رواية بكاء تحت المطر -3
أبيه من صلبه؟ لا بد أن هناك نقطة ما تغيب عني.. لا بد أن في الأمر سراً..
حييته بابتسامة، ولكنه كان يشبك يديه بعصبية وينظر إلى ساعته بين فينة وأخرى وكأنه متعجل..
قلت له بصوت حاولت جهدي أن ينفذ إلى أعماقه:
ــ ألا تريد أن تعرف مرض خالد بالضبط..
قال ورموشه تهتز فوق عينيه:
ــ هذا موضوع لا يهمني.. أرجوك يا دكتورة ألقي علي ما تشائين من أسئلة بسرعة لأني متعجل..
أطرقت برهة أفكر.. إن دوري كطبيبة لا يقتصر على معالجة النواحي النفسية في المرضى فقط.. بل يتعدى الأمر إلى النواحي العائلية.. إلى كل شيء يساعد المريض على استعادة توازنه الذهني والنفسي حتى لو اضطررت إلى بحث القضايا العائلية التي لا شأن لي فيها.. لتسليط الضوء عليها وربما للم الشمل فيما بعد..
قلت له بهدوء:
ــ أتدري أن "خالد" يشبهك كثيراً..
اشتعلت عيناه بغضب مكتوم وهو يقول:
ــ هل هذا أحد الأسئلة؟
ثم أردف بحدة:
ــ دكتورة لا أملك من الوقت إلا عشر دقائق وبعد ذلك أنا مضطر إلى الاستئذان..
واجهته بالحدة نفسها:
ــ لماذا كنت تقسو على خالد في طفولته..
بوغت.. نظر إلي بدهشة,, تم تمالك نفسه وقال بصوت عميق:
ــ هل تريدين الحقيقة.. أمه هي السبب.. كانت تحبه بجنون وتدللـه بشكل غير طبيعي وتغرقه بحبها وحنانه دوناً عن بقية أخواته البنات.. حتى هو ابتدأ يتعلق بها بجنون ويبتعد عني شيئاً فشيئاً، حتى بت أعتقد أنه يكرهني وخاصة بعد أن تزوجت بأخرى غير والدته.. يبدو أنها كانت هي التي تحرضه ضدي وتبعده عني.. إنها هي السبب.. إنها هي السبب في كل شيء..
قلت له بصوت بارد:
ــ وهل كان هذا هو السبب الوحيد؟
احتقن وجهه بشدة.. نظر إلي بغضب وهو يقول:
ــ ماذا تقصدين بالضبط؟
ألقيت برأسي إلى الوراء وأنا أقول بارتياح شديد:
ــ أقصد أنه ربما يكون هناك سبباً آخر تكره خالد من أجله.. ربما أنت لا تحب الأولاد مثلاً وتفضل عليهم البنات..
هز رأسه بعنف وهو يقول:
ــ أبداً.. على العكس من ذلك عشت طوال عمري أمقت البنات، فقد عشت وحيداً مع تسع بنات هن أخواتي.. وعائلتي بأسرها لا تنجب سوى البنات، فأختي الكبرى لديها سبع بنات وأختي التي تليها لها العدد نفسه من البنات.. ويتفرق عدد البنات بين بقية أخواتي بين خمس وأربع واثنتين.. مما سبب لي أزمة نفسية كبرى خاصة عندما أنجبت زوجتي ثلاث بنات على التوالي، فألقيت يقيناً تاماً بأنني لن أحصل على الولد طوال حياتي وتقبلت حياتي على هذا الأساس.. وفجأة أنجبت زوجتي "خالد" الولد الوحيد في العائلة بأسرها.. المفاجأة أرعبتني وعكست ردة الفعل لدي فبدلاً من الفرحة الزاعقة التي من المفروض أن أشعر بها حدث لدي حزن عميق، وكأن هموم الدنيا قد اجتمعت فوق رأسي لدرجة أن الدموع عرفت طريقها إلى عيني ولأول مرة في حياتي.. كرهت هذا الولد ونفرت منه بشكل غريب لم أعهده قبلاً خصوصاً مع تزايد تعلق والدته به وحدبها عليها وعنايتها الشديد به.. ولما عنفتها مراراً على تفضيلها إياه على بناتي بهذه الطريقة، اتهمتني بأنني أغار منه وأنني أريد لنفسي أن أظل دائماً الرجل الوحيد في العائلة.. إنها لا تفهم وهي سبب في كل شيء..
بعد أن أنهى الأب كلماته.. أطرقت مفكرة.. لقد فهمت جزءاً من العقدة التي تحيل حياة خالد إلى جحيم لا يطاق.. فهمت أن والده مصاب بما يشبه المرض النفسي ويكره ابنه من جراء ذلك، فهو اعتاد على كونه الذكر الوحيد بين مجموعة من الإناث ويصعب عليه تقبل وجود ذكر آخر حتى ولو كان ابنه الذي انتظره طويلاً.. إنه مريض ويستحق الشفقة..
نظرت إليه بإشفاق وأنا اسأله:
ــ وهل أنجبت أطفالاً من زوجتك الجديدة؟
أجاب بسرور حاول إخفاءه:
ــ نعم لقد أنجبت منها ثلاثة بنات..
لم استطع مقاومة نفسي فسألته بدهشة:
ــ ألا تحتاج إلى رجل يؤازرك في عملك وفي رعاية بناتك؟ ألا تحتاج إلى ابنك الوحيد؟
أشاح بوجهه وقد عادت إليه عنهجيته وهو يقول:
ــ أنني لا أريده.. فلتشبع أمه به..
أطرقت لحظات أفكر بالأمر.. وقد تملكني اليأس من كل الجهات.. الأب يعاني من عقدة نفسية، وينكر ابنه، ولا يريد أن يراه، والأم ضعيفة خائفة لا حول لها ولا قوة.. والإبن ضائع بينهما، يموت في اليوم ألف مرة، ويعاني من خوف رهيب يكاد يقضي علي حياته في أية لحظة..
هل أقف هكذا مكتوفة الأيدي.. لم أخرج مع لقائي مع الأم بشيء.. ولقائي مع الأب يكاد ينتهي دون أن أخرج منه بفائدة ترجى..
أعدت النظر إلى أوراقي.. وفجأة خطرت لي فكرة غريبة تنطوي على مخاطر قد أستفيد منها بشيء وإلا ضاع كل شيء..
فكرت بسرعة.. إن حياة خالد ومستقبله وشبابه يستحقان مني هذه المقامرة وليكن ما يكون..
تململ أبو خالد في مقعده.. ووقف متأهباً للمغادرة قائلاً:
ــ أعتقد أننا قد انتهينا.. استأذن أنا..
قلت له بصوت قوي، وقد عقدت العزم على تنفيذ ما فكرت به:
ــ انتظر لحظة يا أبو خالد.. إنك لم تقل لي كل شيء.. فقد بقي لي سؤال واحد أو على الأصح استفسار.. إنك لم تقل لي مثلاً لماذا حاولت قتل ابنك خالد؟
تسمر في مكانه لحظات.. وقف يحدق بي كالمصعوق.. ارتجفت يداه بشدة.. وتهاوى على مقعدة باستسلام.. وأخيراً تمالك نفسه.. سألني بحقد والشرر يتطاير من عينيه:
ــ هل أخبرتك بذلك.. أليس كذلك؟
وقبل أن أعي ما يتطلبه هذا الموقف مني.. أردف بصوت متداع ونبرة من الحزن تغلف كلماته:
ــ إنها هي السبب في كل شيء.. فلم أكن أقصد قتله.. أبداً لم اقصد.. وهل من المعقول أن يقتل أي إنسان أو حتى حيوان ابنه؟
وقفت صامتة ولم أحر جواباً.. وماذا أقول لهذه الصدمة غير المتوقعة.. لقد كان الأمر مجرد استنتاجاً من الممكن أن يصيب أو يخيب.. كنت قد فكرت بكل الاحتمالات التي من الممكن أن تجعل شاباً مثل خالد يخشى من أبيه ويخافه ويتعلق بأمه هذا التعلق الطفولي، ثم أنه كان يتحاشى الحديث عن ضرب والده له، وحتى والدته كانت ترهب الجانب من الحديث، وتهرب منه.. فطرأ لي هذا الطارىء الغريب الذي ما لبث أن أصبح حقيقة واقعة من المذهل أن تكون هي الحلقة المفقودة التي أبحث عنها..
خرج صوتي جافاً مبحوحاً وأنا أقول له:
ــ تقصد أم خالد..
هتف بشدة:
ــ ومن غيرها تسبب في تدميرنا أنا وأولادها..
حاولت اجتراه للحديث أكثر وأكثر:
ــ صدقني يا أبو خالد.. أم خالد لم تقل لي أي شيء عن هذا الأمر..
قال وهو يرمقني بريبة:
ــ ومن قال لك إذن؟
أجبته بهدوء:
ــ لم يقل لي أحد شيئاً عن هذا الموضوع.. كان مجرد استنتاج أكدته أنت بكلامك.. ألم تلحظ أنني قلت لك في صيغة سؤالي " لم تقل لي مثلاً لماذا حاولت قتل ابنك خالد" إنني قلت مثلاً ولم أؤكد..
انتصب واقفاً وهو يقول:
ــ لقد أمضيت هنا في عيادتك ما يقارب الساعة وقد اتفقنا على عشر دقائق.. آسف فأنا مضطر للإنصراف..
لم أستقبله أكثر من ذلك.. فيكفيني ما عرفته منه.. ما كنت أحسب أنني سأتوصل لهذا الاكتشاف المثير..
بقي أن أعرف تفاصيل هذه الحادثة.. وكيف حدثت.. ولماذا؟ لأتمكن من التوصل لعلاج خالد العلاج الشافي والنهائي بإذن الله..
~
المقطع السادس
ما أن نهضت من النوم صباحاً حتى فوجئت بهاتف من أم خالد.. جاءني صوتها المضطرب:
ــ أسرعي يا دكتورة.. خالد.. لقد عاودته النوبة.. إنه يحاول قتل نفسه..
ارتديت ثيابي على عجل وعشرات الأفكار تدور في رأسي.. وعرفت الدموع طريقها في عيني، وأنا أفكر ترى هل نجحت محاولته هذه المرة وقتل نفسه.. قتل نفسه قبل قبل أن أنقذه..
تمتمت بدعواتي إلى الله أن يحميه..
استقبلتني أم خالد على الباب جازعة.. سألتها بقلق.. :
ــ أين خالد؟
أشارت إلى أحد الأبواب في صالة الاستقبال الفسيحة.. كان الباب موارباً.. دخلت وأنا أرتعش..
فوجئت بهيئته العامة.. فقدت عيناه بريقهما المحبب، واتسعت حدقتهما خوفاً ورعباً.. كان وجهه أحمراً ملتهباً والعرق الغزير يغرق وجهه ويبلل صدره.. كلا.. إنه ليس عرقاً..إنها دموع.. دموع خوف ورجاء وتوسل.. إنه يبكي ولا يدري علام يبكي.. إنه في قمة معاناته النفسية.. في قمة عقدته ومأساته..
رأيت شقيقته إلى جانبه تبكي وقد مسكت بزجاجة دواء أخفتها بين طيات ثيابها..
أشارت إلى الزجاجة بحزن قائلة:
ــ إنه يحاول الانتحار..
التفت بغتة لي.. والتقت عيناه الخائفتان المهزوزتان بعيني الثابتة القوية.. ركزت نظراتي في عينيه وكأنني أثبت له بأنني رأيته في هذه الحالة..
وهذا شيء معروف في الطب النفسي.. فكثير من الأخصائيين يحاولون الوقوف على نقطة الضعف التي تمر بمرضاهم.. يحرصون أن يروهم في تلك الحالة وأن يتأكد المريض بأن الطبيب قد رآه في حالته تلك، وهذا هو الأهم كي يستسلم المريض تماماً لطبيبه، ويساعده ذلك على دفع العقدة التي تحتل عقله الباطن إلى التحرر، فتطفو على السطح ليعيها العقل ويشعر بتفاهتها وبساطتها فيحل السلام الداخلي ويشفى المريض..
وقد حققت هدفي رآني خالد وقد رأيته وهو في قمة عجزه وضعفه ومرضه..
اكتفيت بهذا وقلت له بصوت آمر:
ــ اليوم الساعة الخامسة عصراً..
أشار برأسه علامة الموافقة دون أن يتكلم.. خرجت إلى الصالة واجهتني الأم حزينة ملتاعة.. قالت لي ودموعها تلهب خديها:
ــ أرأيت يا دكتورة.. لا فائدة.. أنه يحاول الانتحار مجدداً، ولكن حمداً لله أنني أنقذته قبل أن يقتل نفسه بتلك الأقراص..
سألتها بهدوء:
ــ ولكن ماذا حدث؟.. لماذا حاول قتل نفسه هذه المرة؟
نكست رأسها بخجل وهي تقول:
ــ أعذريني يا دكتورة فبعد حديثنا مساء أمس.. خفت أن تفاجئيه بحقيقة حالته كما أخبرتيني، فيحدث له شيء لا قدر الله.. فحاولت التمهيد له بنفسي..
وحينما رأت علامات الاستياء على وجهي أردفت بسرعة:
ــ ولكن صدقيني يا دكتورة.. لم أتطرق لتلك الحادثة لا من قريب ولا من بعيد.. فقط اجتمعت به وبأخته وحاولت الحديث معهما عن الذكريات القديمة لحياتنا في منزل أبيه ولم ألحظ عليه سوى الانزعاج فقط لا غير..
دكتورة أرجوك ألا تحكي له شيئاً عن تلك الحادثة فربما يقتل نفسه بالفعل.. إنه لا يحتمل شيئاً.. صدقيني.. إنه لا يحتمل..
امتدت يدي لتربت على كتفها بحرارة وأنا أهمس:
ــ اطمئني يا أم خالد.. لن أفعل شيئاً يؤذي "خالد" على الإطلاق.. أرجوك أن تطمئني لكن لا تحاولي نبش الذكريات معه من جديد.. أرجوك..
وخرجت بسرعة.. لكنني لم أستطع إغماض عيني كعادتي في القيلولة.. مئات الأفكار تجول برأسي لم تكن تحيرني مقارنة بزوجي الراحل حسن، فقد محوت كل هذا من عقلي وقلبي ولم أعد أفكر بهذا الموضوع على الإطلاق..
كان ما يحيرني ويشتت تفكيري هو هذه العقدة التي تمكنت من خالد ومضت كالسوس تنخر في نفسه حتى لتكاد تقضي على حياته..
هل سيتحمل مواجهتي له بالحقيقة أم سيجزع ويهرب؟ ولكن أين؟ لينتحر مرة أخرى.. لا.. لن أسمح بهذا.. سأدعه هو ينطق بها.. هو من سيحكها لي لا أنا.. هو من سيتعذب بالحروف قبل أن ينطقها.. وعندها إن شاء الله سيشفى..
~
المقطع الأخير من القصه
استقبلت خالد كعادتي كل يوم.. ولكنه هو لم يكن كعادته دائماً.. كان مطرق الرأس بخجل والاصفرار يكسو وجهه بلمحة من حزن.. حزن صارخ يملأ وجهه وتفيض بها عيناه.. انه لا يحتمل كل هذا الألم.. يا إلهي إنه يتعذب..
ابتسمت بوجهه وأنا أقوده إلى مقعده المعتاد..
نظر إلي بعذوبة وغشاوة من دمع تكتسح عينيه السوداوين..
قلت له بهدوء ووجهي لا يبدو عليه ما يعتمل داخل نفسي من اضطراب شديد..
ــ خالد.. نحن لم نتحدث عن طفولتك.. فماذا تتذكر منها؟
ألقى برأسه إلى الوراء وهو يقول:
ــ كنت أعود من مدرستي حزيناً مكتئباً فقد كا.....
قاطعته بحسم:
ــ أقصد قبل ذلك.. مرحلة ما قبل المدرسة.. طفولتك الأولى إلى جوار والدتك في البيت.. كيف كانت تعاملك.. وألعابك في البيت..
قبض على رأسه بعصبية وكأنه يعتصره.. ثم قال بنفاذ صبر:
ــ كلا.. لا أتذكر شيئاً عن تلك المرحلة على الإطلاق..
ركزت عيني في عينيه وأنا أقول:
ــ ألا تتذكر أبداً.. والدتك وحبها لك كيف كانت تلاعبك بحنان..
ابتلع ريقه وهو يهمس:
ــ نعم.. أمي كانت تحبني كثيراً.. وكانت تلعب معي دائماً.. ربما أكثر مما كانت أخواتي يفعلن معي..
وصمت.. ولم يقل شيئاً آخر..
أعدت عليه السؤال بصيغة أخرى:
ــ ووالدك ألا تتذكره.. كيف كان يعاملك وأنت صغير.. هل كان يحنو عليك أم كان يضربك بقسوة؟
قال بخشونة:
ــ كلا.. أنا لا أتذكره.. لا أتذكر أي شيء على الإطلاق.. اقتربت منه وقد أصررت على ملاحقته قائلة:
ــ تذكر يا خالد.. كيف كان بيتكم القديم.. الفناء الواسع وشجرة التين العتيقة.. حجرة الألعاب.. كما كنت تسميها.. هل تتذكر يا خالد؟
بدأت أنفاسه تعلو وتهبط والعرق يتفصد من جسمه بغزارة.. هتف بيأس:
ــ كلا.. لا أتذكر..
لاحقته هامسة:
ــ وحجرة نوم والدتك.. الغطاء الأزرق الملون.. والمطبخ.. هل تذكر المطبخ يا خالد..
صرخ بقوة:
ــ لا.. لا..
اقتربت هامسة:
ــ تذكر يا خالد.. والدك.. والمطبخ.. وأمك تبكي..
نظر إلي بجنون وهو يهتف:
ــ نعم أراد والدي أن يقتلني.. إني أتذكر بوضوح وهو يمسكني بقوة ليغرقني بالبنزين.. أتذكر وهو يحاول قتلي بالسكين.. وأمي تبكي.. وهو يهدد ويتوعد.. نعم أنا أتذكر كل شيء الآن..
صمت فجأة ثم أسرع نحو فتاحة الورق وهو يهدد بقوة:
سأحقق رغبة أبي.. سأقتل نفسي، فأنا غير مرغوب في وجودي.. لا أحد يريدني.. لا أحد يريدني.. أنا تعيس جداً، وسأنهي حياتي بنفسي لا بيد والدي..
وسبقته إلى الفتاحة لأخفيها بدرجي وضغطت الجرس لتسرع الممرضة بالحضور.. فأطلب منها حقنة مهدئة.. لأحقنه بها.. وما أن استلقى خالد على الأريكة وهو يلهث وكأنه قد عاد من رحلة قطعها ركضاً، حتى غامت عيناه بتأثير المهدئ.. وأحسست بالهدوء الشامل يلفني..
فعلاً لم أتوقع ثورته تلك.. ولم أضع حساباً لرد الفعل العنيف الذي تلقيته.. ولكن حمداً لله.. فلقد مرت الأزمة بسلام..
وبعد فترة لا أدري كم طالت.. فتح خالد عينيه.. ابتسمت له وبادلني الابتسام بهدوء.. قلت له بفرحة لم أستطع كتمانها..
ــ ماذا تشعر الآن يا خالد؟
قال وابتسامة هادئة تلوح على محياه:
ــ لقد أدركت يا دكتورة كم كنت شقياً فيما مضى.. فلم أكن أرف أن لهذا الحادث الأثر الكبير في حياتي.. ولكنني كنت قد نسيته.. فعلاً نسيته ولم أعد أذكر منه شيئاً على الإطلاق..
ولكنني الآن فهمت كل شيء.. فهمت سبب عذابي ومرضي ومحاولاتي الانتحار..
قلت له باسمة:
ــ أفهمت كيف أن محاولة والدك لقتلك وأنت طفل قد تسربت في عقلك الباطن، لتهرب منها وتنساها.. ولكنها لم تنساك، مضت تنغص عليك عيشك وتدفعك دفعاً لقتل نفسك مدفوعاً بإحساس إنه لا أحد يرغب بوجودك، وأن والدك بنفسه قد حاول قتلك.. فماذا عن الناس؟
ولكنني سعيدة لأنك فهمت كل شيء وأدركت كل شيء ومنذ الآن ولاحقاً أنا مطمئنة عليك..
قال وقد استعاد ثقته الكاملة وفي نفسه:
ــ الفضل لله ثم لك يا دكتورة.. ولكن ألن تعاودني تلك النوبات مرة أخرى؟
ابتسمت له معززة ثقته بنفسه وأنا أقول:
ــ اطمئن بإذن الله لن ترى شيئاً من ذلك.. لقد ولدت من جديد يا خالد.. وبإمكانك الآن مغادرتي مصحوباً بالسلامة.. إلى اللقاء يا خالد..
تردد برهة.. أحسست أنه يريد أن يقول شيئاً، ولكنه لا يستطيع.. قلت له مشجعة:
ــ خالد.. لا تتحرج من إلقاء أي سؤال.. فثق ثقة تامة أنك قد شفيت تماماً.. ومن حقك أن تسأل أي سؤال بشأن حالتك السابقة..
نظر إلي نظرة تفضح ما تضطرم به أعماقه.. أبيت أن أصدق ما وشت به عيناه.. أشحت بوجهي لأسمعه يقول لي بصوت متلجلج:
ــ ألن أراك مرة أخرى.. يا.. دكتورة..؟
قلت دون أن ألتفت إليه:
ــ لن تحتاج لي بإذن الله.. أنت الآن رجل كامل وأمامك المستقبل كله.. أتمنى لك حياة سعيدة..
مضى إلى الباب متثاقل الخطى.. ثم وقف فجأة..
تناهى إلى سمعي صوته المعهود:
ــ هل.. أقصد.. هل تسمحين لي بأن أزورك لاحقاً؟
رباه.. أن صوته قد أيقظ في نفسي كل شيء.. الحنين والحب والتعاسة.. سأقاوم حتى آخر رمق.. ان تهزمني لحظة ضعف.. إن شعوره طبيعي كمريض يتعلق بطبيبته.. ولكن ماذا عني أنا؟
الطبيبة المحترمة التي تفضل مصلحة مريضها على أي شيء في الدنيا.. حتى ولو كان في هذا تحطم لقلبها ومشاعرها..
قلت بخشونة تعمدتها وأنا أتظاهر بانشغالي بأوراقي:
ــ إن وقتي ضيق.. مع السلامة يا خالد..
صفعت أذني كلماته الأخيرة:
ــ مع السلامة.. الوداع يا دكتورة..
وانهرت على مكتبي في بكاء مرير.. لقد انتهى الحلم الوردي الذي عشت فيه أشهر طويلة من الفرح الممزوج بقلق وانتظار.. انتهى الفرح.. ووقف القلق.. وبقي الانتظار!!
تمت........................
تجميع زهور حسين
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك