بارت من

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -163

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي - غرام

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -163

سلطان : متى ماتبين قلتي حياتنا ومتى ما ودِّك تفصلين حياتي عنك قلتِي حياتك ومشكلتك!
الجوهرة بملوحة محجرها الذي لا ينضبّ : أنت ما عطيتني سبب واحد يخليني أقول حياتنا! ما شاركتني في أيّ قرار! ما جيت مرّة وقلت أنا متضايق أنا محتاجك! ما حسستني بأيّ شيء يقول أني مهمة في حياتك! . . على أيّ أساس أقول حياتنا وأنت ملغي دوري؟
نظر إليْها بحُرقة القهر في عينيْه، أقترب حتى أبتعدت بخطواتها وأصطدم ظهرها بالدولاب، ألتصق بها بلسانٍ يزفرُ غضبًا : يالله قرري! أعطيتك الصلاحيات الكاملة بأنك تقررين! . . قولي لي وش قرارك؟ وراح يتنفذ . .
أرتجفت شفتيْها الناعمة بإنقباض قلبها الذي ينكمش بلا تردد، تلعثمت خُطى الكلمات على لسانها لتتكوَّر حول الصمت، حاصرها بأقدامه وبطنه يُلامس بطنها، بنبرةٍ حادة : وش قرارك؟
الجوهرة أخفضت رأسها لتنساب ببكاءها، بغضبٍ رفع صوته : شايفة أنك إنسانة ما تعرف تتخذ قرار واحد! وتلوميني على أيش؟ . . . أنا لما ما أشاركِك في قرار أكون عارف بقرارة نفسي أنك مستحيل تختارين!
الجوهرة بصوتٍ يختلط بالدمع رفعت رأسها، قريب جدًا منها، من ملامحها الباكية. : أنت كِذا! تشدِّني بنظراتِك! تخليني ساذجة أصدق كل كلمة وكل شيء تنطقه عيونك قبل لسانِك، تخليني أظن أنه الأمل قريب لكن بمجرد ما تدير وجهك عنِّي أذبل! . . . أنا أكره نفسي اللي مقدرَت تكرهك.
سلطان بحدّة : مين يقسى على الثاني؟
الجوهرة بنظراتٍ ضائعة : صرت أشبهك! عشان لما أقولك أنك ألغيت الجوهرة القديمة فأنت فعلا ألغيتها ومحيتها
سلطان بنبرةٍ خافتة تصِل إلى شفتيْها قبل أذنها بهواءٍ يتجادلُ بينهما : ما تقدرين تقسين!
الجوهرة بقسوة بترَت النصف المضيء من قلب سلطان : ماني مُثيرة للشفقة عشان أتعلق بحياة احد
أشتعل صدره من جُملة قصيرة، قلبه الذي لا ينقبض من الأفعال ألتزم قهره بسبب جُملة ضيِّقة لا يتلاشى صداها، باقٍ في سمعه وقلبه الذي توتَّـرت حباله.
بحدّة : أحد؟
الجوهرة بوجَع :تصبح على خير . . . وخرجت من أسفل ذراعه التي تحاصرها، نزلت للأسفل بخطواتٍ مرتجفة، وضعت يدها على أنفها الذي غرق بالدماء، سحبت منديلاً وهي تحاول إيقاف النزيف، لا شيء يمرُّ بسلام، لا سلام بيننا يا سلطان ولا حتى هُدنـة.
،
بتجمدِ أطرافها على الأرضيَة التي تُغطيها قطعة قماشٍ رقيقة، وضعت يدها على جبينِه المحترق بحرارته، لم تستطع الوقوف من تشبثِه بها، أستجابت لنومه على حجرها دُون أن تتحرك وتُزعجه، عينيْها ترتفع للنافذة، للثلج الذي يملأ لندن، تُراقب سقوطِه وأصطدامه بالزجاج، تُخفض نظرها لتتنهَّد ويُشاركها الهواء البارد الأبيض من بين شفتيْها الحزن.
ببحَّـة تستعيدُ ذاكرتها الطريَّة صوتُه : المحبّة أرض والفرقـَآ أرآضي والزمن كله ترى لآ غبت مـَآضي . . والله إني ما أشوف الا عيونكـ إن رحلت اليوم أو طول مرآضي . .
هرولت دمعةٌ سريعة من عينيْها لتسقط على جبينه، مسحتها بأصابعها الناعمة لتتجمَّد كل الأشياء التي أمامها، غابت في ذاكرتها للحظةٍ تضخُّ بها أصواتٍ متداخلة لا تدلُّ صاحبها.
في زمانٍ ومكان لا تعرفُه، أمام عينيْه الشاهقة و الضحكات تتورَّدُ بين شفتيْها. ألتفتت نحوه : قَآلوآ العذآل والعذآل مرضـى وش بلآ حآلك من الأشوآق قـَآضي . . قلت يهجرني حبيبي لين يرضى علموآ الظآلم ترى المظلوم رآضي . . .
رمشت عينيْها لتنظر إليْه، شعرت بالصداع يُهاجمها ويُعيق كل فكرة تحاول التعمق بها، كل نبرة تحاول أن تتكىء عليها وتكتشفُ صاحبُها، عقدت حاجبيْها لتنساب ببكاءٍ عميق دُون أن تتأوه بأنينها، تُراقب نومه المطمئن وتغرقُ بأفكارٍ لا تنتهي، كيف يحيَا المرء دُون ماضي؟ أوَّد أن أسمع بلا توقف عن لقاءاتنا الأولى، عن المحادثات الطويلة التي تنتهي على وسائدنا، عن الصور التي جمدَّت لحظاتُنا وعجزت عن تجميد النبضَة التي ترتجفُ في كل مرَّة نلتقي بها، أوَّد أن تحكي لي عن الحياة التي مضت من عُمرِي معك، أوَّد أن أعرف كيف كُنت أحبك؟ وكيف كُنَّا نلتقي بأغنيَة! كيف كُنَّا نخطفُ حنجرة شاعر و نسقطُ في البيت الأول؟ علِّمني كيف كانت القصائد تتكاثف بجانب نوافذنا وكيف كانت عيناكِ تطلّ على حلمٍ لا ينتهي! أنا ذابلة يا ناصر! لا أفهم تصرفات قلبي، ولا أعرف إلى أين سيذهب بيْ، أشعرُ بك والله، أشعرُ بالنبضة المرتجفة في جيب قلبي، أشعرُ بالحيويَة التي تتسلل إلى جسدِي أمامك، أشعرُ بالتصلَّب في اللحظة التي تُدير وجهك عنِّي، أنا أفهمُ كل هذا ولكن شيءٌ واحد لا أستطيع تحديده، شيء واحد ينتهي بـ " أحبك ".
،
يُشير إليْها بإتجاه إحدى الزوايـا : هنا القبلة . .
وقفت لترفع عينيْها للسقف، بمحاولة جادة أن تصرف كل الأفكار عنها، بمحاولةٍ جادة أن تستجلب الهدوء/ الخشوع إليْها، كبَّرت لتتبعها نظراته، أستلقى على السرير بإرهاق وعيناه مازالت تُبسط النظر إليْها، تطُوف حولها كـ ناسكٍ متعبِّد، يجمِّد اللحظات بين أهدابه التي لا تقطعُ صلاة عينيْه برمشَة ولا رجفة، ركعتيْن تنتهي وترمش عينيْه، جلست على الأرض للحظاتٍ طويلة دُون أن تقِف.
أشعرُ بغربة قلبك في هذه اللحظات، أن غدًا العيد ولا شيء حولك يدلُّ على ذلك، بعد شهور قليلة سأُكمل الثلاثون عامًا ولم يرمق لي العيد مرَّةٍ بنظرة ناعمة، ولم أسمع تهنئة ورديَـة تُسعدني سوى من أمي وأبي، ما عدا ذلك تهنئاتٍ تمرُّ كالعدَم، من نساء لا أعرف عنهن إلا أسماءهن الأولى، من نساءٍ كنت أكتب ما أقوله لهن في مسوَّدة خشية النسيان، من نساء لم يحركن بيْ شيء، ولم أرسمهن مرَّة ولم أكتب لهن الشِعر ولا للحظة ولم أرسل لهن هديـةٍ واحدة. كُنت أشبع الفراغات حولي بهن لأني آمنتُ بأن لا حُب ولا خرافاتِ السعادة عبر الهاتف، نحنُ الشباب نطيش لأننا نعلم بأن هُناك مجتمع خلفنا سيُبرر لنا هذا التمرُّد، لا أحد يتزوَّج من فتاة رآها بسوق تجاري ولا أحدٍ يتزوَّج من فتاةٍ تعرّف عليها بموقعٍ في الإنترنت، كل هذا أنا أؤمن به لأنني أؤمن بطبيعة العلاقات في مجتمعي، لا نهايات طيبة تبدأ من رقمٍ ورسالة. ولكنني سيء! مضى حُبكِ يتفاقمُ بصدرِي، بدت نظرات الإعجاب تتحوَّل لتفكيرٍ مزمن لا ينتهي الا بِك، كنت أنام لأستيقظ بفكرةٍ واحدة وهي أنتِ، وكُنت أحاول النوم ولكنكِ في ليالٍ كثيرة كانت الوسائد أرق، أُدرك جيدًا بأن بدايتنا هشَّـة لأنها مُشبعة بغضب الله، بالتعدي على حدوده، أُدرك ذلك جيدًا ولكن الآن! الخيارات بأيدينا.
ألتفتت عليه عندما حسَّت بسكُونِه، ألتقت عينيْها بعينيْه، بحركةٍ بائسة بدأت تُقطِّع أظافرها بأسنانها، لتُردف وهي تقف : ابي اكلم أبويْ
فارس يُخرج هاتفه الذي أتى به من الشقة، مدَّه إليْه أمام نظراتها المندهشـة.
بلهفة أخذته من يدِه لتضغط رقمه الذي تحفظه عن ظهر غيب/حُب،بدأت بالسير بلا توقف في الغرفـة الضيِّقة، تشعرُ بأن الثواني التي تستطيلُ بلحظاتها تعبرها كساعاتٍ لا تنقضي بسهولة.
عبدالرحمن : ألو . .
توقفت أقدامها بنبرته التي اشتاقت إليْها، توقَّف هذا العالم بأكمله واصطَّف بعيني بصوتِه الطري في ذاكرتِي والخالدُ في يساري، مالِي أنا والناس؟ إن لم تلفني يدِك الحانيَـة، إن لم تأخذنِي عينيْك لعلييِّن، مالي أنا والحياة؟ إن لَمْ أعِش في كنف صوتك. يا وجَعُ الكلمات المتراميَة على أطرافي يا " يبـه " و يا شدَّةُ وجعها إذا ضاقت بها حنجرتي، يا إتصالي بهذه الحياة عبر وريدُك، إن باعدت المسافات وارتفعت لن يفصلني عن قلبك شيء، وكيف يفصلني؟ و جسدِي يبتهِّلُ بـ " اشتقت ".
تصعد الحُمرة إلى عينيْها المتلألأة، بإختناق : يبــه
عبدالرحمن فزّ من كرسيْه ليُردف بصوتٍ مُبلل باللهفة : يا عيون أبوك! . .
عبير جفَّت حنجرتها ببحَّـةٍ موجعة : اشتقت لك
عبدالرحمن بأنفاسٍ تتصاعد حدُ الإضطراب : وينك؟ . . تكلميني من أيّ جوال!
عبير : جوال فارس .. يبه . . أخفضت رأسها بصوتٍ يئن . . أشتقت لك كثييير
عبدالرحمن بنظراتٍ حائرة تثبتُ على المكتب الخشبي : اشتقت لك أكثثر! . . قولي لي كيفك الحين؟ تنامين كويِّس؟ وين تنامين؟ فيه أحد يضايقك؟
عبير : أنا بخير .. دام سمعت صوتك بخييير الحمدلله
عبدالرحمن : يبه عبير طمنيني ولا تخبين عليّ شي! . .
عبير بخفُوت : والله بخير . . محد يضايقني! أصلا طلعنا من عندهم أنا مع فارس في مكان بعيد . . بعّدنا من وسط باريس!
عبدالرحمن بدهشة : طلعتوا!!!!
عبير : إيه بس رفض يرجعني للفندق
عبدالرحمن : عبير . . كيف تعامل فارس معك؟ يضايقك بشي؟
عبير تنظرُ لعينيْه التي تراقبها لتُشتتها بعيدًا، بصوتٍ ضيِّق : مو مثل أبوه
عبدالرحمن تنهَّد براحةٍ لم يشعر بها منذُ فترة طويلة : الحمدلله . . الحمدلله . .
عبير : شلون رتيل وضي؟
عبدالرحمن : كلهم بخير . . يجلس على الكرسي ليُكمل بصوتٍ يختنق تدريجيًا . . . تثقين فيني يا يبه؟ وعد أنه كل هذا راح ينتهي
عبير ببكاء تنهار كل أوتارها : إن شاء الله
عبدالرحمن بهمس : أشششش! لا تبكين
عبير تزيدُ نبرتها حزنًا وبكاءً، لم تستطع أن تصمد أكثر أمام نبرته التي تشكَّلت بعنفٍ أمام قلبها المتلهَّف إليْه : الأيام تمّر كأنها سنين! تمّر وتقطعّني يا يبه! . . أبيك . .
عبدالرحمن بدأت أعصابه تضعف وصمُوده يتضاءل، هُناك ثقبٌ فيّ يتسع مع كل نبضةٍ تعبرُ لسانها، مع كل كلمةٍ مُبللة، هذه النبرة المترسبة بالملح تقتلني.
بضيق تُكمل : كل يوم أندم على الأيام اللي كنت ازعلك فيها! . . كل يوم أتذكر أشياء ألوم نفسي كيف سويتها! . . يبه مشتاقة لك كثييير! أخاف ما أشوفك! أخاف من هالفكرة وأتعب منها! . . . أموت لو صار فيكم شي!!!
عبدالرحمن بإتزان يحاول أن يُمسك زمامه بكفٍّ بدأ الإتزان يذوب بها : بسم الله عليك من الموت، جعلي ما أبكيك! . . عبير لا تفكرين بهالأشياء، حافظي على صلواتك طيِّب و . . . بُتِر صوته، أبعدت الهاتف لتنظر للشاشة التي غُلِّفت بالسواد، جلست لتضع جبينها على ركبتيْها، شعرَت بالدمع المحترق بمرارة حزنها يتدفقُ من محجرها الذي اشتعل بالبكاء.
بخُطى هادئة إتجه نحوها، جلس على الأرض بجانبها، يتأمل رجفتها من أجلِ صوت والدها، إنقبض قلبه بأنينها التي تحاول أن تحبسه في فمِها الناعم، صمَت! أُدرك جيدًا أن الكلمات ذابلة لن تقدر على الإنتصاب من أجلِ مواساتِك، لا شيء يُخفف الحزن بغيابِ والدك، لا شيء ولا حتى أنا!
رفعت وجهها الذائِبة به الدموع، نظرت إليْه بنظراتٍ تجهل ماهيتُها، كل الأشياء تفقدُ إتزانها وتضطرب بين يديّ، حتى عيني بدأت تتصرفُ من تلقاءِ نفسها، بدأت لا تخضعُ إليّ.
فارس : بالرياض؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تشدُّ على شفتيْها خشيَة الغرق أكثر، خشيَة الإنهيار.
فارس : طيب قومي! الأرض باردة . . وقف ليمِّد يدِه إليْها، بقت بالهواء لحظاتٍ كثيرة أمام نظراتهما المتبادلة، رفعت كفَّها لتتلامس بكفِّه، هدأ كل شيء عدَا اصوات الرياح التي أشتدَّت من خلف زجاج النافذة، ولا شيء يعبرُ مسامعهم، لا الرياح ولا رفرفة الأشجار، للحظةِ الاولى أشعرُ بأن للمساتِ نبضاتٍ ترتجف وتعبرُ طبلة الإذن بربكة، للحظةِ الأولى أشعرُ بأن عروق كفِّي تتحرَّك بمساراتٍ متخبطة، هُناك شيء غريب! هُناك قلب يتوزَّع بكامل جسدِي ويرتجفُ بكل جزءٍ به.
شدَّها بلطف لتقف، سحبت كفَّها لتحضنها بكفِّها الأخرى، شتت نظراتها بعيدًا عنه لتتجه نحو الأريكَة.
فارس من خلفها : راح أنام ساعتين بالكثير! . . إذا أحتجتِي شي صحيني . . . نزع جاكيته ليبقى على بلوزتـِه القطنيَة، أستلقى على السرير ليغمض عينيْه بمحاولة جلب النوم إليْه رُغم نعاسه.
نظرت لعينيْه النائمتيْن بسكُون، بقيْت لدقائِقٍ كثيرة تتأملُ ملامحه، أبعدت عينيْها ولكن سُرعان ما تعود لمصَّبِ فتنتها، يُذكرني بعبدالعزيز في ملابسه، في ذوقِه الداكن، في حُبه الواضح " للـسكارفات "، تستغرقُ الكثير من الوقت في نظراتها إليْه.
فتح عينه المتجهة نحوها بلا سابق إنذار، شتت نظراتها وهي تضع يدها على رقبتها التي اشتعلت بالربكَة.
فارس : ماراح تخليني أنام؟
عبير بتوتر بدأت تنظرُ لكل الأشياء عداه، لم تشعرُ بأنه يراقبها حتى وهو مُغمض العينيْن، من بين دموعها الناعمة ابتسمت بمحاولةٍ جادة أن تُبعد هذه الإبتسامة التي لا مُبرر لها، عضَّت شفتِها السفليَة حتى لا تبتسم.
فارس بنبرةٍ تسرقها في كل مرَّة منذُ المكالمة الأولى : على فكرة عيُونِك أرق.
يُتبع
،
طرقت عليْها كثيرًا بنبرة تتصاعدُ بخوفها : ضيّ!! أفتحي الباب . . لم يأتِ سوى سعالها المتكرر وتقيؤها الحاد، استغرقت وقتها حتى فتحت الباب وهي تضغط على بطنها بكفِّها.
رتيل عقدت حاجبيْها بشحُوبِ ملامحها التي اصفرَّت بالتعب، استندت عليْها لتسيرُ بخُطى متعبة نحو الأريكة، جلست بتأوه من بطنها الذي يهيجُ بالوجَع : أخاف صاير شي!
رتيل بإندفاع : لا إن شاء الله . . جلست على ركبتيْها أمامها . . يوجعك كثير؟
اختنقت محاجرها بالدَمع لتلفظ : مو مرة . . أقدر أتحمله
رتيل بضيق : أكلم عبدالعزيز؟ . . يعني ممكن فيه مستشفى قريب!
ضي : لا . . خلاص بنام وممكن يخف الألم
رتيل : طيب أنسدحي يمكن داخلك برد
ضي بإبتسامة : لو داخلني برد ما رجّعت
رتيل بإبتسامة شاحبة: تحمّلي دلاختي بهالأمور . . بروح أجيب لك فراش يدفيك . . . إتجهت نحو الغرفة المنزويـة لتجلبْ لها فراش يدثِّرها، غطت جسدها : إرتاحي . . . بخطواتٍ خافتة نظرت للنافذة، لا ترى شيء سوى ظهره على الكرسي المتمرجح بفعلِ الهواء، سحبت جاكيتها لترتديه، أخذت وشاحها الصُوفي لتلفّه حول رقبتها، إتجهت نحو الباب وانحنت لتأخذ معطفه التي نامت به، شدَّت على مقبض الباب دُون أن تصدر صوتًا، إلتفت عليها لتسير برجفة من البرد الذي يصيِّر أنفاسها لبياضٍ متبخر، جلست بجانبه لتمد إليْه معطفه، ارتداه فوق جاكيته ليلفظ : كيفك اليوم؟
رتيل دُون أن تنظر إليْه، أعينهما كليْهما متجهة نحو المسطحات الخضراء التي أمامهما : بخير
عبدالعزيز : و ضيْ؟
رتيل : تمام . . إلتفتت عليه . . ما نمت؟
عبدالعزيز : متقطِّع نومي
رتيل تنهدَّت لتعود إلى صمتها مرة أخرى ويُشاركها الصمت، نظراتهما جدل لا يهدأ.
سمع صوت طرق، إلتفتت رتيل للخلف بتوجس، عبدالعزيز وقف : هذا نايف . . . إتجه إليْه ليقترب منه : أبو سعود يبي يكلمك . .
عبدالعزيز يأخذ الهاتف ليُجيب : ألو
عبدالرحمن : هلا . . شلونك يبه؟
عبدالعزيز : تمام . . أنت شلونك؟
عبدالرحمن : بخير الحمدلله . . أموركم تمام؟
عبدالعزيز : إيه بس نايف يقول لازم نغيّر المكان لأنه شاك بأنهم عرفوه!
عبدالرحمن تنهَّد : بخلي نايف يدوِّر على مكان ثاني إن شاء الله
عبدالعزيز : وش قررتوا؟
عبدالرحمن : بأقرب وقت راح أجي عشان نرجع الرياض كلنا وهناك بفهمك كل شي
عبدالعزيز : متى؟
عبدالرحمن : بس أضبِّط كم شغلة هنا وأسلمها لسلطان يكملها عني وأجيكم
عبدالعزيز : طيب
عبدالرحمن : رتيل عندِك؟
عبدالعزيز : إيه . . لحظة . . . إتجه للخلف بخطواته الهادئة ليمدّ إليها الهاتف . . أبوك
بلهفة أخذته لتُجيب : هلا
عبدالرحمن : هلابِك
رتيل : شلونك يبه؟
عبدالرحمن : بخير الحمدلله و . . كلمتني عبير اليوم
رتيل وقفت بدهشة : جد!! وينها فيه؟ يعني بيتركونها؟
عبدالرحمن بإبتسامة لم يشعرُ بأنه تلذذ بها منذُ مدَّة : أمورها تمام إن شاء الله كلها كم يوم وينتهي كل هذا
رتيل : قالت لك شي؟ تعبانة؟
عبدالرحمن : لآ بس مشتاقة لنا كثيير
رتيل برجفةِ شفتيْها تلألأت عينيْها بالدمع : واحنا مشتاقين لها . . طيب يبه متى بتجي؟
عبدالرحمن : بس انتظر كم شغلة أنهيها وأجيكم . . أنتبهي لنفسك ولا تنسين صلواتِك وكل أمورنا إن شاء الله بتتسهَّل
رتيل : إن شاء الله
عبدالرحمن : عطيني ضي!
رتيل بتوتر : طيب . . دخلت إلى البيت الدافىء . . . شكلها نايمة
عبدالرحمن عقد حاجبيْه : نايمة الحين؟ . . فيها شي؟
رتيل : آآ .. لا . . يعني شوي تعبانة بس . . يعني عادي تمام
عبدالرحمن بضيق : تعبانة!! رتيل وش صاير؟ فيه شي مخبينه عنِّي؟
رتيل بربكة : لآ . . يعني وش بيكون؟ . . هذا هي صحَت
ضي التي كانت تحاول النوم ولم تستطع من الألم، رفعت عينيْها إليْها
رتيل : أبوي ..
ضي بحركة متهورة من لهفتها إليْه ضربت بطنها بطرفِ الطاولة التي أمامها لتخرج " آآه " موجعة من بين شفتيْها الشاحبتيْن.
عبدالرحمن بخوف : ألو!! ..
رتيل تضع الهاتف على الطاولة : لا تتحركين . .
ضي أخذت الهاتف بعدمِ رضوخ لطلبات رتيل : ألو
عبدالرحمن : وش فيك؟
ضي تتحامل على وجَعها: ولا شي بس صدمت بالطاولة . . المهم ماعلينا . . بشرني عنك؟
عبدالرحمن بعدمِ إقتناع : صاير شي؟
ضيْ : وش فيك عبدالرحمن؟ مافيه شي . .الحمدلله كل أمورنا تمام . . . أبي أسمع أخبارك؟ ليه ماجيت قبل أمس؟
عبدالرحمن : مقدرت! بس إن شاء الله هاليومين بجي
ضي : إن شاء الله
عبدالرحمن : يبه ضي فيك شي؟
ضي بضيق : صار فيني شي من قلت يبه
عبدالرحمن ضحك ليُردف : لا تدققين مرة! طلعت عفوية
ضي بإبتسامة : الله يديم هالضحكة! من زمان ما سمعتها
رتيل بضحكة تجلس على الطاولة ليصِل صوتها إلى والدها : من قده أبوي!
ضي بدأت الحُمرة ترتفع لوجهها لتُردف : كنت متأملة تجي قبل العيد!
عبدالرحمن تنهَّد : والله ماهو بإيدي . .
ضي : أهم شي سمعنا صوتك، لا تطوّل
عبدالرحمن : أبشري . . . تآمرين على شي؟
ضي : ما أبي إلا سلامتِك و ضحكتِك
عبدالرحمن : الله يسلمك من كل شر . . أنتبهي لنفسك طيب يبـ . . طيب ضي
ضيْ تنهدت : طيب يبه
عبدالرحمن بضحكة عميقة أردف : بحفظ الرحمن يا رُوحي
ضي : مع السلامة . . أغلقته لتمدِّه إليْها.
وقفت رتيل بخبث : راح التعب؟
ضي بضحكة مجنونة : هههه مبسوطة . . مبسووووطة ودي أطييير
رتيل : هههههه عساه دوم . . خرجت لتمدّ إليْه الهاتف.
إبتسم لإبتسامتها لتُردف رتيل بفرَح : أتصلت عبير على أبوي!
عبدالعزيز : كويس الحمدلله
رتيل : الحمدلله . .
عبدالعزيز : دقيقة بوديه لنايف وأجيك . . . ثواني قليلة حتى عاد وجلس بجانبها، إلتفت إليْها بكامل جسدِه : شوفي عيونك كيف تضحك؟ لو أدرِي كان قلت له يتصل عليكم كل دقيقة.
رتيل إلتفتت نحوه بمسافة قصيرة تفصلهما، نظرت لغياهيب عينيْه: محد يرِّد للحياة فرَحها إلا صوت أبويْ.
عبدالعزيز : الله يخليه ويطوِّل بعُمره
رتيل : آمين . . . كليت شي؟ وجهك تعبان!
عبدالعزيز : مو مشتهي
رتيل : عبدالعزيز ممكن أسألك سؤال؟
عبدالعزيز تنهَّد بعينيْن تقبلُ الإجابة.
رتيل : كيف عرفت عن هالجرح؟ . . أشارت إلى بين حاجبيْها.
عبدالعزيز بإبتسامة ضيِّقة : كنت أصلي الفجر بالمسجد وشفت سيارتكم مارَّة، قمت أخمِّن وش ممكن يخليكم تطلعون بهالوقت وما جاء الصبح الا وسألت الشغالة وقالت ليْ وعرفت.
رتيل : كنت أحسب في وقتها كنت تدري أني إسمعك عشان صدق أحقد عليك!
عبدالعزيز : ما عرفت إلا منك، بس أحب هالمكان
رتيل بإبتسامة : تحبه عشان . .
لم تُكمل من قبلته العميقة بين حاجبيْها ليهمس بضحكة مبحوحة : هنا موضع العشق . . أرتفع قليلاً ليُقبِّل جبينها . . وهُنا الإحترام . . إلتفت جانبًا نحو عينيْها ليقبِّلها . . وهِنا الودّ . . . مال قليلاً ليُقبِّل خدها . . وهنا الحنان . .
ضحك عند إذنها ليُردف : أعلمِّك فن القُبل؟ تراني خبرة من بعدِك
رتيل تدفعه بقوة ليضجُ كل ما حوله بصوتِ ضحكاته، والحُمرة ترتفع لأعلى رأسها، كل الأشياء في جسدها تغلي بالدماء.
إلتفت عليها بإبتسامة ونبرةٍ فصيحة : جفنه علم الغزل ومن العلم ما قتل، فحرقنا نفوسنا في جحيــم من القبل
رتيل تُقلد صوته : أنا ماأحفظ شعر غزلي كثير!
عبدالعزيز : هههه
رتيل تقف بغضب ليسحبها بيدِه : له الجنة أبوك . . كان بيروح يومي بالكآبة.
رتيل تحك جبينها بتوتر عميق لتُردف دون أن تنظر إليْه : لمين هالقصيدة؟
عبدالعزيز بخبث: عجبتك؟
رتيل : لا! بس كِذا أسأل فضول
عبدالعزيز : لبشارة الخوري . . اللي قال يـاعاقد الـحاجبين على الجبين اللجين . . إن كنت تقصد قتلي قـتلتني مرتيْن
رتيل : ما أعرفه
عبدالعزيز بإستغراب : اللي قال قـَتل الوردُ نفسهُ حسـداً منك وألقــى دِمَاهُ فــِيْ وجنتيـــكِ.
رتيل بإصرار :ما أعرفه
عبدالعزيز يبتعد بأنظاره للسماء : ما عندِك ثقافة أدبية!
رتيل : لأني ما أحب الشعر! أحب المواويل
عبدالعزيز بضحكة إلتفت عليها : طقطقي عليّ! مسموحة
رتيل بإبتسامة تنظرُ إلى السماء و بصوتٍ ناعم لم يعتاد أن يسمع فصاحته : أضنيتـنـي بالهـجـر مــا أظلـمـك . . . فارحم عسى الرحمن أن يرحمك
إلتفت عليها بدهشَة جعلتها تضحك ليُردف : هذي اللي ماتعرفه!
رتيل بضحكة محمَّرة بالخجل : أقولك شي! . . الأيام اللي كنَّا جالسين فيها في شقتك كنت أحب أشوف أغراضك وأكتشفها وأقرآها! وعلق في مخي إسم الشاعر لما رجعنا الرياض ما قريت الا قصيدة وحدة وصرت أرددها دايم لين حفظتها . . بس ما تذكرتها يوم قلت البيت الأوَّل لكن يوم قلت قتل الورد نفسه تذكرت اللي قريته بشقتك!
عبدالعزيز بإبتسامة يراقب حركات شفتيْها الرقيقة.
رتيل : مـولاي .. حكمتـك فـي مهجـتـي . . فارفـق بهـا يفديـك مــن حكـمـك! . . آآ . . ما كان
يُكمل عنها بنبرةٍ لا تقلُ صحة مخارج الحروف عنها : ما كان أحلى قبلات الهوى إن كنت لا تذكر . . فأسأل فمِك، تمرُ بي كأنني لم أكن قلبك أو صدرك أو معصمك.
رتيل بنظراتِ متلألأة نحو السماء : لو مرّ سيفٌ بيننا لم نكن نعلم . . هل جرى دمي أم دمُك ؟
عبدالعزيز بإبتسامة واسعة : الله الله!
رتيل : سـل الدجـى كـم راقنـي نجـمـه لمّـا حكـى .. مبسـمـه مبسـمـك
عبدالعزيز إلتفت عليها : يا بدر إذا واصلتني بالجفا . . ومتُ في شرخ الصبا مغرمك . . قُل للدجى مات شهيد الوفا فأنثر على أكفانه أنجمك.
رتيل غرقت بضحكة مبحوحة وهي تُدفىء كفيّها بين فخذيها : هذي القصيدة خلتني أحب الشعر على فكرة!
عبدالعزيز : شكرًا.
رتيل إلتفتت إليْه بإبتسامة : عشاني حبيت الشعر؟
عبدالعزيز : عشانِك جميلة.
ضاعت النظرات بينهما، هذه النظرات لا تصنَّف تحت الحُب الناعم، هذه النظرات عشق موضعها: علييِّن. حرَّكت الريحُ شعرها الملتوِي بإلتواءاتِ ناعمة تُشبه تلعثم قلبها في هذه اللحظات، تاهت بحيرة هدبيْه، رُغم الدنيـا، الحزن ومراسيل عينيْك الحادَّة، رُغم الناس والعالم الذي يُباعد بمسافاته عنَّا، رُغم الكلمات المودِّعة و الأشياء المخبئة في تلويحة، رُغم إيماءات الغياب نحنُ نلتقي بقصيدة شفافَـة، بمُباركة طيِّبة من حناجرنا المبحوحة.
،
في ساحة العمل المكتظَّة بحُرقة الشمس، يتدرَّب على ثلاث ساعات متواصلة. أتى إليه ليُناديه بصوتٍ عالي : سلطاااان
سلطان الذي كان يتشبثُ بالحبل المتين الذي يربطُ المبنى بمبنى آخر، إلتفت عليه ليُشير إليه بالإنتظار للحظات، رمى نفسِه وخاصرته تلتفُ بحبلٍ آخر، نزل ليقترب منه.
عبدالرحمن : بيته من داخل فيه شخصين عند الباب، وعند الباب 4 بس . . بتروح الحين؟
سلطان يفتح الحزام الغليظ ليرتفع الحبل المصنوع من المطاط إلى الأعلى : إيه . . بس خلني أغسِّل وأجيك
عبدالرحمن : طيب موضوع زياد وصلهم؟
سلطان : ماراح أطلع من بيته إلا وأنا عارف مين الكلاب اللي عندنا!
عبدالرحمن : المهم نفسك لا تجهدها ولا تدخل بخناقات معهم! توّك طالع من العملية
سلطان : بتجلس سنة كاملة وأنت تقول توّك طالع من العملية!
عبدالرحمن : الشرهة على اللي خايف عليك!

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات