رواية عرسنا في الجنة -3
حلال ما أشعر به. هل الله غاضب علي ؟؟؟" وبدأت في البكاء مرة أخرى ثم تابعت بصوت متهدج: " أني
أشعر أن الله لا يحبني ويعاقبني بهذا ؟؟؟ ألم تقل لي أن احبنا الله أهدانا من نحب ؟؟؟ هل أنا هكذا عاصية ؟؟؟
هل أنا قبيحة ؟؟؟ هل أنا غير مؤدبة ؟؟؟ وانهمرت على السيد رأفت مئات الأسئلة المتلاحقة والغير مترابطة
والتي ان دلت على شيء فعلى شيء واحد فقط الا وهو مدى التيه الذي تشعر به الفتاة ...
وبدأ السيد رأفت في تهدئة روع أبنته وطمأنتها فهو يدرك تماما ما تمر به تلك الصغيرة التي لم تتجاوز
الخامسة عشرة من عمرها بعد. كانت عبير برعما صغيرا يحتاج لرعاية وعناية فائقة حتى يثمر عن تلك
الزهرة التي يحلم في يوم من الايام أن تتفتح في ظل حنانه الابوي. وتقدم السيد رأفت من ابنته وقال لها
بمنتهى الحنان : "لماذا يا حبيبتي تقولين هكذا ؟؟؟ وكيف يغضب الله عليك ؟؟؟ ولماذا؟؟؟ وعلى ماذا ؟؟؟ أمن
أجل أنك شعرت ببعض الانجذاب لفتى وعلى ما أعتقد أنه ليس بأي فتى حتى يلفت انتباه وقلب صغيرتي
الجميلة". ثم نظر اليها ليرى ردة فعلها وهو يبتسم ابتسامة هائنة و عندما انس منها الاطمئنان استرسل في
توجيهه قائلا "في هذا السن من الطبيعي أن تشعر الصبايا والفتيان بانجذاب فيما بينهم هذا شعور لا يمكن
لأحد أن ينكره ولكن في الوقت نفسه علينا ان نستعين بمن يوجهنا بطريقة صحيحة حتى نتبين إن كان هذا
الشعور أو الانجذاب حقيقي أم مجرد انبهار أو أعجاب فقط لمجرد اختلاف الجنس. فكثيرا ما نتوهم هذه
المشاعر على انها حب ولكن تكون في الحقيقة مجرد ميل أو شعور بالأرتياح لشخص ما.
عندها رفعت عبير رأسها ونظرت في عيني أبيها وقالت "هل تعتقد أنني لا أحبه حبا قويا أو حقيقيا لذا لم
يشعر بصدق محبتي ولم يبادلني أياها بل استهزأ بي !!!
الأب : أنا لم أقل هذا
الأبنة : ماذا تعني إذن؟
الأب مبتسما بحنان : من الواضح جدا أنك معجبة به ومن المؤكد أنه يحمل صفات بهرتك لهذه الدرجة .. انه
فتى مميز ولا شك.
الأبنة وقد توردت وجنتيها خجلا من أبيها لوضعه يده على بيت القصيد: "هو فعلا كذلك يا أبي فهو ذكي
وشخصيته قوية ومتدين أيضا" قالت هذا ونظرت الى والدها ترقب ردة فعله على هذه النقطة لما تعرف من
تقواه وورعه . فطمأنها بابتسامة دافئة وتركها تسترسل وتقول "أيضا هو نابغة مثلك في الرياضيات" و تابعت
بكبرياء طفولي وفخر "لكن اطمأن لم يحصل ابدا على العلامة الكاملة مثلي فأنا ابنة أبيها" ثم أنقضت على
ابيها تقبله. فضمها السيد رأفت اليه وتابع درسه الثمين: "حبيبتي وقرة عيني عبير، هل من الممكن أن تستمر
الحياة بيني وبين أمك ان لم تشعر بأنها دائمة الاحتياج لي وأنها لا تستطيع القيام بأي أمر ما قبل استشارتي؟
صحيح انها في احيان كثيرة تشير على بأمور ما وأحترم رأيها وآخذ به ولكن في مجمل الأمر من له الكلمة
العليا ؟؟؟
فردت الفتاة : أنت يا أبي ولكن ما علاقة هذا بذاك ؟؟؟
الأب : يا صغيرتي دائما لا بد أن يسبق الرجل المرأة بخطوات.. هكذا خلقنا الله كي نكمل بعضنا البعض
حتى تتزن الحياة وتسير في مسارها الطبيعي فكيف يمكن أن تتقدم المرأة عن الرجل ؟؟؟ هل ينفع هذا ؟؟؟
هل يستوي ؟؟؟ هل يمكن أن أقوم بحل مسألة ما من دون معطيات ؟؟؟ هل يمكن أن أرتب الحل قبل ان اقرأ
المسألة ؟؟؟
نظرت عبير الى والدها باندهش واجابت الاجابة المنطقية فقالت "لا يا أبي لا يجوز..."
فقال الأب بحنو بالغ: "وهكذا هو الحب يا صغيرتي إن اصاب قلبا ولم يصب القلب الآخر فهذا لا يعتبر حبا
ولكنه مجرد إعجاب بمن هم مختلفين عنا في طريقة التفكير أو طريقة التصرف. الم تدرسوا في الفيزياء ان
القطبين المتشابهين متنافران وان القطبين المختلفين متجاذبان؟
فاجابت الفتاة وقد بدأت الصورة الكاملة تتضح لها "بلى يا ابي.. لقد بدأت افهم الآن ما ترمي اليه"
فنظر الأب بنظرة انتصار وبمنتهى الحنان الى إبنته الصغيرة وسألها "ماذا فهمت ؟؟؟"
عبير: ربما كما تقول هو مجرد أعجاب وأنبهار بشخصية جديدة لم ارى مثلها فظننت أنه حب ثم اردفت
ونظرات الغيظ في عينيها "لكن ماذا أفعل مقابل الاساءة التي أساءها لي بالأمس ؟؟؟"
اجاب السيد رأفت بهدوء ولكن بحزم: الاساءة نبادلها بإحسان ما دامت لم تتعدى الأدب. واضح أنه لم يقل لك
كلمة نابية أو تصرف معك تصرفا غير نبيل أليس كذلك ؟؟؟ فلا تعيري للأمر أي أهمية وتعاملي مع الموقف
وكأنه لم يحدث وواصلي دراستك وتفوقك وتعاملي بشكل طبيعي وعادي جدا معه مثله مثل أي زميل آخر.
دعي البهجة تعم أي مكان تحلين فيه كما تعودت يا صغيرتي.
فأجابت عبير وقد رسمت ابتسامة عريضة على شفيتها "نعم يا ابي أفعل ذلك إن شاء الله "
رأفت: "عبير، يا حبيبتي، أنت تعرفين أنك لا زلت صغيرة والعمر كله أمامك وغدا في الجامعة ستقابلين
الكثير من الناس وعندما يحين الوقت سوف يجمعك الله بمن تستحقين. لكن ارجوك، ركزي الآن على ما
سوف تحققينه بمستقبلك العلمي."
رأفت: ولا تنسي ان تعودي إلي ان واجهت اية مشكلة فانا احب ان نفضفض سوية. اتفقنا؟؟
عبير: اتفقنا..
رأفت: حسنا اذهبي الى سريرك ونامي فقد تأخر الوقت..
عبير: الن تقص علي قصة؟؟
رأفت: يا عبير.. كبرنا على القصص..
رأفت: انا لا اكبر معك يا ابي.. ساظل صغيرة. قالت عبير هذا وارتمت في حضنه لتسمعه يقول "كان يا ما
كان.. في قديم الزمان.. اميرة Aو_€ ÷t___حلوة اسمها عبير.. تنتظر فارس الاحلام الذي سيحملها على حصان ابيض..."
زيارة في العيد
وتخرج اسامة من المدرسة وازداد ولعا بالتنظيم وكثيرا ما كان يضع عصابته الحمراء على رأسه ويحمل
بندقية الصيد التي يمتلكها وكأنها رشاش ثم يسألني : "ما رأيك يا حنين؟ هل انفع ان اكون مقاتلا؟؟" او يلبس
نظارات شمسية رديئة الصنع اشتراها بما ادخره من مصروفه الضيئل ويقف بثقة مسترجعا خطابات ابي
كفاح الحماسية ويسأل " ام انفع ان اكون قائدا؟؟" فاضحك واقول: "يا ويلي ان اصبحت قائدا فلن تجرؤ اي فتاة
ان تخرج من منزلها" فيضحك ويقول "لا يا حنين.. هذه مرحلة ومرت.. انا الآن اؤمن اكثر من اي وقت
مضى بوجوب مشاركة النساء في النضال.. هذه معركتنا جميعا شبانا وفتيات لتحرير مدينتنا من الحصار ورد
المعتدين."
كانت والدته تخاف من هذا التعلق الزائد بالتنظيم اذ كانت تعرف بخبرتها الطويلة ان وراء الاكمة ما وراءها.
وان الكلام شيء والممارسات على الارض شيء آخر.. وكثيرا ما كانت تردد عليه "يا بني لا تدخل في اي
حزب.. كلهم يجرون وراء مصالحهم.. كلهم يتخذون العروبة والاسلام مطية للوصول الى السلطة والحكم"
ولكن عبثا ففي هذا السن تطغى الحماسة على العقل ويصم الولد اذانه عن سماع اهله حيث يعتبرهم جيلا
قديما متخاذلا. مع كل هذا فان اسامة كان يطيع والدته على مضض ودخل كلية الهندسة تلبية لرغبتها ولكن
في قلبه كان يستاء ويقول في نفسه ماذا افعل هنا؟؟ مكاني على الجبهة؟؟ اخواني في العقيدة يموتون وانا
اتفرج على ما يحصل لهم كالنساء؟؟؟ فكان كل شهيد يسقط على الجبهة او على خطوط التماس دافعا اضافيا
له كي يشعر بالخزي و العار..
ولم تكن خالتي انيسة الوحيدة التي تشك في نوايا التنظيم فقد كان الشيخ مسعود ايضا يحذر منهم بقوة من دون
ان يسميهم على عادة رجال الدين المتعمقين بدينهم فيقول "ما بال اقوام تركوا سنة رسول الله ومنهجه واتبعوا
احزابا لا تسمن ولا تغني من جوع؟؟ أيظنون ان النصر ياتي على يد من يتبع الملحدين .. أيظنون ان النصر
يأتي على يد من لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف للناس حقا ولا حرمة؟؟" ووصلت اصداء هذه الانتقادات الى
زعيم التنظيم فقام بزيارة خاطفة الى مسجد الرحمة مع نفر من مرافقيه.
خلع ابو كفاح نعليه واعطاهما لمرافقه زكور كي يضعهما في المكان المخصص للاحذية، وصلى ركعتي تحية
المسجد بسرعة كنقر الديك ثم اقترب من الشيخ مسعود الذي كان يرشد رجلا ضريرا الى بعض مسائل
الوضوء وجلس بين يديه على الارض قائلا "السلام __________عليكم يا شيخنا.." فاجاب الشيخ مسعود "وعليكم السلام
ورحمة الله وبركاته" ثم عاد ليتم موضوعه مع الضرير.
وانتظر ابو كفاح دقيقيتن وهو يكظم غيظه قبل ان ينفجر ويقول بنبرة قاسية "سيدي الشيخ.. لعلك لم تعرفني.."
فاجاب الشيخ "وهل يخفى القمر؟؟ وكيف لا اعرفك وصورك تطالعنا في كل مكان.. في التلفزيونات وعلى
الجدران وحتى على صدور محازبيك الذين يحملون عنك حذائك"
وعند سماع هذه الكلمات خاف الضرير وارتعب واعتذر من ابي كفاح قائلا "عذرا ابي كفاح.. والله لم
اعرفك.. لو كنت عرفتك لتنحيت جانبا.."
لكن الشيخ مسعود قال له "لم تتنح جانبا يا ابو حسن؟؟ لقد اعطانا الله درسا في من هو مثلك في سورة عبس
وتولى.. انت الم تنتظر من كان قبلك حتى تستفتيني ؟ لقد رفع الله الناس بعضهم فوق بعض في هذه الدنيا
ولكنهم يتساوون في مكانين .. في المسجد.." وصمت هنيهة ثم نظر بقوة في عيني "ابي كفاح" وتابع "وفي
القبر.."
فاخفض الزعيم راسه موافقا وقال "صدقت يا شيخنا.. لكن انت تعرف اني رجل مشغول ومستهدف من قبل
اعدائي.. لا استطيع ان انتظر طويلا، وظننتك ستسر بمجيئي اليك.. ".
"طبعا مسرور.. كيف لا.. اليوم عيد بالنسبة لنا.."
"شكرا" قال ابو كفاح بتواضع كاذب..
ولكن الشيخ مسعود تابع مفسرا ما قاله وقال "وكيف لا يكون عيدا.. ونحن لا نراك الا في صلاة العيد مرتين
في العام؟؟ فلا بد وان اليوم عيد وانا لا اعرف.."
فقال ابو كفاح بتوتر وبلهجة اعتذارية " انا اعترف اني مقصر بحقكم.."
الشيخ مسعود: "مقصر بحقي؟؟ اتراه بيتي؟؟ هذا بيت الله يا زعيم..."
ابو كفاح: لا تقسو علينا يا شيخ.. انت تعرف مدى انشغالنا بادارة الدفاع عن مدينتنا..
الشيخ مسعود: نعم اعرف.. لكن ليتك تدافع عن حياض الدين والعرض كما تدافع عن حياض الارض..
فاستغل ابو كفاح الفرصة ليأخذ زمام المبادرة ويقول: نحن نعرف تقصيرنا في التربية الدينية ، وانت تعرف
اعجابنا بعلمك وتقواك وخطبك.. حتى اني استعير منها في خطبي. لذا فانا اتمنى عليك ان تعمل معنا كمرشد
روحي للتنظيم.. تحث الناس على الصلاة والصيام.. والاخلاق الحميدة.
فقال الشيخ متعجبا: فقط؟؟ واين العقيدة؟؟
العقيدة؟؟ قال ابو كفاح مستدركا.. طبعا طبعا .. العقيدة اهم شيء.. فلا تنفع العبادة بدون علم.. "قل هو الله
احد.."
فقال الشيخ: العقيدة ليست فقط بالتوحيد اللفظي.. العقيدة هي الا توالي الكفار والملحدين وتسوق افكارهم ..
العقيدة هي ان تخلص لله في كل عمل ولا تبتغي الاجر والثواب من غيره.. العقيدة هي الا تحكم الابشريعة
الله.. العقيدة هي الا تحلل ما حرم الله وتحرم ما احل الله.. العقيدة هي الا تسكت عن الحق او تأمر بالمنكر او
تنهى عن المعروف...
فازدادت نظرات ابو كفاح ضيقا وقال "انا لا اؤمن بهذا الفهم المتزمت التقليدي للدين.. نحن مسلمون نعم..
ولكن ليبراليون.. علينا ان نتمسك بجذورنا وتقاليدنا ولكن ننبذ منها ما لا يتلاءم مع عصرنا الحاضر.. نحن
نعيش في القرن العشرين يا شيخ.. ولا تنس ان العرف له اعتبار في الدين وان الاحكام تتغير مع الامكنة
والازمان"
فضحك الشيخ وقال بهدوء وصبر الداعية : انت لست بحاجة الي اذن.. فها انت تفتي لنفسك ما شاء الله
عليك.. يا بني.. العرف الفاسد ليس له ادنى اعتبار .. ما تقوله صحيح في الامور التي لا تخالف شرعنا.. اما
ان تقول لي بأن المساكنة حلال لأن المجتمع العصري لا يرى فيها بأسا فهذا عرف فاسد لا وزن له عند رب
العالمين.."
وهنا شعر ابو كفاح ان الموسى تقترب من ذقنه لما اشتهر عنه من علاقاته الغرامية المتعددة فايقن ان اللقاء
قد فشل فرمى ورقته الاخيرة وقال "على كل حال يا شيخنا.. نحن لن نثقل عليك او نصر ان تكون معنا..
ولكن على الاقل ادع لنا في المسجد بدل ان تحرض الناس علينا.."
فقال الشيخ بثقة "يا بني.. انا ادعو للمؤمن بالنصر والثبات وللضال بالهداية وللظالم بالهلاك وللمنافق
بالفضيحة.. فانظر اين تصنف نفسك منهم.. ان الدين لا يتغير وخطبي لن تتغير.. يقول الله تعالى "فلن تجد
لسنة الله تبديلا".. ان شئت ان تنجو من لساني ومن نار جهنم فتغير انت.. ان كنت تظن اني استهدفك
بكلامي.. فانا لا عداوة شخصية لي معك.. ولم اذكرك يوما بالاسم.. فما هذا دأب العلماء. انا احذر من طرق
الضلال والغواية لا من الاشخاص.. فالاشخاص متغيرون والمبادىء راسخة.
ثم عاد الشيخ مسعود الى الضرير ابي حسن فايقن ابو كفاح ان المقابلة انتهت فانصرف غاضبا وهو يتمتم
لمعاونيه "هذا ما ينقصنا؟؟ ان يذكرنا بالاسم؟؟ ان غدا لناظره قريب.."
افول نجمة
كانت السماء صافية في ذلك اليوم المشؤوم والشمس تغمر المدينة باشعتها الذهبية، خرجت العمة انيسة لتنشر
الغسيل على الشرفة كعادتها في كل يوم، وتطوعت انا واسامة ان نساعدها في نقل الثياب خاصة وان ابنتها
ليلى كانت تشعر بتوعك في هذا اليوم.
"الله يرضى عليك يا اسامة ويقلب التراب بين يديك ذهب" قالت عمتي ثم غمزتني بطرف عينها وقالت له "الله
يفرحني فيك قبل ان اموت وارى اولادك يسرحون ويمرحون في هذه الدار"
فاجابها اسامة قائلا "ومن يفكر بالزواج يا امي الآن ونحن في حال الحرب؟؟؟" ثم انه قبل يدها وتابع: "لا
تقلقي يا امي عندما يحين الوقت لن اتزوج الا من ترضين عنها."
وكأنها استشعرت ما سيحمله لها هذا النهار فقالت وهي ترمقني بحنان "لا اريد ان اوصيك بحنين يا اسامة ان
جرى لي مكروه، انت تعرف ان اخي مريض مرضا مزمنا وهي تحتاج لمن يرعاها". فابتسمت انا واحمرت
خدودي من الخجل. اما اسامة فنظر الي بعطف وقال "حنين مثل اختي ليلى يا امي ساضعها في عيوني ان
شاء الله". ثم حاول تغيير الموضوع فقال "تعالي يا حنين وساعديني في حمل سلة الغسيل الكبيرة هذه". ولم
تمض ثوان على دخولنا حتى سمعنا صوت طلق ناري يخرق الاجواء تبعته انة مكتومة وصوت ارتطام جسم
ثقيل على الارض فهرعنا خارجا لنرى العمة انيسة مضرجة بدمائها وقد اصابتها طلقة قاتلة في منتصف
جبينها. فلم اتمالك نفسي وارتميت عليها اهزها بعنف: عمتي.. عمتي.. ولم اشعر الا بيد تخطفني وترمي بي
داخلا.. فرغم فداحة الخسارة كان لأسامة ردود فعل سريعة وعقلانية. كان يعرف ان الطلقة الثانية ستكون في
رأسي ولم يشأ ان يخسرني كما خسر والدته. ثم انه ادخل جثمان الفقيدة داخلا وهو منبطح ارضا. وعندما
شعر اسامة ان الكل في مأمن. عاد ونظر الى جثمان والدته وحمل يدها فقربها الى فمه ولثمها.. ثم خانته قواه
فانهار باكيا كالطفل الصغير وصرخ "لماذا؟ لماذا قتلوك انت؟؟ ما ذنبك؟؟" الا انه تجالد وصبر خاصة بعد ان
رآني انا وليلى نكاد نشرف على الانهيار فضمنا جميعا بقبضته القوية وقال بتصميم "اقسم بالله يا امي.. انه لن
يهدأ لي بال حتى انتقم ممن قتلوك واحدا تلو الآخر" .
وهرع رجال من "التنظيم القومي" كلفوا بحراسة الحي الى داخل البيت لدى سماعهم اطلاق النار وعويلنا
فأخذوا جثمان الراحلة في سيارة اسعاف تمهيدا لدفنها وأخذوني انا ووالدي المريض واخي الصغير رائد
وليلى الى مكان اكثر امانا لحمايتنا بذريعة ان هذا المكان لم يعد آمنا لوقوعه في مرمى قناصة العدو.
وبعد وفاة والدته اضطر اسامة ان يترك الجامعة ليعيل نفسه واخته سيما وان والدي كان مريضا وبالكاد
يصرف علينا من معاش تقاعده. وكجميع الفتيان في هذا السن لم يكن عنده خيارات كثيرة سوى ان يحمل
السلاح ويلتحق بالتنظيم وهو امر كان يحلم به منذ زمن على اي حال. ولم ينقطع اسامة عن اصدقائه كليا فقد
ظل يلتقي حسام من آن لآخر، طبعا بالخفية عن اهل حسام الذين رفضوا ان يظل على صداقته معه خشية ان
يؤثر عليه ويجرفه معه الى التنظيم لكن يبدو انهم اساءوا تقدير مدى قوة الصداقة بين هذين الشابين اذ كان
من الأهون ان تفرق بين روميو وجولييت من ان تفرق بينهما. اما ليلى فقد اصابتها نوبات هستيرية دامت
معها مدة اسابيع وكانت تستيقظ في الليل وتصرخ كالمجنونة واقتضى الامر بضعة شهور حتى تتقبل الامر
وتعود الى طبيعتها.
فظاعات من الحرب
وتحت ذريعة الانتقام للضحايا الابرياء الذين سقطوا ضحية قناصة العدو شن التنظيم حملة واسعة امتد فيها
خارج حدوده ليطهر المناطق المجاورة من القناصة وتوسعت حدوده لتشمل عددا كبيرا من القرى في
ضواحي المدينة. وذاع صيت هذا المقاتل الشاب الجديد الذي يعصب راسه بعصابة حمراء ويقتحم المخاطر
دون ان يبالي بحياته.. كان زملاؤه في التنظيم يسمونه رامبو وبعضهم يسميه السوبرمان. اما هو فكان
يرفض ويقول انا "اسامة" اعتز باسمي بدون القاب فهو اسم اصغر قائد جيش من الصحابة." ورغم غياب
اسامة عنا لفترات طويلة في جبهة القتال فقد كان يزورنا من وقت لآخر ليطمئن على اخوته ويساهم في
مصاريفهم ويخصصني من دون الكل بهداياه الثمينة وثقته الكاملة.
انا لا انسى ذلك اليوم الذي زارنا فيه اسامة في منزلنا الجديد وقرر البيات عندنا، فقد كانت هذه اول مرة
اطلع فيها على دفتر مذكراته الذي يدون فيه كل شيء.. واذكر كم اصانبي الغثيان حينما اطلعت منه على
بعض فظاعات الحرب الاهلية. يومها رآني اسامة وانا اكاد اتقيأ لهول ما اقرأ فصرخ في وجهي بغضب
"حنين.. لماذا فعلت هذا؟؟ الا تدركين خطيئة انتهاك خصوصية الناس؟"
لم اجد ما اجيبه فيه سوى اني قلت" لم تسجل هذه الفظاعات على دفترك؟؟ كيف تضعها جنبا الى جنب مع
مشاعرك تجاهها " وخانتي الكلمات.. فلم استطع ان الفظ اسمها.. ولا اخفي عليكم اني حتى وانا اكتب هذه
السطور اجد صعوبة في ذلك.. لقد كان اسمها بالنسبة لي كاسم المرض العضال استصعب عدم التورية في
الحديث عنه."
وكان لذكر عبير اثر المهدىء على اسامة فقال "حنين يا عزيزتي، هذه هي الحياة فعلينا ان نتقبلها كما هي
بخيرها وشرها، بحزنها وسعادتها .." ثم نظر الى البعيد وقال "ولو ان السعادة فيها مجرد قطرات في محيط
من الالم". ان لم اكتب عن الحرب يا حنين فكيف سيتجنبها اولادنا؟؟ هذا الكتاب لك يا حنين، اوصيك به اذا
مت.. انشريه على كل البشر حتى يتعظوا.. لقد كتبت فيه اشياء واشياء وفضحت فيه اسرارا ظلت في طي
الكتمان سنوات طويلة.
فقلت له مستغربة: انت تسجل كل ما تراه؟؟
فقال: نعم يا حنين الا ان هناك مشاهد اقوى من ان تسجل.. فاكتفيت بتسجيلها في ذاكرتي.. اتذكرين الثلاثاء
الاسود يا حنين؟
فقلت بهدوء: كل ايامنا سوداء..
وتابع اسامة دون ان ينتظر جوابي فقال "يومها صب الطرف الآخر حممه علينا وعلى اسواقنا على حين
غرة.. حدثت مجازر في اماكن عديدة واستمر القصف المتبادل لايام متواصلة يحيث امتلأت الشوارع بالجثث
حتى انتنت وانتشرت الامراض والاوبئة.. يومها كلفنا بمهمة يومية من قبل التنظيم وهي ان نلم الجثث من
الشوارع تماما كما يلم شحن النفايات القاذورات عن الطريق. لاول مرة يا حنين اشعر بمهانة الجنس
البشري.. صدقيني كان زملائي في التنظيم قد تعودوا على هذه المناظر فاصبحوا يتعاملون مع الاشلاء
البشرية وكأنها اكوام روث او نفايات بدون ادنى احترام.. فهذا يحمل الرأس المقطوع من شعره وهذا يركل
الاطراف المقطوعة برجله وكانها كرة قدم.. ولكن المنظر الذي لا انساه هو منظر تلك العجوز المقعدة التي
قتل زوجها امام عينيها ولبث في بيتها خمسة ايام حتى انتن وفاحت رائحته وهي لا تستطيع ان تدفنه.. يومها
سمعناها تصرخ من نافذة منزلها ترجونا ان نأخذه.. فنزل "ابو العلاء" وهو المسؤول عن قيادة سيارة جمع
الجثث يومها فاعتذر منها بلباقة وقال "امتلأت السيارة اليوم.. لا يوجد أي مكان لراكب اضافي.."
فنكشت المراة شعرها وشقت ثيابها وقالت ارجوكم "انه يتفسخ والدود بدأ يخرج منه..". فرق قلبي لها
واصررت على غسان ان نأخذه فرضخ للامر الا انه طلب من الشباب امرا غريبا. قال لهم "خذوا هذه الجثة
وابدلوها بجثة طازجة.. ثم انصرف وهو يودع المرأة المذهولة.." لا تخافي غدا نعود لاخذها.. هذه ما زالت
طازجة فلن تزعجك برائحتها كثيرا..". "نعم يا حنين.. في كتابي احداث لم اقو على تسجيلها بمداد الحبر".
قالها اسامة بحزن ونظر الي فوجدني ابكي وقد ضممت الكتاب الى صدري..
الصدمة الثقافية
امضى حسام سنة كاملة في كلية الهندسة المدنية في الوطن ولكن الاوضاع ساءت كثيرا وضعف مستوى
الكلية بشكل دراماتيكي عندها قرر حسام السفر الى اوروبا ليكمل تخصصه في مجاله. عارض اسامة قرار
حسام ولكن بدون جدوى فودعه على المطار وهو يدعو له بالتوفيق. ولم تنقطع إتصالانهم عبر البريد وان
كانت تتأخر دوما في الوصول لظروف الحرب. وفي اوروبا شعر صاحبنا بالصدمة الثقافية لرؤيته بلدا
متحضرا يسوده النظام والتكافل الاجتماعي. وشيئا فشيئا بدأ حسام ينسلخ عن ارثه الاجتماعي وينجرف مع
شلة المغتربين العلمانية .. صحيح انه لم يفقد يوما حسه الاسلامي او يرتكب الفواحش مثلهم ولكن ذهنه تبلد
وبدأ التغييير يصبح اكثر عمقا مع الوقت. فتخلى بادىء البدء عن السنن والرواتب واصبح لا يتحرج من ان
يخوض في الشبهات ويعمل بالرخص حتى تلك التي لم يطمئن قلبه لها. وفي هذه الفترة تعرف على
كريستين.. كانت كريستين فتاة اوروبية رائعة الجمال حاول كل زملائها في الجامعة التقرب منها ولكن قلبها
لم يخفق الا لهذا الشاب الاسمر القادم من الشرق. هل احب حسام بدوره كريستين؟ هذا امر لم استطع اكتشافه
ولكني ارجح ان حسام على رغم من التغيير الذي اصابه لم يفكر ولا للحظة بان يتزوج فتاة من خارج محيطه
الذي نشأ فيه ولكنه وجد في كريستين وسيلة تقربه الى هدفه من الحصول على الجنسية وترسيخ اقدامه في
هذا البلد. تزوج حسام كريستين على سنة الله ورسوله ولكن كريستين رفضت الدخول في الاسلام واصرت
ان يسجل عقد الزواج رسميا في الدولة حتى تحفظ حقوقها كما قالت ففي بلاد الغرب لا ثقة مطلقة باحد لا
بين الزوج والزوجة ولا حتى بين الام واولادها. ولما كانت كريستين ابنة مقاول كبير فقد نجحت في مساعدة
حسام على العمل في شركات ابيها في مراكز ادارية حتى قبل ان يتخرج وارتقى في السلم الوظيفي الى اعلى
المناصب وجمع ثروة لا بأس بها.
وانقطع كل رابط بين حسام و بلده الام الا من رسائل يرسلها الى الاهل شهريا والى اسامة.. كان الاهل
يحثون حسام دوما على العودة الى بلده ما ان ينتهي من دراسته وكان هذا الاخير يعدهم ويؤملهم وهو لا
ينوي هذا في قرارة نفسه ولم يفاتح احدا بما يجول في خاطره الا صديقه المقرب اسامة. لا ادري تماما طبيعة
المراسلات بينهما ولكن اسامة سجل في مذكراته جزءا منها ..
يقول حسام في مقطع من احدى رسائله: لماذا اعود يا اسامة؟؟ لاقف في طوابير الخبز والبنزين؟؟ لاقبل يد
ابي كفاح وابي بلوط للحصول على وظيفة؟؟ لاعيش في بلد لا ينتمي الي ولا انتمي اليه؟ ليتربى اولادي على
اصوات الرصاص والصواريخ كما تربيت انا؟؟ لا استطيع يا اسامة.. لقد تعودت على النظام.. تعودت ان
آخذ حقي حتى آخر بارة.. تعودت ان احتكم الى القانون بالحق حتى ولو ضد رئيس الجمهورية. ان كنت
صديقي يا اسامة فعليك ان تتفهمني وتدعو لي بالتوفيق..
لكن اسامة لم يكن من النوع المجامل فاجاب: انظر يا حسام.. انا صديقك لكن الصديق من صدقك.. ان حالة
البلاد التي تعيش فيها كانت مثلنا واسوأ وخاضت حروبا اهلية كثيرة ولو ان الشرفاء فيها تركوها الى بلاد
اخرى افضل لما كانت وصلت الى الازدهار الذي تعيش فيه الآن.. بيدي وبيدك يا حسام سنقوم بالتغيير.. عد
الى وطنك ارجوك..
الإمام الصغير
ولم ينقطع اسامة عن الصلاة رغم انهماكه في شجون الحرب وكثيرا ما كان اصدقائه يصدمون لليقين الذي
يتحلى به حين يترك بندقيته في عز احتدام المعارك ليقوم ويربط عصابته الحمراء على رأسه ويصلي وسط
ازيز الرصاص والقذائف. ويروى عنه – وهذه رواية لم اتاكد منها- انه اصيب مرة في كتفه بشظية قذيفة
هاون سقطت قرب موقعه على الجبهة ولكنه لم يقطع صلاته ولم يشعر بالالم الا بعد انتهاء الصلاة. وشكل
تدين اسامة القوي الذي لم يفارقه لحظة واحدة دافعا قويا للحنين الذي يراوده الى جامع الرحمة المجاور
لمنزله القديم الذي ترعرع فيه متتلمذا على يد الشيخ مسعود. ولما بلغ الحنين اوجه طلب اسامة مأذونية من
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك