاوزت محنة فقدان
المرحومة.."
فهز اسامة راسه وقال "اظن ذلك.. انا لم اعد اراها كثيرا كما قلت لك فقد وضعتها في عهدة خالي واكتفي
بالانفاق عليها" ثم صمت اسامة هنيهة وكأنه يحاسب نفسه وعاد ليقول "سامحني يا قاسم لقد قسونا عليك من
اجل امر سخيف.. كنا اطفالا يومها.."
فابتسم قاسم وقال "لا بأس.. لا تندم.. فقد كانت نصيحتك لي في محلها.. فقد عدت يومها بفضلك الى دروس
الدين كما نصحتني كي افهم الكلمات الصعبة التي كنت تقولها وتركت المستر سميث خاصة بعد ان بانت لي
اهدافه الحقيقية من وراء الدعم الذي قدمه لي"
فابتسم اسامة وقال وهو ينظر الى البعيد وكأنه يرى الماضي امامه "كنت اظن نفسي خازن النار يومها.."
فتنهد قاسم وقال " يومها فقط؟؟ اسمعني يا اسامة لا تظن اني منعزل في مسجدي هذا عن الناس وعما يحدث
من حولي... انا اسمع بك يوميا وببطولاتك في ساحات القتال.. لكن صدقني الطريق الذي تمشي فيه خطأ..
خطأ كبير.."
فغضب اسامة وقال "خطأ ؟؟؟ وهل تريدني ان اجلس مثلك في المسجد واتفرغ للعبادة والدعاء عسى الله ان
ينصرنا ونحن مكتوفي الايدي.. اسمع يا قاسم ليس الزمن زمن دراسة وفقه و عبادات بل الزمن زمن قتال
وجهاد وتضحية واستشهاد.. ضع كتبك جانبا واحمل بندقية وكفنا واتبعني"
فصمت قاسم هنيهة ثم اجاب بهدوء "الكفن حملته منذ زمن يا اسامة.. منذ ارتضيت ان اكون اماما لمسجد
على خطوط التماس.. لكني لن استبدل كتاب الله بالبندقية.. اتظنني اتنسك هنا يا اسامة ؟؟ اتظنني اقرأ القرآن
فقط لانال ثواب الذكر؟؟ لا يا أسامة في هذا الكتاب" واشار الى المصحف "يكمن حل كل مشاكلنا.. في هذا
الكتاب يخاطبنا ربنا فردا فردا ويحدد واجباتنا.. فكيف لي ان اقاتل قبل ان افهم ماذا يريده ربي مني؟؟ للامور
اولويات يا اسامة.. والظلمات كثيرة والنور واحد.. نحن نعيش في فتن كقطع الليل المظلم يصبح فيها الحليم
حيران.. فنحتاج الى نور يضيء ظلمتنا ولا ارى النور الا بهذا " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم
وأنزلنا إليكم نورا مبينا".
ولكن اسامة كان قد اصم اذنيه منذ زمن على سماع هذا الكلام فقال "بماذا تريد ان تقنعني؟ ان علينا ان
نتفرغ لفهم القرآن وتدبره في الوقت الذي يهاجمنا فيه اعداؤنا ويستبيحون مدينتنا؟؟"
اجاب قاسم بهدوء" لو انهم استباحوا مدينتنا فسأكون او من يحمل السلاح بوجههم.. ولكن ان كنت تطلب مني
ان اقتنص اطفالهم لأنهم يقتنصون اطفالنا او ان نقصفهم عشوائيا لانهم يقصفوننا كذلك فاسمح لي ان اخالفك
الراي.. فليس هكذا يكون الدفاع عن مدينتنا.. نحن ننحدر لمستواهم ونمارس فظائعهم.. إن كان عدوي
خنزيرا يستمتع بأن يتضمخ بالطين والقذارة فلن انزل الى مستواه والوث روحي بالطين مثله.."
اسامة: "لكن العين بالعين والسن بالسن.."
قاسم: نعم من قلع عينك اقلع عينه.. لكن من قتل ابنك تقتل ابنه؟؟ من جرح جارك تجرح جاره؟؟ وماذا فعلت
ب "لا تزر وازرة وزر اخرى" ؟؟ ام انك تقرأ ما يناسبك من القرآن كعادتك كي تثبت وجهة نظرك..
فغضب اسامة وقال "انت لن تفهم ابدا.. هذه حرب وليس هناك من حرب نظيفة.. يجب ان نقطع اشجارهم
حتى نردعهم ان يقطعوا اشجارنا.. نقتل اطفالهم حتى نردعهم عن قتل اطفالنا.. "
قاسم ياستهجان: "حقا؟؟ نعتدي على نسائهم انتقاما من اعتدائهم على نسائنا؟؟ نمثل بجثثهم ونرسم عليها الهلال
حتى يرعووا عن التمثيل بجثثنا؟؟ اسمع يا اسامة ان الاسلام لم ينتصر وينتشر بين الناس الا عندما تعاملنا مع
عدونا باخلاقنا نحن لا باخلاقهم.. تذكر صلاح الدين وكيف عفا عن اهل القدس من اهل الكتاب مع ان
الصليبيين جعلوا دماءنا انهارا حين احتلوها.
فقال اسامة "صلاح الدين؟ اين هو صلاح الدين؟؟ لقد انقضى عصر الصحابة والتابعين والسلف الصالح
والفتوحات والابطال.. نحن نقاتل اليوم دفاعا عن وجودنا وعن حقنا في الحياة.. وعدونا شرس لا يردعه
رادع... ان لم تكن ذئبا اكلتك الذئاب.."
فرفع قاسم المصحف عاليا وقال " بهذا يا اسامة يعود جيل صلاح الدين.. بهذا الكتاب الصغير الحجم الرفيع
القدر.. بهذا الكتاب الذي هجرتموه انتم ومسلحيكم وتنظيمكم...."
"غير صحيح" قال اسامة واشار الى مصحف فضي يتخذه قلادة وقال "نحن كلنا نقاتل باسم القرآن وصيحة
الحرب عندنا الله اكبر.."
فهز قاسم رأسه باسى وقال "لم ينزل المصحف ليزين القلائد والبيوت و السيارات ولا ليتخذ دواء لألم البطن
والضرس بل نزل ليضع منهاجا لحياتنا.. اسامة.. ممكن تسمح لي وتقول تحت اي راية يقاتل حزبكم؟ من اين
يستقي مبادئه؟؟ ما هي اهدافه؟"
فاجاب اسامة بثقة وكأنه فطن الى نية قاسم باحراجه: القومية العربية لا تتعارض مع الاسلام.. الاسلام مجد
اللغة العربية وجعلها لغة كتابه الكريم.. ولغة اهل الجنة.
قاسم: نعم حبب الاسلام الينا حب العربية والوطن و لكن لم يقل لنا ان نقدمهما على احكام الدين وان نحتكم
الى قوانين الاشتراكية وتشريعاها.. انس امر القومية.. كيف ترفعون اعلام دول تنادي بالالحاد؟؟
اسامة وقد بدأ يشعر بالخزي: انهم اصدقاؤنا.. يساعدونا ويساعدون المستضعفين في الارض لنيل استقلالهم..
هذا تقاطع مصالح..
قاسم: ترى لسواد اعينكم يساعدونكم؟؟ ذكرتني بقصة ذلك الرجل الذي اشترى سهما من شركة مساهمة يملكها
امير البلد فذهب في اليوم التالي الى قصره وطلب من الحراس ان يسمحوا له بمقابلة شريكه. اسامة، انهم
يفرضون عليكم سياستهم ويلعبون بكم كيفما شاؤوا.. تقاطع المصالح يكون بين دولتين بنفس القوة وليس بين
طرف قوي وطرف ضعيف .. انتم لستم حلفاءهم بل عبيدهم.. انهم يعاملوكم كما كنت تعاملنا في شلتك يا
اسامة...
اسامة بغضب: الن تنسى الماضي؟؟ قلت لك كنت صغيرا.. انت ما زلت تحقد علي يا قاسم..
قاسم: لا يا اسامة.. انا اريد ان اوقظك فحسب.. انتم مسيرون من المعسكر الشرقي... عليك ان ترى هذا كما
يراه كل الناس بوضوح..
اسامة: الدول التي تتكلم عنها تمدنا بالسلاح.. بدونهم كنا لنحارب بالسيوف..
قاسم: شخصيا افضل ان اقاتل الدبابة بالسكين من ان ارفع راية دول تحارب الاسلام في الغرب والشرق او
امد يدي لاصافح يدا تلوثت بدماء المسلمين.
فصمت اسامة لوهلة ثم قال: كلامك جميل يا قاسم. كلامك جميل.. ولكنه غير واقعي اطلاقا .. اعداؤنا
شياطين ونحن لسنا بملائكة.. ثم انك لا تقدم لنا حلولا واقعية وبديلة..
فقال قاسم يهدوء: اعترف اني لا املك عصا سحرية.. ولذا تراني منكبا على القرآن والسيرة.. فقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم "لقد تركت فيكم ما أن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي".. ربما لا
اعرف طريق النور بعد ولكني على الاقل استطيع ان اميز الظلمات من الآن فاتجنبها.. وانا لست مستعجلا
على شيء فافضل لي من اخسر مدينتي لا بل العالم كله من اخسر نفسي. ثم احنى قاسم راسه وقرأ قوله
تعالى "يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله يقلب سليم." ورفع نظره لينظر الى ردة فعل اسامة فلم يجد
امامه الا ابو النور يكح كحته المعهودة ويبصق في منديله الممزق..
وجها لوجه
بمجرد دخوله الى التنظيم ذاع صيت اسامة كمقاتل شرس لا يهاب الموت، ووصلت اخبار بطولاته الى
الطبقات العليا من التنظيم حيث وصلت الى اسماع الزعيم "ابو كفاح" شخصيا. وكان يوما مميزا في حياة
اسامة حينما ابلغ ان رئيس التنظيم ابو كفاح يريد ان يراه بصورة شخصية فتأنق ولبس افضل ما عنده وكأنه
ذاهب الى موعد غرامي، استقبلته سكرتيرة تلبس زيا عسكريا عرف فيما بعد ان اسمها نيرفانا ورمقته
باعجاب طوال مدة النصف ساعة التي اجبر فيها ان ينتظر الزعيم ريثما ينتهي من اجتماعه مع شخصية
مهمة على ما يبدو .. ومن خلف الباب المغلق سمع اسامة بسمعه الحاد بضع عبارات اثارت استغرابه.. كانت
اذناه تلتقطان عبارات طرف واحد من الحوار وهو الزعيم الذي تعود اسامة على نبرة صوته من خلال
خطاباته اما الشخص الثاني فقد كان صوته خافتا بالاضافة الى انه يتكلم الانكليزية.
وكان من بين بعض العبارات المتقطعة التي التقطها اسامة وسجلها في مذكراته :
- نحن ما كنا ___ شرقا لو فتحتم لنا ___.. لكن لا احد فيه ___ من العقل يوافق ان ___ وتدعموا
الخصم في ___ نفسه.
- هذه قضية لا نختلف ___، العلمانية وفصل الدين عن ___ هدفي قبل ان ___ هدفكم...
- لا ___ لدي من ان ___ به ولكن ليكن ___ سريا في عرض البحر على متن ____ فلا استطيع
ان اواجه __ بلقاء مع ___ الامة.
ثم انتهت المقابلة وكان اسامة متلهفا لرؤية الزعيم وجها لوجه بعد طول انتظار وبدرجة اقل لمعرفة هوية هذا
الضيف الغريب لعل هذا يفسر له جزءا من الكلام غير المفهوم الذي سمعه. ولكم كانت دهشته قوية حينما
رأى المستر سميث استاذ الانكليزي في مدرسته يخرج من مكتب الزعيم فتلاقت النظرات ولمس سميث في
عيني اسامة نفس نظرات التحدي التي عهدها منه في فترة مراهقته مما اثار غيظه ولكنه كان ثعلبا كما يردد
اسامة دوما يعرف كيف يخفي مشاعره خلف نظاراته السميكة لذا لم يتوانى عن تحيته باقتضاب وبخبث دفين.
وادخل اسامة على الزعيم ليفاجىء برؤية مكتب فخم كأنه يعود الى امير من امراء القرون الوسطى وفيه
حوض كبير للسمك النادر في منتصفه. وكانت هذه اول مرة يرى فيها اسامة بطل طفولته وجها لوجه
ففوجىء برؤيته مختلفا عما يعهده اذ لم يكن متوقدا حاد النظرات كما يراه في الصور او في الخطابات
الجماهيرية بل خاملا الى حد بعيد .. وربما يعود هذا الى قنينة الويسكي التي يركنها قربه والتي وصلت الى
منتصفها.. الا انه تخطى استغرابه وحياه التحية العسكرية قائلا "تحياتي حضرة الزعيم.."
رفع ابو كفاح عينيه الحمرواتين للحظة الى وجه اسامة و اشار اليه ان يجلس ثم عاد ليتابع خريطة وضعها
على مكتبه وقال:
انت اذن هو البطل اسامة؟؟ ظننت اني سأرى امامي رجلا ضخم الجثة مفتول العضلات..
"الشجاعة هنا سيدي الرئيس" واشار الى قلبه..
"صدقت.." قال ابو كفاح هذا ثم اردف "لكن فرق بين الشجاعة والتهور.. عليك ان تكون اكثر انضباطا"
"سيدي الرئيس.. لم افهم.."
سحب ابو كفاح سيجارا كوبيا من علبة مذهبة قربه ووضعه في فمه.. ثم قال متبجحا "هذه العلبة تقدمة من
فيدل كاسترو نفسه.." وشعر يدخن وينفح في الفضاء .. ثم سرح في البعيد..
"سيدي الرئيس.. ماذا تعني بالانضباط؟؟" عاد اسامة ليكرر..
فتنبه ابو كفاح لسؤال اسامة وقال "آه صحيح.. اسمع.. هناك زميل مخضرم لنا في الحزب.. عليك ان تتعلم
منه مناقبية المهنة.. انه قائد سرية القناصة عندنا ... ابو صقر"
فتهلل وجه اسامة حبورا لدى سماعه هذا الاسم فقد ذاع صيت ابي صقر وبطولاته في صفوف التنظيم حتى
اصبح حلم اسامة ان يقابله فكيف وهو يبشر الآن بأنه سيعمل تحت امرته.
صدمة القتيل الاول
ساد الصمت الدقائق الاولى من لقاء اسامة مع ابي صقر رغم محاولات اسامة الحثيثة للتقرب منه.. لكن شيئا
فشيئا انفكت عقدة ابو صقر وبدأ بالكلام وهو يعبث بلحيته الطويلة الكثة قائلا "اعذرني.. لم ار احدا منذ فترة
طويلة.." ثم ضحك وقال "لدرجة اني بت اخاف ان انسى الكلام". وانتهز اسامة فرصة ابتسامة ابي صقر ليكر
على مسامعه ما يعرفه من اخبار بطولاته منذ كان صغيرا ولكن لم يبد على هذا الاخير أي علامة للزهو
والفخر فعلى عكس الزعيم ابو كفاح لم يكن ابو صقر يبالي كثيرا بالشهرة او التفاخر بل بدا ان محط اهتمامه
الوحيد هي بندقيته التي كان يحرص على تنظيفها بعناية يوميا. ومرت ايام طويلة ومملة كان اسامة يتدرب
فيها على يد ابي صقر دون ان يفلح في كسر حاجز الصمت الرهيب بينهما الى ان ادرك اسامة مع الوقت ان
اقرب طريق الى قلب أبي صقر هي بندقيته فلاطفه وقال " ابو صقر؟؟ اراك تحنو على البندقية وكأنها
ابنتك.."
فنظر اليها بفخر واجابه "وكيف لا؟؟ "زوزو" ترافقني منذ كنت في سنك.. بت اشعر انها جزء لا يتجزأ مني..
احيانا استيقظ في الليل واتحسس وجودها قربي خشية ان تكون قد فرت مني"
فتعجب اسامة وقال "يااه الى هذا الحد؟ لكن لم افهم.. هل كانت هناك حرب في بلادنا في ايام شبابك؟؟"
فاجاب ابو صقر دون ان يرفع نظره عن بندقيته "يا بني، الحرب في بلادنا كطير العنقاء تولد من رمادها كل
عشرين عاما.. نحن شعب يهوى الحرب.. ان لم يجد شيئا يتقاتل عليه.. يحارب على اللاشيء"
واطل اسامة من خلال نافذته فرأى منظر الشمس تنحدر نزولا نحو البحر بهدوء وسكينة كالعاشق المشتاق
لضم معشوقته الى احضانه. فتنهد اسامة اذ تذكر حبه الوحيد وقال "ابو صقر.. الم تحب في حياتك؟؟" ثم اكمل
مبتسما ابتسامة حزينة "طبعا غير زوزو؟؟"
بالطبع احببت.. لكن من هي هذه الغبية التي تقبل بي وانا احمل كفني على يدي؟. ثم ابتسم ابتسامة واسعة
وكأنه يرى امام عينه مشهدا من الماضي وقال: لقد اصابت قلبي في الصميم؟
فضحك اسامة وقال : "كانت قناصة ماهرة.. اذن"
لم يسمع ابو صقر تعليق اسامة من فرط اندماجه بالمشهد الذي يراه في خياله وتابع "لكنها قالت لي؟؟ ماذا
ستهديني شبكة زفافي؟ عقدا من الخرطوش؟.. من يومها صممت الا انظر لفوق.. الآن من نافذتي في اعلى
طابق في هذا البرج.. انا اعلى من الكل.. كلهم دوني.. وتحت رحمة بندقتي زوزو.." ثم هز برأسه وكأنه
ينفض عن ذاكرته غبار الماضي والتفت الى اسامة فقال "لكن لم تسأل؟"
فهز اسامة رأسه بأسف وقال "وانا ايضا ليس لدي الا البندقية والخرطوش.. ولا اريد ان انظر لفوق..."
"لا يا يني انت مختلف عني.. انت متعلم.. غدا تلقي الحرب اوزارها وتكمل تعليمك وتتزوج اجمل الفتيات.."
"نعم ويصبح الغراب ابيضا ويدخل الجمل في سم الخياط.."
انت اكثر تشاؤما مني يا رجل.. الا تعتقد ان الحرب ستنتهي؟؟
قد تنتهي على الارض ولكنها في قلبي ستعيش الى الابد.. لقد تغيرت يا ابو صقر.. تغيرت مع اول انسان
قتلته.. اكاد لا انسى منظر الدماء يتفجر من رأسه عندما اصبته برصاصتي.
آه لا تخف.. "صدمة القتيل الاول" من العوارض المعروفة عندنا معشر القناصين وتابع باستهزاء "نقل فؤادك
ما شئت من الهوى ما الحب الا للقتيل الاول.." لكن بعدها تتعود وتصبح القضية عندك عادية جدا.. وفي هذه
اللحظة خرج شخص من مخبأه في الشارع المقابل حذرا يترقب فجهز ابو صقر بندقيته واصابه في الصميم ثم
قال "ارأيت.. يصبح الامر سهلا وكأنك تقتل القطط.." ثم التفت الى بندقيته وقال "برافو عليك يا صغيرتي.."
واضاف خطا الى مئات الخطوط في الجدار قربه.
طوابير الخبز
كان لكل حزب او ميليشيا في وطني جناح خاص مؤلف من النخبة الذين لا يشك الزعيم في ولائهم او في
شجاعتهم. وفي حالة التنظيم كانت "سرية جهنم" هذا الجناح وعلى رأسها يقبع وحش جزار يكفي سماع اسمه
حتى ترتعد فرائص الجميع خوفا ورعبا فقد كان البطش هوايته والقتل حرفته .. يقتل لمجرد الشك.. لمجرد
الاشتباه.. المتهم عنده مجرم حتى تثبت براءته... ذاك هو ابو الجماجم.
وكانت ازمة الرغيف ازمة يومية في مدينتنا تعود الناس عليها كما تعودوا على مناظر النفايات المتكومة
والجثث المتفحمة.. لكن ماذا يخطر على بالكم حينما اقول ازمة خبز؟ طوابير من الناس في صف طويل؟؟
لا لم يكن هناك من طوابير خبز عندنا.. فالطابور يحتاج الى نظام وفي بلادنا انهارت الدولة وانهارت معها
كل مؤسساتها في الاشهر الاوائل لاندلاع الحرب.. وانهار معها أي اثر للنظام او احترام الآخرين وحتى
احترام الذات.. كنا نعيش في بحر متلاطم الامواج: السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة.. كنا نعيش في أدغال
موحشة تحكمها شريعة الغاب فإن لم تكن فيها ذئبا اكلتك الذئاب.. حاولت الميليشيات الموجودة في المدن قدر
الامكان ان تسد ثغرة غياب الدولة.. ولكن لم يأخذ الناس الكثير من الوقت حتى يتبين لهم ان رجال الميليشات
لا يأبهون الا لمصالحهم الخاصة وأن حاميها حراميها.
كان منظرا فريدا من نوعه.. بمجرد ان يؤذن الموذن لصلاة الفجر يبدأ الناس بالتجمهر حول افران الخبز
والتدافع للوصول الى لقمة تسد الرمق. مناكب تتعارك ووتتدافع.. رؤس تعلو وتنخفض كأمواج البحر
الهادر.. اصوات غاضبة تنهمر على جارنا البائع المسكين "ابو سعيد" الذي لا يفتأ يردد بشكل روتيني "طولوا
بالكم.. كلكم سيأتيه الدور.." حتى لو كانت كمية الطحين عنده لا تكفي الا ربع المتجمهرين. كان ابو سعيد
رجلا كبيرا في السن ضعيف البنية ومع ذلك فقد حباه الله بقدرة هائلة على العمل والاحتمال مصداقا للمثل
الشعبي "يضع سره في اضعف خلقه".
ومن حس حظي ان الفران ابو سعيد كان صديق الوالد منذ زمن بعيد لذا فقد كان يأخذ بعين الاعتبار وضعه
الصحي الذي اجبره على ملازمة المنزل و يحجز له ربطة خبز يوميا يرسلها لنا في المساء مع ابنته مريم
حين قدومه الى منزله. الا ان تدخل مافيا التنظيم ممثلة بسرية جهنم في توزيع الخبز منعه من أي اجراء من
هذا النوع فبالكاد اصبحوا يسمحون له أن يأخذ لاسرته كفايتها كل ليلة. لذلك وجدت نفسي ولاول مرة
مضطرة انا البنت الحيية التي لم تلمس يدها يد شاب قط ان ادخل في معمعة من الرجال والنساء جعلت
الرغيف الساخن نصب عينيها. كان منظري يومها مضحكا مبكيا .. خطوة الى الامام وخطوتين الى الوراء..
كشخص لا يعرف السباحة القى به في امواج متلاطمة. لا اعتقد ان الرجال الراكضين وراء لقمة عيشهم
كانوا يبالون بالاجساد الانثوية التي تزاحمهم فقد كانت اياما صعبة كيوم الحشر كل هم الانسان فيها ان ينجو
بنفسه.. لكن ما يخيفني كانت نظرات رجال ابو الجماجم التي كانت تخترق الثياب وتعليقاتهم البذيئة حيث لم
تنج أي فتاة جميلة من تحرشاتهم.
انزويت وحدي بعيدا عن الجموع وانا انتظر بأمل يائس ان تخف الجموع ولكن كلما انتظرت اكثر كلما ازداد
حجم الكتلة البشرية التي تناضل من اجل لقمة عيشها. فدعوت الله تعالى ان ييسر مهمتي ويرسل لي من
يساعدني في هذه المهمة الصعبة كالغريق الذي يتمسك بقشة من الامل. ولم تمض لحظات حتى استجاب اكرم
الاكرمين لي وارسل الي اسامة الذي صودف ان اطل على منزلنا يومها فأخبره والدي بما ذهبت اليه..
سمعت صوتا يناديني من الخلف: "حنين ماذا تفعلين هنا؟؟"
فانهمرت دمعة من عيني وقلت "انتظر حتى يخف تزاحم الرجال فاتقدم .."
شاهدت الغضب في عيني اسامة كما لم اشاهده من قبل ورأيته يربط عصابته الحمراء على رأسه ثم يخترق
الجموع بقوة كما تشق السكين الزبدة وسط دهشة الناس ورجال التنظيم لقوة هذا البطل المقدام .. وانبرى احد
رجال سرية جهنم ليوقف اسامة ويلزمه بالدور فما كان من اسامة الا ان وكزه بقبضته ضربة خفيفة طار
على اثرها المسكين وحط ارضا .. وارهب هذا المنظر بقية الرجال الذين طالما سمعوا بهذا البطل ذي
العصابة الحمراء على جبهة القتال ولكن لأول مرة يرونه رأي العين. وفي لمح البصر كان كيس الخبز في يد
اسامة فسلمني اياها ثم همس لي: "من الآن فصاعدا لا تحملي أي هم.. " فنظرت في عينيه نظرة شكر وتقدير
لشهامته وقلت له "وكيف احمل أي هم ومعي القوي الامين؟؟ شكرا.."
لكن في مكان آخر غير بعيد عنا كان ابو الجماجم يرمق اسامة بعينين حاقدتين.. فقد رأى لأول مرة من
ينافسه على عرش القوة والولاء للزعيم... واقسم في نفسه الا يفوت عليه فرصة الانتقام منه وازاحته عن
الدرب في اول فرصة مناسبة.

المنظر من فوق

و من نوافذ برجه العاجي كان الزعيم يرمق ما يجري على الارض.. "تعالي يا نيرفانا .. تعالي.. انظري الى
هذا المنظر .. منظر رائع انهم يبدون كأفعى تتلوى في الرمال.." قال ابو كفاح واشار بيده الى الطابور
الفوضوي الذي تحاول ان تفرضه سرية جهنم على الناس بالقوة دون كبير نجاح.
" المنظر من تحت مختلف تماما.. انهم اناس يرزأون تحت وطأة الفقر والجوع.. " قالت نيرفانا بعطف..
فاستشاط الزعيم غضبا وقال : "انا اعرف الجوع .. واعرف الفقر.. لم اولد وفي فمي ملعقة من ذهب... لكن
هذه مرحلة انتهت.. انا ابن اليوم فقط.. فهمت يا نيرفانا؟؟ انا اليوم فوق.. "
نيرفانا بحذر: انتبه يا زعيم.. ماطار طير وارتفع الا وكما طار وقع..
ابو كفاح: لا.. لا تخافي علي.. لن اقع.. انا اعرف نفسية الشعب جيدا واعرف كيف اسوسه حينا.. وصمت
برهة ثم اضاف و"كيف ادوسه احيانا اخرى.."
نيرفانا: زعيم.. لو كنا نشتري طحينا بكميات اكبر لاستطعنا حل مشكلة طوابير الخبز و لأمكن للشعب ان
يعيش براحة اكبر..
فتجاهل ابو كفاح نيرفانا واقترب منها وقال بنزق: نيرفانا.. هذه امور عقلك الصغير لا يستطيع ان يحدها..

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات