بارت من

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -165

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي - غرام

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -165

سلطان يقرأ عيناها الجريئة المتحديَة التي تُثبتها بلا تردد في عينيْه، هُناك شيء تُريده أن يصِل إليّ بنظراتها، أنا أفهم جيدًا عيناكِ الغاويَـة.
الجُوهرة بصوتها التي جاهدت بأن يتزن : هالمرَّة وش غلطتي اللي بتعاقبني عليها يا بابا ؟
لا يتحرَك، كلماتها تعبره ببرودٍ تام، مندهش/مصدوم.
الجُوهرة تشعرُ بأنها تغصّ بالهواء : ممكن تبعد؟
سلطان بنبرةٍ تُخفي تجوفًا بركانيًا : مين بابا ؟
الجُوهرة بدأت أصابعها تنغرز في الأريكَة بتوترٍ عميق لتُردف بإصرار : ممكن تبعد؟
سلطان بحدَّةٍ كبيرة : منتِ قد الكلام؟
الجُوهرة بإستفزاز تنظرُ إليْه بعينيْن تتشكَّل من البرود : ممكن تبعد؟
سلطان إبتعَد بخطوتيْن إلى الخلف لتقف وهي تُعدِّل بلوزتها الناعمة، نظرت إليْه بنظراتٍ متهمَة تُشعل به نارُ الضمير، لوت فمِها جانِبًا بضيق، لتقترب منه حتى ألتصق بطنها ببطنِه، رفعت عينيْها إليْه بتحدي : تعرف وش مشكلتي معك؟ أني يوم دعيت الله يهديني! كنت الضلالة في عيني . . . حاولت أن تتجاوزه وتخرج ولكن يدِه إمتدت لتمنعها، سحبها حتى أرغمها على الوقوف بأطرافِ أصابعها، وضع ذراعه خلف ظهرها ليشدَّها نحوه، وبإجابة أرجفتها : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
هرولت حُمرة الخجل في جسدِها بأكمله حتى وصلت لعينيْها التي ضاقت بالملح، بلعت غصَّتها من جوابٍ أفحمها، أسقط حصُونِ قوَّتها، جواب أسكتَها حدُ اللاحديث بعده، شدَّها أكثر حتى شعر بنبضات قلبها الملتصقة به، تألمت من الوقوفِ على أصابعها حتى تجارِي طُوله، تألمت من قلبها الذي بدأ ينبض في كل جزءٍ بجسدِها الغضّ.
يُكمل بإبتسامة تهزم كل محاولاتها في إستردادِ قوّتها المندثرة بحضرته : اللي ودَّه الضلالة ما يدعي بالهدايَة!
لوهلة شعرت بأن جسدِها عبارة عن دماء/ماء لا شيء آخر، ترتخِي بقبضة يدِه كقطعة صلصال يُشكِّلها كيفما يُريد، تلألأت عينيْها بتجمع الدموع في غيمِ محاجرها.
أرتفعت أنفاسها وكأنها للتو خرجت من معركةٍ حاميَة، في لحظةٍ كان هو يشعرُ بزلزالٌ يضربُ بصدره الذي يعلُو بشهيقٍ وينزلق بزفيرٍ مضطرب.
كنت أظن أنني أنتصرت عليك بجملةٍ خافتة من حقَّها أن تُزلزل ثقتِك بحُبي، كُنت أظن ذلك حتى سلبت منِّي حق الإنتصار وهزمتني بآية عظيمة من كتابٍ عظيم، أنا حزينة! من الأشياء التي صيَّرتها ضدِي، من صوتي المتخشِّب بإستجداءاتِ الهوى، من البياض الفاترُ في عينيّ، من طعم الدماء المترسبـة في فمِي، من صوتُك الذي ينزلقُ ويسلب سَلام قلبي، من عينيْك ونظراتها التي لا سلطة تعلوها! ماذا بقيْ يا سلطان لم تهزمني به؟ هذا وأنا لم أرفع الرايات البيضاء!
ضاق صوتُها بكلماتٍ جافّـة خدَشت حوَّاف حنجرتها : لعلمك هذي الآية نزلت في المنافقين.
سلطان : وش الشي مشترك بينك وبينهم؟
ارتجفت شفتيْها برجفةِ فكيّها، طلَّت على عينيْها دمعة حجبت عنها عينيْه : وش قصدِك؟
سلطان بإستخفاف : يُظهرون خلافِ ما يبطنون . .
تجعَّد جبينها بتعرجاتِ عروقها الغاضِبـة، عضّت على شفتها السفليَة حتى تُخفي ربكتها، أبعدَت أنظارها عنه لتسقط برمشتها دمعة فاضت بإنهزاميـتها.
سلطان يجهل ماذا يُريد من إستهزاءه : لِك حق الإنكار!!
رفعت عينيْها مرةً أخرى إليْه، أشتعلت بغضبٍ صيَّر ملامحها الناعمة لحدَّةٍ تُشبهه، بين أنفاسها التي تعتلي بإضطراب : لا بارك الله في ليلٍ جابك بطريقي . . . نفذَت من يديْه لتتجه نحو الباب، تبعها ليسحبها بشدةٍ حتى ثبَّت كتفيْها، تألمت من ظهرها الذي ضربه بالجدار، لهثت ليسحب كل الهواء من رئتيْها بقُبلة عنَّفت شفتيْها الناعمتيْن، أغمضتْ عينيْها أمام عينيْه التي أطبق جفنه عليها، إلتفت يدها الرقيقة حول رقبته وهي تغرقُ به، كالفضاء أتأملُك وأرغبُ بِك. صعِدت ملامحها لأعلى سقفٍ من اللاشعُور، لولا دمعتُها التي نزلت في قُعرِ إلتحامهما، لا تتراجع الحياة عن إذلالي، مازلت يا سلطان تُمارس سطوتك عليّ وساديـتُك التي لا تنتهي، أحاط ذراعه خلف ظهرها ليشدَّها نحوه أكثر، أفرغ غضبِه منها بحدَّةِ قُبلتِه، تستطيل اللحظات بمرورها حولهما بعد أن تلاقت أجسادهما بجسرٍ (شفتيهما)، بجسرٍ يحملُ هواءٌ خالِص من رئتيَّ على ضفتِها نهرٌ من الهوى/الجوى، وضع يدِه اليمنى خلف رأسها وأصابعه تُخلخل شعرَها في وقتٍ كانت ذراعه اليسرَى تُحاصر جسدها بحصارٍ متين، إبتعد قليلاً دون أن ترتخي قبضة يديْه، لم يفتح عينيْه للحظاتٍ طويلة أستمر به صدره في علوٍ وهبوط مُتذبذب، أرتخت يديْه ليبتعد بخطواته ويُعطيها ظهره، مسح وجهه بكلتَا يديْه دُون أن ينطق كلمة.
لم تحتمل قدماها ذبذباتِ الثباتِ من تحتها، سقطت على ركبتيْها على رخامٍ بارد، أخفضت رأسها لتسقط بفخِ بكاءها الذي لا يتركها تُكمل السير وتُكابد من أجل الحياة، وصله أنينها كغزوِ قبائلٍ على صدرٍ خوَى، لم يلتفت بقيَ ينظرُ لإنعكاس الجدران لظلاله، عقد حاجبيْه ليرَى ظلها الذي يُرتب نفسه ليقف، بغضبِ الناعمات وحسرة بكاءهن، بشدَّةِ أسنانها التي ترتطم ببعضها البعض : أكرههك! أكره هالحياة اللي مخليتني أنتظر حظي معك! أنا ماني جارية عندِك! مالك حق تستعبدني بهالطريقة! . .
بعلوِ نبرتها صرخت، كثقبٍ في نهرٍ أخطأ الوِجهة وصبّ في عينيْها : لما أكون معصبة ومتضايقة لازم أروق لأنك تبيني أروِّق! ولما تكون معصب فلازم أعصب معك! . . ولا مرّة حاولت تراعي شعوري! تضرب وتمّد إيدك كأني . . مافيه شي يوصف تصرفاتك معي! مافيه شي يوصفك يا سلطان! . . . أناني ما يهمك الا نفسك! ما يهمك الا مزاجك! . . . . اليوم بس تأكدت أني مهما حاولت هذا قضائي وهذا قدري! . .
ألتفت عليها بعُقدة حاجبيْه، و صدرُه يلتهِب بنارٍ شاهِقة، نظر لعينيْها المتلألأتيْن كخرزتيْن مُضيئتان في نهرٍ جارٍ.
الجوهرة : ذليتني وأوجعتني كثيير! سكت مرة ومرتين وثلاث بس إلى متى؟ حتى لما أكون بحالي بعيدة عنِك تجي وتكرِّهني في عيشتي . . قراري ماراح أرجع فيه! أنت ما تقبل على عمتِك أنه زوجها ما يحترمها! بس تقبل أنك تهيني!!! . . ماراح أجلس عندك عشان تستخف فيني كِذا!
سلطان بلل شفتيْه بلسانِه ليُردف بحنق شعر به أن لسانِه ينثني عن الحركَة بإعوجاج : و لِك اللي تبين . .
الجوهرة بلعت ريقها بصعُوبة لتُردف برجفةِ اهدابها : يعني ؟
سلطان : تبين ننفصل أبشري . . أنا بنفسي أتصل على أبوك وأبلغه، عشان تكسبين إحترام نفسك اللي على قولتك فاقدته عندي!
الجوهرة تيبست قدماها لتشدّ على شفتِها السفليَة ودموعها تتساقط بلا توقف، أنهار كل جزءٍ بجسدها بمحاولاتٍ بائسة أن تقف أمامه بثبات.
نظرتْ إليْه بعينيْن مُضيئتيْن تجرُّ القناديل حتى احترقتْ، اكتظّ زُحام الدمع حتى انتزع وسقَط، جرَى النهرُ يا سلطان وصبَّ فوق خدِي ولم تستطع أن ينجح حدسُك بأن يفهم ما تَشِي به عينايْ، كتمت أنفاسها لتحبس نحيبها، في لحظةٍ كانت عيناها تُكابد من أجلِ الصمُود، خذلتها قوتها الصغيرة في الثبات/الإتزان، بلع غصتـُه لتتجمَّد عيناه بإتجاهها، لا شيء مفهُوم هنا.
عقَد حاجبيْه بعُقدةٍ أسقطت اللوعة في قلبه، وماذا يعني أن نفترق؟ أن تخطُو قدماكِ دُون أن أظللها، أن تُراقبي هفواتِ الزمن دُون أن أصحِّح مسارها بإتجاهك، أن تنشطِر المسافات بيننا لتُطوى بحواجزٍ شاهقة، أن لا نتشارك الطاولة نفسُها، أن لا ننام على الوسادة نفسها، أن ترفع الشمسُ خمارها قبل عينيْك، أن تندلعُ في جوفي الكلمات ولا تصِل لصوتي، أن يبهت العالم في عيني و نفترق.
هرولت الرجفة بأطرافها لترفع عينيْها الباكيَة إليْه، إلتقت به بنظرةٍ ذابلة، مازال طعمُ قبلته في فمِي، مازالت أوردتِي منتشيَة به. آمنتُ والله أننا كاذبات مُغفلات لا نلتفت ولا لمرَّة لأنفسنا، نحنُ النساء اللاتي لا يعرفن إختيار مصيرهن، اللاتي يخجلن من قول الحُب وفعل الحُب و نسيمُ الصبح إن أتى كبرقيَةِ حُب، نحنُ الصامداتِ من أجل عزة النفس والجبانات/الذليلات من أجلِ الحُب، لِمَ على كُل حال ننادي بالسعادة؟ لِمَ نطلبها ونحنُ في أول إنحناء لها تركناها! تركتها يا سلطان للحياة التي تقتصُ مني كل يوم، وكل ساعة ولحظة، الحياة التي تغرز أظافرها في حنجرتي وتقتلع صوتي من محجره، تركتني حُرَّة حين طلبت الإنفصال! خذلتني كل الأشياء بما فيها صدرُك الفسيح، ولكن في البُعد لم يخذلني أحَد، حتى صوتي أتى أكثرُ إتزانًا.
أتسمعُ رعشة قلبي؟ أتصِل إليك حسرة حواسي؟ ببساطةٍ أكثر أقول لذاتي " أنا أستاهل لأني ولا مرَّة عشت لنفسي، ولا مرَّة حاولت أكسب نفسي، أنا أستاهل لأني دايم أحاول أدافع عن نفسي اللي أصلاً يئست منِّي، أنا ضايعة! لأني تخليت عنك، يعني خلاص؟ خذني لآخر مدَى وقُول أنه كذب! كل هذا كذبْ، أعتذر عشان أعيش! عشان ما أحس بالإذلال! اعتذر وراضيَة، راضيَة بِك "يا سلطاني"
سلطان بإنكسار واضح في صوتِه الضيِّق، اغدقت في تفكيرها وصمتها ليقطعه : لا تقولين ما حاولتْ! أنا حاولت لكن . . ماعاد ينفع! المُشكلة ماهي فيك! المشكلة اننا جلسنا سنة وأكثر مو قادرين نتجاوز هالشي! كيف نتجاوزه؟ كيف نبدأ صفحة جديدة؟ . . ما نقدر! لا أنا أقدر ولا أنتِ تقدرين!!! بس . . أنا
شتت نظراته بعيدًا عنها عندما رأى دمعتها كيف تصمدُ في هدبها قبل أن تسقط بإنصياع للحزن، ثبتَّ أنظاره للطاولة التي امامه ليُكمل بتنهيدة تهزم البدايات والنهايات وما بينهما : للحياة تركتك.
الجُوهرة بنبرةٍ مالِحة: لله يا سلطان.
دارت عينيْه إليْها، اعتدتُ الوجَع وَ إيماءاتِ الوداع، اعتدت أن أكون الخاسر في الحياة ولا أسفٌ عليّ، وعلى الرُغم من هذا أنا لا أتقبَل خسارتي معك، لا أتقبَّل الخدش أسفل جلدِي إثر الدماء النافِرة من جسدِي، كل ما يُحطّ ويصب ينفرُ مني في اللحظة التي أريد ان أفصل ما بيننا، آمنت والله أننا وُجدنا للنصف وأن الوَجع قدرٌ كُتِب علينـا، آمنت يالجوهرة أن لا نهايـة سنصِل إليها ولا بدايـة يُمكننا الرجُوع إليْها، آمنت أننا معلقيْن لا نهزم أحدًا ولا ننتصر أيضًا، تعالِي! أسكني فيّ، لم تجيئي وحدِك، أتيتِ كقبائلٍ نصبَت خيامها في صدرِي، سحبت من أرضي ماءي ولم يبقى لي ماء! لم يُصلي أحد الإستسقاء من أجل قلبي، أنتظرتُ كالمساجد الشاهقـة الخاويـة سجدةُ مصلِّين، أتيتِ سماءً واسعة حجبت الغيم والمطر، أتيتِ جفافٌ صبَّ في عُمرٍ يابس نحيل، أتيتِ راكِضة في زمن توقّف عند عتبة الحياة، أتيتِ جذعٌ فقير هزتـهُ الريح وأنغرز في صدرِي كوَسمٍ باقٍ لن ينتهي، أتيتِ يالجوهرة وعيناكِ ليل طويل، وأنا لم أبرأُ بعد من ذنب النهار.
لم تحتمل عيناه المتحدثة بإنحناء الحزن في إنكسارٍ كُلِّي، يالله! أنا التي لم أدعُو الله طوال السبع سنوات من أجل السعادة والفرح والحياة، أنا التي ضللت أردد أغفر لي يا رحمَن، أنا التي خجلت أن أطلب منك يالله الفرح وأنت سترتني بعظيم لُطفك، أنا التي قضيْت أيامًا لا يجيء على لساني سوى " رحمتك لقلبٍ أمتلأ بك يالله " ، إني أسألك يالله في هذه اللحظة، إني أسألك يارب الكلمات و الوجَع، يارب الرحمَة والعطف، يارب حُزننا وفرحنَا، يارب قلبِه أعطف عليْ، ردني إليّ، للصبيـَة الناعمة التي أودَعت في صدرها حُبك، التي كتبت مذكراتها بنشوة الصِبـا، رُدني لقلبي قبل 7 سنوَات، قبل أن أموت في متاهات الدنيا المُذلة، قبل أن يعصفُ النسيم الرطب ويصبح ريحًا شديدة، قبل أن تصبح يقظتي كابوسًا ومنامي سوادًا، رُدني يالله لنفسي إني أخافُ يومًا يبكِي البُكاء من نفسي. يا لوعة الحُب الشديدة أسكني فيّ إني أرغب بحملك في شراييني للحياة التي تركتني من أجلها، إني أمرض بك ولا أسألُ من الله الشفاء، أريدك طريًا في دماءي، في ذاكرتي، في حياتي يا كُل حياتي.
لاحت لوعتُها في أنينٍ مرتجف، بكَت بعُمق الحزن في صدرها، بكَت بعُمق الجرح في صوتها، بكَت من الماضي الذي كان له سلطته في حاضرها، بكَت لأن الموت ثابتٌ في قلبها.
سلطان أغمض عينيْه للحظاتٍ طويلة حتى يسحبُ هواءً نقيًا لرئتيه التي ازدادت ضيقًا، لا مفَّر منكِ يا شديدة الطفُولـة والبياض، يا أنثى هزّت تاريخ الإناث برنةِ خلخالها، ليت ما كان لم يكُن وليتني استطع قول ما كان.
نظر إليْها بنظرةٍ خدَّرت الهواء من حولها حتى إمتلأ جوفها بالعدَم/بالفراغ.
بقسوة لسانه يُصادق على قولها : لله يالجوهرة . . . خرَج بخُطى مبعثرة ليفتح أوّل أزارير قميصه العسكري بإختناق، دخل لمكتبه المنزوي في عُتمة لا يخدشها سوى ضوء بسيط نافذ، رمى سلاحه على الطاولـة ليجلس بغضبٍ يتضح في ملامحه السمراء، شدّ على قبضة يدِه ليضربها في حافة الطاولة، مسك رأسه بوَجع من صُداع لا يدع فرصة شماتته تذهب، أنحنى بظهره قليلاً ليثبت جبينه على المكتب وعيناه تنظرُ للرخام، عوِّضنا يا كريم، أنا وقلبي.
غطّت ملامحها بكفيّها، أشعرُ بأني احتضر، أغيبُ تمامًا عن وعي الحياة، لِمَ طلبتُ منه؟ لِمَ اعيش في هذا التناقض! لم يبقى بيْ عقل يتجاوز كل هذه التناقضات التي تُعشعش فيّ!! لا أحتمل يومًا يأتِ لا يجيءُ بِه، لا أحتمل! يالله فحُبه تمكَّن مني حتى آخرُ خلية في جسدي، انسني حُبه يا رب قلبي وقلبه، انسني عيناه الساهرة في ظلالِ منامي، انسني كلماته التي عقدها فيّ، انسني من حياتي حياتـه.
،
وقف بضياعٍ تام، عقله لا يفهم إلا جملة واحدة " غادة لم تمت بالحادث " ، جُملة تسحب كل ذرة أكسجين من الهواء المُحيط به، سقطت كل ألوان الحياة من أمامه حتى أصبحت سوادًا ولا غيرُ ذلك، ما يحدُث أيضًا مدعاة للسخريَة! لأن الحياة لم تكُن يومًا منتصبَة في باقة ألوان، دائِمًا ماكانت تُعطيني ظهرها الشاهق، أنا لا ألوم أحَد، ألوم نفسي التي واصلت تصديقها لأشخاص لم أكن يومًا على محمل الأهمية بالنسبة لهم، ألوم نفسي التي صبَرت بفُرصة أن يكُن نهاية صبرها إنشراح وفوز! ألوم نفسي للرجس الذي أعمل به، ألوم نفسي وساخطٌ عليها لأنني مازلت بقربهم، مازلت معهم! غُفرانك يالله على ما فعلته وسأفعله، لم أكن يومًا صالحًا بما يكفي حتى أتعلم التجاوز والعفُو، لم أكُن شيئًا طيبًا بما يكفي حتى ابتسم بوجه المصائب، حاقد! ولن أُخفي حقدي من أجل الأخلاق والشيَم، لن أخفي لوَعتي بالحياة من أجل أحد. هذه المرَّة و رحمةُ الله لن أرحم نفسًا أوجعتني، لن أرحم نفسًا أضعفتني! لن أرحمهم!! سأقتّص منهم واحدًا واحدًا ولو كان ذلك على سبيل خسارة قلبي/حياتي، كان لزامًا عليّ أن أفهم هذا مُبكرًا أنني لا أستقيمُ مع هذه الحياة مهما بذلت من جُهد، ولن أحاول ولا للحظة أن أستقيم.
عاد بخُطى تائهة حائرة للخلف ليصطدم بحافة السرير، دارَ بهِ رأسه كما تدُور الحياة بعينيْه، اسنَد ذراعه على التسريحة بمحاولةٍ جادة أن يتزن، ارتفع الضبابُ لعينيْه حتى أختفت الرؤية تمامًا، شعر بحُرقة تسيلُ بأوردته، وضع يدِه تحت أنفه لينظر لظاهر كفِّه المُبلل بالدماء، عقد حاجبيْه بجهلٍ لمصدر الدماء، لم يحاول التفكير بشيء غير الكلمات التي قرأها، كما السكين تُزهق الروح أيضًا الكلمات، من يستوعب هذا الحديث؟ لم يتبقى بيْ عقل لأستوعب، هل هذا إبتلاء يالله أم عقاب؟ أين هي الآن؟ من المستحيل أن يفعلها بي ناصر! أم ماتت بعد فترة من الحادث؟ . . شعَر بغصة تقف في مجرى تفكيره، جفَّت عيناه وترسَّبت بالملح، لا دمعةٌ تسقط تنقذ الموقف المُزرِي ولا دمعةٌ تربت على خدِه، ولا دمعةٌ تشفق على إنهزامه، لا دمعٌ يسيل! لكن القلب كيف يسكُت؟ كيف يصمد ولايبكِي؟ ، ينظرُ بتجاهل شديد للدماء التي تتدفق من أنفه، لم تحتمله قدماه حتى سقَط على ركبتيْه، نظر للصور المتناثرة على الأرض، لعينيْها التي تُشبهه، لملامحها الباهتة، تفتقدني أيضًا؟ تشعرُ بيْ؟ كُنت تجيئين في منامي بصفةٍ وحشيَة حتى ظننتُك تتوجعِّين من التراب، ولكن كُنتِ تتوجعِّين من هذا العالم، تتوجعين منهم يا "رُوحي"، وضع يدِه على جبينه يحاول أن يثبِط هذا الدوار الذي يُصيبه، أدرك بأن ضغطي ينخفض الآن، أعرفُ جيدًا ما يُصيبني، هذه الأعراض تشمتُ بي في كل مرة أتنفسُ أملاً، أنا رجلٌ لا أصلح للهدنـات، للأماني والأحلام الصغيرة، أنا رجل لا أصلح للحُب والأيام الجميلة، أنا رجلٌ كسرته الحياة مرَّة وكسَر معها حياته و محتواها، البرودة تحتبسُ أسفَل جلدي وبقايَا الماء في جسدِي يتسامى حتى حجَب الوضوح عن عيني، هل هذه أعراضُ صدمَة؟ مُعاذ الله أن أكون مصدوم كل ما في الأمر أنني لم أتوقع أن تأتِ مُزحة الحياة بهذه الجديّـة القاسية.
تحامل على ألمه ليسحب نفسه قليلاً حتى يأخذ الصورة بيديْن تفقد قدرتها على الإمساك بثبات، كل طرفٍ به يرتجف، نظر لغادة بشوق عظيم رُغم رؤيتـه الشبه معدومة في هذه الثانية المرتبكة، سعَل بذبُول كُلِّي.
" اشتقت! يا عذابي في الصور وضحكات الصور! يا عذابي وش بعد باقي ؟ وش بعد يا غادة؟ ماطِبتْ! كيف أطِيب وأنا من عشمني في الوفَا غدَر! كيف أطِيب وأوفى من بقى لي خان! ما عاد ليْ حق أسأل – ليه ؟ - ما بعَد ناصِر سؤال. "
سقطت الصورة بين أصابعه التي ارتخت، أشتعل صدره بحقد،بغضب،بشحناتٍ هائجة، بشتاتٍ تكدَّس بصوتِه، سمع ضربات المطر على الأرض، ليقف وهو يسندُ نفسه على الجدار، إتجه نحو الحمام ليغسل وجهه بشحُوب، أغرق ملامحه لينظر لنفسه بالمرآة، لم أكن بهذه الصورة أبدًا! في حياتكم لم ينزف أنفي ولا مرَّة، لم تتحرك مساراتُ حنجرتي لتسَّد مجرى تنفسي، لم أضيع ولم أتُوه قبلكم، هذه الحياة بعدكم خراب! ولا تصلحُ ليْ على كل حال.
أخفض نظره قليلاً ليرفع عينيْه بإبتسامة مكسورة، جُننت! غادة مازالت الأرضُ تحمل أقدامها؟ أم أنا بدأت أتوهّم كلماتٌ مقتولة؟
عقد حاجبيـْه بشدّة، لا يفعلونها! لو أنني ألدُ أعدائهم لا يفعلونها بيْ! . . لا يفعلونها بإبن صديقهم.
بدأ صوتُه الداخلي يظهر، يُدرك بأنه واقع في صدمة شديدة ولكن مازال يُنكر، مازال يحاول أن يقِّر بوعيْه التام في هذه الأثناء، رُغم أن وعيْه غائب تمامًا في لحظةٍ انسلخ اللون من جلدِه وطغى الشحُوب، إنخفاضُ الضغط الذي يُداهمه ماهو إلا نتاج الصدمَة.
خرج من الحمام ليأخذ قارورة المياه ويفرغها بفوضوية في فمِه، حاول أن يسترجع بعض الطاقة المهدرة، لدقائق كثيرة بقيَ جالِسًا لا يُفكر بشيء ولا شيءٌ يأتِ إليه، وقف متجهًا للخارج، اقترب من نايف ليلفظ : ممكن جوالك شوي
نظر إليْه نايف بنظراتٍ مستغربـة : فيك شي؟ تشكِي من شي؟
عبدالعزيز : لا . . ممكن؟
نايف: إيه أكيد . . تفضَّل
عبدالعزيز أخذه ليعُود بخُطى متأرجحة مضطربة للداخل و المطرُ يُلامس جسدِه بلا شعُور يّذكر، فقد حاسيـَة الإدراك تمامًا. جلس على السرير، وضغط بأصابعه الباردة على رقمِ ناصر السعودي الذي يحفظه، ثوانِي حتى اتاه " مغلق " ، حاول أن يتذكر رقمه الفرنسي، بدأ يُخمن بعقله عدة أرقام يحفظ بعضها وبعضها يُجرب حدسه بها، جرَّب للمرة الأولى ولكن أتى " خارج نطاق التغطية " ، إختار التخمين الآخر ليضغط عليه، قرَّب الهاتف من إذنه لينتظر إجابته، تمرُ دقيقة تلو دقيقة ولا مُجيب.
: ألو
شعَر بأن روحه تخرج، تقتربُ من النفاذ للسماء، لا سياج يفصلها عن التسامي، عن العلوِ وتركِ جسده، اتسعت محاجره حتى اجتاحتها الحُمرة الكثيفة، ارتجف فكِّه بصريرٍ مؤذي، لا شيء طبيعي! وربُّ الكعبة لا شيء!!!!، كل الخلايا تندفع بإتجاه صدره الذي يعلو بإرتفاعٍ مضطرب.
كررتها مرةً اخرى بنبرتها العذبـة : ألو . . مين معايْ ؟
لا يُسعفه الصوت، يُريد أن ينادي! يُريد أن يبتهِّل صوته بإسمها ولكن حتى نبرته تُخذله، فوق وعثاء الحياة وحظِّها السيء معي! فوق كل هذا يُدير صوتي نفسه عنِّي، يارب لا تجعلني أتخيَّل صوتُها بهذه الصورة المؤذيـة، يارب أرجوك.
بخفُوت : ناصر نايم . . مين أقوله؟
هذا مالاطاقة ليْ به! كُنت أقول أن الحياة إن شاءت و وقفت ضدِي فناصر معي، ما يخُون؟ " خلِّي ما يخُون " ، هذه أنتِ يا غادة، كيف؟ رُبما أحلم! طبيعي أن أحلم.
بضجر لا تعلم لِمَ لمْ توَّد أن تغلقه، الأنفاس المضطربة التي تصِل إليها تُشغل عقلها : مين؟
لستِ حلم! أنتِ يقظة، بعد سنـةٍ كاملة و نصف السنـة أسمعُ صوتك يا غادة، أسمعُه يا " روح عزيز " ، ناديني من أجل الله، " اصرخي بعالِي صوتك، اصرخي لقلبٍ مات نصفه ونصفه ينتظر إحتضاره، اصرخي عشان أصحى لو كنتِ منام البائسين اللي أتعبهم حرث أرضٍ فاسدة، نادِيني!"
غادة بتوتر مستغربة هذا الصمت : آ آ
صوتي لا يلُوح لأحدٍ ولا لكِ يا غادة، تحبسُ الأشياء نفسها فيّ دُون أن تترك لي حق الرفض والقبول، أنا أسمعك! أقرأ صوتُك بخشوع، لكن لا أقدر على لمسِك على مُناداتِك، رُبما هُناك شيء يربطني بك ويُمكِّنك من سماع قلبي، رُبما. أثق بذلك ما دُمتِ لم تغلقي الهاتف إلى الآن، أنتِ تشعرين ولكن صوتي جبان، ما أمرُ به " جاثوم " الذكريـات، يهزمني صوتك يا غادة! أرجوك، أرجُوك، أرجوك لا تفعلي بيْ هذا! لا مجال بأن يخدعني أحدٌ آخر في حياتِك، لا مجَال أبدًا. " أنتِ حيّـة ؟ " أنتِ هنا، أسمعك.
: مع السلامة.
لحظة! . . صوتُك يا غادة لا يُغادرني، من يدلني عليك؟
. . . أغلقته دُون أن تسمع صوتـُه.
وقف بلا تركيز، تمرُ الدقائق بكثافةٍ عاليـة دُون أن يشعر بثانيةٍ واحدة، يترددُ بعقله صدى صوتُها و " ألو " التي خرجت من بين شفتيْها كحياةٍ جديدة، هيَ! والله العظيم هيَ. أذني لا تُخطىء! أذني تحفظ صوتُها كـ رقيةٍ على قلبي كل ليلة. و حسرةُ السنـة والنصف من يُشفيها؟ من يردّ ليْ أيامًا من عُمري تلحفها النحيب، هُم لا يدركون! لا يعرفون قيمة أن أخسر عائلتي! كيف قضُوا كل هذه الأيام ينظرون إلى عيني دُون أيّ خجل؟ كيف تجرأُوا أن يفعلوا بيْ أسوأ فعلٍ على مرِّ حياتي، لا أفهمهم! ولا أفهم دناءتهم! لا أفهم أبدًا كيف لهؤلاء البشر أن يبقوا على قيد الحياة وهُم أقل من أن يقال لهم أحياء، ضمائرهم ميتة وقلوبهم ميتة! وأنا أيضًا؟ من أجل هذه الحياة سأكُون أشدُ دناءةً منهم، والله لن يردني شيئًا، لن يردني خُلق تربيتُ عليه ولا شيء، هذه المرَّة أنا أريد ان أخسر نفسي وأخسر مبادئي، أريد ان أخسَر " عبدالعزيز سلطان العيد ".
أما أنت يا من ناديتُك " يبـه " وأنا استشعرُ طعم لذة الكلمة في لساني، ناديتُك بأبي وأنا أشعرُ أنِي إبنك، ولكنـك استغليْتَ حُزني على فقدي بمصالحك، نظرت إليّ كأنك تُشاركني المواساة في وقتٍ كنت تدرك بأن هُناك قطعةٌ مني تسير على ذاتِ الأرض ولا ألتقيها، كُنت تدرك بأن جزءً مني ينظرُ إلى ذاتِ السحابة ولا تُمطر عليّ ولا عليه، كُنت تدرك كل هذا وتركتني أحارب الحياة بمخالبٍ ملتويـة، كُنت تدرك يا " بو سعود "، أنا لن أشفق على أحد بقدر شفقتي على نفسي التي صدقتك، حسبي الله عليك وعلى الذين حسبُوا أن الحياة تُدار بتخطيطهم، لن يبرأ قهري منكم، لآخرِ لحظة في حياتي سأدعُو عليكم قولاً وفعلاً.
يُتبع
،
وضعت الهاتف على الطاولـة، بقلبٍ يُطلق علاماتِ الإستفهام، أثـارت أنفاسه الثائرة فضولها، وضعت يدها الدافئة على نَحرها، شعرَت بلوعةٍ تغصُ بها، جلست بمُقابل جسده الذي يغطُّ في سباتٍ عميق، بدأ عقلها بالهذيان.
رُبما عرفني! أو ارتبك من الصوت الغريب. رُبما كان مثل ناصِر يحسبُني غائبـة تحت التراب وتفاجىء بصوتي! لكن كيف ورقمه غير مسجل؟ هذا يعني أنه ليس من معارفِ ناصر. تنهدَّت بيأس لتنجذب لحركته الخفيفة، لميل رأسِه ناحيـة اليمين قليلاً، وقفت لتقترب منه، جلست بجانبِ بطنه، وفي داخلها سؤال واحد " من صاحب الأنفاس المضطربـة؟ "، كُنَّا شتاتًا وما زلنا! لا أحد سيشعُر بحجم حُزني لأن لا أحد سيفهم معنى أن تستيقظ عيناك ولا أحدٌ بجانبك، لا عائلتك ولا أصدقائك، لا أحد سيفهم معنى أن تنظر للسقف دُون أن يطِّل أحدٌ عليك، لا أحد سيفهم معنى أن تجلس على الطاولة وحدُك دُون أن تُذكرك أمك بالتسميَة، دُون أن يُصحح أبيك بعثرة خُطاك، لا أحد سيفهم معنى أن أشتاق لعائلتي بهذه الصورة المؤذيَة! هُم اللذين لا أعرفهم ولا يعرفوني، اللذين يحسبون أنني راضيَة بحالتي، أنني سعيدة بفقداني لذاكرتي/لحياتي، هُم لا يعرفون كيف أنني أنام على أملٍ ان أتذكر أيامُ أمي الأخيرة، وضحكات أبي المودِّعـة، هُم لا يعرفون كيف أن 5 سنواتٍ من عُمري تغيب عنِّي فجأة! أستيقظ وأراها تبخَّرت!!! لا أحد سيفهم معنى ان تكُون وحيدًا إلى هذا الحد؟ لا عزيز و لا هديل بجانبي، لا أحد. ردَّ ليْ يالله ذاكرتي وحياتي.
تبللت ملامحها بالدمع، " موحشـة الدنيَا بدونكم! " مسحت على جبينـه وهي تشعرُ بوجعه، بألمه، بحافةِ دمعه.
تحرَّك بإختناق دُون أن يفتح عينيْه النائمة، همست بالقُرب منه: ناصر
حرَّك رأسه للأعلى ليغرق بحلمه، أعلى معدلات اليأس/الذبول التي يصل بها الإنسان أن يشعُر بأن منامه واقع.
سقطت دمعةٌ احترقت بمحجرها، ادركت بإحساسه بها، وضعت كفَّها على كفِّه لتُردف : ناصِر
مازال مُغمضًا نائِمًا بسلامْ، يمرُ صوتها لحنَّا شجيًا، لانت ملامحه بإسمه الذي يعبر لسانها، أوجعها بتعابيره المبتسمة، أوجعها بأنه يعيشها " حلم ".
انحنت عليه وشعرُها يتجه نحو كتفها اليمين لينتثر بجهةِ واحدة كستارِ ليلٍ مظلم، بحزن: لا تسوي كِذا! . .
سالت دمعةٌ يتيمـة من عينِه اليسرى التي مازالت مُغمضة، مسحتها بكفِّها الناعمة لتُقبِّل جفنـه النائم دُون أن ترفع رأسها، ضعِفت كل قوَّاها أمام دمعته، تأكدت أنه يحلم، أنه يحارب واقعه بالأحلام.
تنفست سُمرتـِه وهي تدسُ أنفها بملامحه اللينـة، أما أنت مازلت أكثرُ الرجال طغيانًا، في صخب رجولتـِك وإتساع وسامتُك، في صوتـِك الذي يُودع للكلمات ضياءها، مازلت يا ناصِر فارس أحلامِ الصبَا.
رفعت جسدِها قليلاً لتنظرُ إليْه بوضوح، ثبتت نظراتها بعينيْه حتى فتحها بهدُوء، نظر إليْها بغصَّات السنين التي مرَّت في سنـةٍ واحدة، نظر إليْها بحُزن الثكالى واليتامى، أمال رأسه بإتجاه شَعرِها المنسدِل، نظر بضياعٍ شديد.
غادة: إحكي ليْ! . . أبي أسمعني فيك.
ناصر ببحة: ضعنا يا غادة
غادة بهمس وعينيْها لا تتوقف عن البكاء:أششش! .. سولف ليْ خلّ آخر التعب لقَى
ناصِر: وين اللقَى؟
غادة تُغمض عينيْها وجسدِها يُلاصق جسدِه، تنتقل رعشاتها إليْه بخفَّـة: وش يعني لو ما قدرنَا نعيش؟ وش يعني لو ما بنينا من أحلامنا حياة؟ وش يعني لو شابت ملامحنَا ولا كبرنَا؟ وش يعني لو ذاب الورد في إيدينا؟ وش يعنِي لو أمطرت السمَا وعيَّـت لا تسقينَا؟ وش يعني لو نغيب؟ نغيب ونلتقي في مقطع قصيدة
ابتسم بوجَع ليرفع ظهره عن الأريكة ويجلسُ بجانبها، نظر إليها بشحُوبِ ملامحه، نظراتٌ تسطع على جدار قلبها: يعني اننا انكسرنا، نعيش على البركـة
غادة: على أساس أننا عايشين بتخطيط وما نسمح للعشوائية تخرِّب حياتنا!
ناصر: لمَّا قلبك يخطط بدون لا يرجع لك هذا يعني أننا محنا عايشين بعشوائية، لمّا تصحيني كل صبح بصوتِك وتنتظريني عند نهاية الشارع، لمّا أوصلك لين الجامعة وأرجع آخذك، لمَّا أسولف لك عن أتفه الأمور وأبسطها، لمّا نسهر وندوِّر الأعذار حتى نغطي فيها أخطاءنا، بس كانت أخطاءنا تسعدنا! كنّا نتجمل فيها، وكنت أرجع وأنام على صوتِك . . . كل هذا يا غادة تشوفينه عشوائية؟ هذا الروتين كان وجودك يرتِّب فوضويـته.
غادة تُخفض رأسها لتُردف بضيق يتحشرجُ به دمعها: أبي أتذكر كل هذا! . . بس مو بيدي . . والله مو بيدي
ناصِر : آسف
إلتفتت عليه بحُمرةٍ تتسلق عينيْها.
ناصر : لأني ما عرفت ألتقي فيك إلا بالحكي!
غادة : ناصر
ناصر : لبيه
غادة : سولف لي عنِّي . . خلّ اللي ماعرفت استرجعه ألتقي فيه بصوتِك
ناصر بعُقدة حاجبيْه نظر للنافذة والثلج يتساقط على لندن بوِفرة، مدّ ذراعه نحوها : تعالي
اقتربت منه لتضع رأسها في حضنه، استلقت على الأريكـة لتُغمض عينيْها الباكية: قولي عن اصغر التفاصيل.
،
وضعت يدها على صدرها الذي يرتفع كريحٍ مُحمّـلة بالبرودة، نظرت للمرآة التي أمامها ويدِها الأخرى تغرزُ أظافرها بـ/ مسكَةِ الورد المنتشي بين أصابعها، الممر الذي يفصلُ حياة عن حياةٍ أخرى ليس ممهدًا أبدًا، المرُور نحو الزواج ليس بالسهولة التي تخيّلتُها، أشياء كثيرة تحدث فيّ لا أعرفُ ماهيتُها، رعشـَةً أطرافي ماتزال ترنُّ في إذني، صوتُ قلبي يسعلُ بضوضاءِ نبرته، أشعُر بأنني أتلاشى وأذوب، كل شيء أمامي ينعدِم ويعطب، أشعُر بأنني متراجعة مترددة، يالله! أحسُّ أنني تسرعت، كان من الممكن أن لا أوافق بهذه البساطة، كان من الممكن أن نؤجل هذا الزواج لأجلٍ غير مسمى، أو رُبما مسمى بسكُون قلبي، بصوتٍ داخلي يشدُّ عزمها " يالله يا هيفا! أنبسطي . . أنبسطي " ، بدأت تقرأ في داخلها كل الآيات التي تحفظها بمحاولةٍ ناعمة لتهدئة الربكة التي تُرعش حواسَّها، اللهم حببني الى قلبه وجملني في عينه واستر عيوبي عنه واستر عيوبه عني وألف بين قلوبنا واجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة. . . اللهم يا كريم.
طلَّت ريم عليها لتُردف : جوّ! . . .
هيفاء بلعت ريقها : تكفين جيبي لي مويَا
ريم بإبتسامة مُطمئنة : سمِّي بالرحمن . . ولا تتوترين كثير . . مدّت لها كوب الماء لتشربه بدفعة واحدة.
هيفاء ويدها مازالت تربت على صدرها : أحس قلبي بيوقف
ريم كانت ستتكلم لولا دخول أم فيصل، إتسعت إبتسامتها لتُردف: جاهزة؟ عشان تنزلين؟
هيفاء بإبتسامة مرتبكة : آآ . . آيه
أم فيصل بصوتٍ عذب قرأت عليها للحظاتٍ طويلة حتى ضجَّت الهواتف بإتصالاتِهم، خرجت والدته لتتبعها ريف الصامتة المُحدقة بإستغراب لهيفاء ولهذه الأجواء، بتوتر: يالله
ريم ضحكت : مستعجلة!
هيفاء أشتعلت حُمرتها بخجلها: لا .. أقصد . . طيب ريم ممكن تآكلين تبن؟
ريم بإبتسامة : ممكن يا ستِّي . .
ثانيـة، ثانيتيْن، رعشـة و رعشتيْن، ركض الفرح إلى عينيْها الداكنتيْن لتتلألأ بالدمع المتغنج بعذوبـةِ محجرها، ابعدت أنظارها عن ريم التي التقطت بكاءها الصامت، ريم بضيق وهي تتجه نحوها: لا تبكين!
هيفاء رفعت عينيْها للأعلى حتى تُبدد الملح الذائب في عينيْها، فرحٌ شاهق يُصيبها بربكة، تأتِ الأفراح دائمًا بربكـة عكس الأحزان التي تجيء برتابـةٍ واضحة : طيب يا حمارة! أنتِ تبكيني
ريم بضحكـة عانقتها لتسقط دمعتها الناعمة على خدِها : ماسكة نفسي من اليوم وأقول ماراح أبكي! . . شدَّت على جسدِها بعُمق السعادة المتشكلة في صوتها : الله يوفقكم يارب ويهنيكم ويسعدِكم . .
هيفاء همست: آمين
ريم ابتعدت لتنظر إليْها بفرحٍ شديد : يالله ننزل . . .
هيفاء تمتمت وهي تضع يدها على بطنها لتأخذ نفسًا عميق : بسم الله الرحمن الرحيم ، نزلت من على الدرَج الشاسع بعِرضـه، الشاسعُ بمسافاتِ القلوب التي تُحبها و تنتظرها، رفعت عيناها لتنظرُ لملامحهم المبتسمـة الطيبـة.
للمرة الأولى أشعرُ بأنني شخصٌ آخر، بأنني عبارة عن أشخاصٌ كثر يعيشون داخلي، عندما نظرت لهم رأيتُ الفرح كغيمٍ مُبارك فوق رأسي، ولكن هُناك شيء يُجمِّد خطواتي ويُبطئها، أنا سعيدة! أنا لستُ اعرف ماهي السعادة تحديدًا. جديًا أنا أنسى مفاهيم الحياة و قوانينها الوضعيـة والفطرية أيضًا، لا أعرف إن كُنت سعيدة، ولا أعرف إن كنت حزينـة، فقط أشعُر بأنني خفيفـة كجناحِ طائر، و ناعمـة كملمسه، أشعُر بالإنتماء للحياة، لأصلِ الحياة، *إتسعت إبتسامتها حتى

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات