بارت من

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -132

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي - غرام

رواية لمحت في شفتيها طيف مقبرتي -132

الذي كان مفتوحًا بسبب إصرار عبدالعزيز بأن تقفز منه بينما كنت مُصرَّة على الرفض، سقطت على التُراب الخارجي بعد أن فلَت حزامُ الأمان وأوجَع بطنها حتى شعَرت بالغثيان لا مجال للرؤيَة والدماءُ تهطل كالمطر، نظرت للتُراب الذِي بات طينًا بالدم، رفعت عينها التي يُغمى عليها تدريجيًا لترى عبدالعزيز الساقط على النافِذة الأخرى ورأسهُ ينزف، هذا آخرُ شيءٍ رأته.
يُتبع
في ساعات العصر الأولى، الرياض التي بدأت تهدأ شوارعها بعد إنتهاء الدوام. وتصخبُ من جهةٍ إخرى.
نظرت لإبنتها التي قصَّت شعرها الطويل حتى وصَل لمُنتصف رقبتها، بإبتسامة : ماجد قال أنه حلو عليّ !
حصَة : ماجد!! طيب .. أجل وش جاية عشانه الحين ؟
العنود : بآخذ كم لبس لأني بجلس عند أبوي وحددنا حفلة صغيرة بنسويها الأسبوع الجاي وبروح معه دبي.. ومتى ما لقينا وقت مناسب بنحتفل مع بعض بما يليق طبعًا فيني وفيه
حصَة تشعُر بالحسرة على إبنتها، أردفت بهدُوء : طيب ... وأتجهت نحو الصالة.
العنود لحقتها : يممه!! وش فيك متضايقة كذا؟ تدرين أني ماأحب أشوفك زعلانة
حصة : لو يهمك زعلي ولا ضيقي كان أهتميتي برايي
العنود: رجعنا نفتح هالموضوع من جديد
حصَة : خلاص أرحميني بس ولا عاد تسألين عن شي مايهمك
العنود بضيق : تدرين يا يمه أنك تهميني
حصة ألتزمت الصمت دُون أن تنطق شيئًا.
العنُود : وين ولد أخوك ؟
حصة بغضب : تكلمي عنه زين
العنود : أكيد يشيّشك عليّ
حصة بسخرية : أكبر همه أنتِ
العنُود بقصدِ إستفزاز إسمه وكأنه موجود أمامها : ماني أكبر همه بس قدرت أتزوج غصبًا عنه
حصَة تنهَّدت : جايَّة تعلين قلبي .. روحي عند أبوك وخليه يبسطك
العنود : أبوي كان زوجك
حصة بغضب : تعالي علميني بعد كيف أحكي عنه !! الله والأبو بس خليني ساكتة
العنود بقهر وقفت : أبوي عمره ما جاب سيرتك بشي شين ودوم يتذكرك بالزينة لكن أنتِ تحبين تشوهين صورته
حصَة بسخرية : أكذبي بعد!! أقص إيدي إذا يطلع منه شي زين
العنود بخطواتٍ غاضبه أتجهت لغرفتها بينما تركت حصَة تُصارع خيباتها بإبنتها.
في الأعلى، مُثبتة الهاتف بكتفِها وهي مُستلقية على السرير : طيب ؟
أفنان : بس هذا اللي قالته لي !! مجنونة هالبنت مهي صاحية
الجوهرة ببحةِ صوتها المُتعبة : محنا ناقصين نغتابها بعد! .. الله يهديها
أفنان : طيب ما قلتِ لي وش فيه صوتك ؟ تشكين من شي ؟
الجُوهرة : الأجواء عندنا متقلبة يمكن عشان كذا
أفنان الجالسة أمام مكتبها والنُعاس يقترب منها بعد أن حرمتها منيرة من النوم جيدًا، أردفت وهي تتثاءب : طيب بخليك .. تآمرين على شي ؟
الجوهرة : سلامتك .. بحفظ الرحمن
أفنان : فمان الكريم .. وأغلقته، وضعت رأسها على الطاولة وبمُجرد ما أغمضت عيناها دخلت في نومٍ عميق.
وضعت يدها على عُنقها وهي تحاول أن تسترد صوتها المبحوح : آحم .. أتجهت نحو دولابها ، فتحت الدرج لتأخذ جوارب قُطنية تُدفئها، نزلت للأسفَل تحاول أن تشرب شيئًا يُخفف وجَع أحبالها الصوتيَة، وقفت وهي تسمعُ صوتها الذي يأتِ من الصالة.
العنود ممسكة حقيبتُها الصغيرة : يمه واللي يرحم لي والدِيك لا تقهريني زيادة! حفلة بنتك وماتجين ؟
حصَة : قلت لك اللي عندِي، دام سويتِي اللي براسك وش يفيدك حضوري
العنود : تعرفين شي يمه ؟ بديت أشك في الخبلة الثانية اللي ورى ولد اخوك
حصة بغضب : العنود ووجع! تكلمي عنهم بأدب
الجُوهرة تشعُر بأنها مازالت تحمل بعض الشحنات التي لم تُفرغ في ترتيبها للغرفة، أخذت نفسًا عميقًا وهي التي لا تغضب بسُرعة ودائِمًا ما تُمسك نفسها، أتجهت نحوها وأتى صوتُها المبحوح من خلفها : مين الخبلة الثانية ؟
ألتفتت العنود لتتأفأف : في هالبيت الواحد ما يقدر يتكلم الا والكل عرف بالموضوع! ماهو من صغره بس من هالتنصت على الرايح والجايْ
الجوهرة ببرود : ما تنصت بس على الأقل ما ذكرت أحد بغيابه وبهالوصف الشين
العنود بسخرية : يا شين مثاليتك!! سبحان الله تناسبون بعض أنتِ وسلطان كلكم منافقين وكذابين .. إذا أنتِ تكرهين شخص قولي له بوجهه ماله داعي هالكلام الملتوي
حصة بحدة : العنووووود!!
العنود : مع السلامة يمه .. أتجهت نحو الباب لتقف الجوهرة أمامها : ماهو معقولة الكل يشوفنا شي وأنتِ تشوفينا شي ثاني! يعني أكيد ماهو كل الناس على خطأ وأنتِ الصح!! .. راجعي مخك وللمعلومية أنا ماأنافق عليك .. أنتِ ماتعنيني شي ببساطة! لا أنتِ موجودة بقلبي وأحبك ولا أنتِ بعقلي وأكرهك .. مُجرد شخص من فئة الكومبارس بهالحياة
حصة تنظرُ للجوهرة بدهشة، هذه الكلمات القاسية لا تُصدق بأنها تخرج منها، باتت تُشبه سلطان في قسوته أيضًا.
دفعتها العنود لتخرج دُون أن تلفظ كلمة، أنحرجت الجوهرة من نظراتِ حصة لتُردف : آسفة حصة بس هي أستفزتني
بهدوء رُغم ضيقها من الجوهرة : حصل خير ... وخرجت مُتجهة نحو غرفتها.
أدركت أنها غضبت منها، كيف أراضيها الآن؟ لم أتعود أن تزعل منِي أبدًا! تنهَّدت وهي تمسحُ جبينها الذي بدأ الصداع يزحفُ نحوه. رأت عائشة وهي تصعد الدرج : عايشة ... سوِّي لي عصير ليمون بالنعناع
عائشة : زين ... لتتراجع بخطواتها مُتجهة للمطبخ.
أخذت هاتفها وأتصلت على الرقم الذِي ترددت كثيرًا في الإتصال عليه رُغم أنها تحتفظُ به منذُ شهور، جلست منزويَـة في الصالة لتنطق بصوتٍ خافت : السلام عليكم
: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الجوهرة بإرتباك : دكتورة سلوى ؟
: إيه معاك الدكتورة سلوى
الجُوهرة بلعت ريقها : ماني عارفة كيف أبدأ معك، لكن فيه كم سؤال ودِي أسأله لك إذا مافيها إزعاج
: تفضلي حبيبتي وقتي لك
الجُوهرة : أنا تعرضت لتحرش وأنا صغيرة ..
: قبل البلوغ ؟
الجوهرة : لا بعده .. كنت بالثانوية
: طيب وأيش صار بعدها ؟
الجوهرة : ما أتذكر بالضبط لكن متأكدة أنه حصل إغتصاب .. بس .. حاليًا أنا متزوجة و ... يعني مدري كيف أقولك .. *أردفت كلماتها بتقاطعات شديدة وأنفاس تعلُو وتهبط*
: فاهمتك! يعني زوجك ما دخل عليك ؟
الجوهرة بكذب : إيه .. بس أبغى أتأكد عشان مستقبلاً
: طيب أنتِ سامعة بعمليات ترقيع الغشاء ؟
الجوهرة بربكة : لآ مستحيل!! أقصد يعني ماأبغى أسوي شي حرَّمه الشرع .. أنا راضية بس أبغى أعرف يعني .....
: طيب أنتِ صارحتِي زوجك ؟
الجوهرة : إيه لكن أنا أبغى أسألك بخصوص الغشاء يلتئم ؟ لأن هالشي قبل 7 سنوات ؟
: لو كان التحرش قبل البلوغ فنسبة كبيرة يلتئم زيَّه زي أي جرح بالجسم مع مرور السنين يلتئم ويرجع زي ماكان، لكن لو بعد البلوغ حصَل له تمزق وما أنفضّ الغشاء بأكمله ممكن يلتئم ويرجع طبيعي لكن لو أنفضّ الغشاء كامل فهذا شي مستحيل، لو كان هالشي موجود كان لعبت البنت في نفسها لين قالت بس وبعدين بمرور السنين تضمن أنه يعود .. فاهمة عليّ ؟
الجوهرة برعشةِ شفتيْها : إيه
: السنين تلعب دور في المنطقة نفسها لكن ماهو في الغشاء، يعني ممكن تحس الزوجة أنها بكر بعد هالسنوات لأن منطقتها بتكون مثل منطقة البكر لكن بدون غشاء ... والزوج ممكن يحس بعد بهالشي ... تماما مثل المطلقة اللي تتزوج بعد سنين بتحس بنفس الإحساس.
الجوهرة وهي تسمع صوتُ الباب ، بعجَل : طيب شكرا دكتورة .. مع السلامة وأغلقته وهي تسمعُ وقع خطواته. خرجت من الصالة لتسقُط عينيْها بعينِه. تجاهلها دُون أن ينظر إليْها وهو يصعد للأعلى، هذه النظرات بحدِ ذاتها إهانة، بلعت غصَّتها، تشعُر كأنها طعامٌ أخذ ما يُشبعه منها ثم تقيأُه والآن يشعر بتقززه من منظرِ هذا الطعام. أخذت كأس العصير من عائشة، شعَرت بأنها نفسَها لم تعد تشتهيه بعد نظراتِه، حاولت وهي تُطبق أسنانها بشدَّة ولكن لم تستطع، تركت الكأس على الطاولة لتجلس وهي تُغطي وجهها، كتمت صوتُها وهي تنزلق ببكائها، يكسُرني بكل ما أعطاهُ الله، يكسرني بنظراتِه وبكلماته وبتصرفاته، يكسُرني وأنا الهشَّة السهلةُ الكسر وصعبة الجبر.
أتجهت نحو المغاسِل لتغسل وجهها، شعَرت بحاجتها للتقيؤ رُغم أنها لم تأكل شيء منذُ الصباح، تقيأت جفافها وهي تشعرُ بالألم من هذا التقيؤ الجاف، سعلت كثيرًا حتى ألتقطتها أنظارُ حصة الخارجة، أتجهت إليْها بحنانها الذي لا ينضب : وش فيك ؟
الجُوهرة : شكلي مخربطة بالأكل
حصة بشك : بس ؟
الجُوهرة هزت رأسها بالإيجاب وهي تنحني لتتمضمض، مدَّت لها حصَة المنشفة الصغيرة لتُنشف وجهها.
حصة : وجهك أصفر .. تعالي أكلي لك شي
الجُوهرة : منسدة نفسي ماني مشتهية
حصَة بهدُوء : إذا فيك شي قولي ؟
الجوهرة بعينيْها المُحمَّرة : تطمني ولا شي
حصة تنظرُ للساعة : شكل سلطان بيرجع اليوم المغرب
الجوهرة بهدُوء وهي تتجه نحو الصالة : رجع وصعد فوق
حصَة جلست بمُقابلها : أشربي عصيرك, ما يصير كذا يالجوهرة تهملين أكلك .. حتى صوتك رايح
الجوهرة لم تجِد جوابًا تُعلق به، أستجابت لأمرها وهي تشربُ من العصير الحامض. تمُر الدقائق الطويلة حتى ألتفتت حصَة عندما سمعت خطواته.
لم ترفع عينها، تخشى أن ترى مثل النظرات التي تقتُلها، تخافُ تلك النظرات جدًا.
حصة : وينك صاير ما تنشاف ؟ كل يومك بالشغل وإن جيت حطيت راسك ونمت
سلطان : تعرفين بوسعود مسافر والشغل عليّ مقدر أهمله
حصة : الله يوفقك ويسهِّل عليك يارب
سلطان : آمين ... سرق النظرة إليْها وهي تشرب بهدُوء ليعُود بأنظاره ناحية عمته ... كنتِ تبيني في شي ؟
حصة : لآ خلاص، ما قصرت عنيِّد جت وخذت أغراضها وراحت ماعاد ينفع الحكي معها
سلطان : متى زواجها ؟
حصة : تقول الأسبوع الجاي وبعدها بتسافر معه
سلطان بخِل عليها بدعوة التوفيق ليُردف : بتروح دبي ؟
حصة بإنزعاج : إيه
سلطان : خلها تتحمل نتايج قرارها بروحها
حصَة تنهَّدت بضيق لتلتزم الصمتْ.
سعلَت الجوهرة بشدَّة لتجذُب أنظار سلطان إليْها، كحتُها الحادَّة تُؤلم. وجدًا.
حصَة وقفت مُتجهة إليْها، سكبت لها من زُجاجة المياه : أشربي بسم الله عليك
الجوهرة شربت الماء دفعةً واحِدة لتُردف بصوت مبحوح : عن إذنكم
حصة تُمسكها من معصمها : لحظة أكلي شي
الجوهرة المُشتتة تضيعُ نظراتها بكل شيء ما عداه، تشعرُ بعينيْه المصوَّبة بإتجاهها، تكاد تُخمِّن تعابير وجهه وتصدق بها، أعرفُ كل تفاصيلك الصغيرة والمُعقدة من كسرةُ حاجبيْك حتى فرقعةِ أصابع قدمِك اليُمنى التي تبدأُ بالرنين على الارض كُلما كتمت غضبك.
: بنام وبس أصحى أكـ...
يُقاطعها بصوتِه الذِي يُزلزل قلبها : أكلي بعدين نامي .. وقف مُتجهًا لطاولة الطعام التي تقع في الجهة الأخرى من الصالة.
كانت كلماته أمر وليس لها حق المشاورة، تبعته حصَة لتشعُر حقًا بأنه أمر ويجب الخضوع له.
تقدمت بخطواتها لتتوعَّد عائشة بداخلها بعد أن رأت كراسي الطاولة ليست موجودة بأكملها، فقط ثلاثة على عددهم.
بلعت ريقها وهي تجلس بجانب سلطان وحصة بمُقابلهم. لن تستطيع أن تأكل لقمةً واحدة وهو بهذا القُرب.
بدأتُ تُقطِّع حبة الأرز الصغيرة لمئة قطعة وكأنها تحاول الهروب من الطعام بطريقة الصغار، بمُجرد ما شعرت بأنظاره سحبت الملعقة وقرَّبتها من فمِها، تمُر الدقائِق الصامتة، لا أحد يفتحُ حديثًا ولا أحد يحكِي بعينه شيئًا ولكن الصمت ثرثار، حركات أيديهم لوحدِها " ثرثرة عميقة " ، وقفت حصة : الحمد لله الذي أطعمنا و سقانا و جعلنا مسلمين الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا .. وأتجهت نحو المغاسل.
تجمَّدت الجوهرة في مكانها وهو يهمس : تشكين من شي ؟
نبرةُ الحنيَّة في صوته تشطُرها تمامًا : لا
سلطان ألتفت بكامل جسدِه عليها : ما أفطرتِي ؟
الجوهرة لم تعد تفهمه أبدًا، نظراته قبل قليل كان توحي لشيء وكلماته الآن توحي بشيءٍ آخر، تنظرُ لصحنها دُون أن تضع عينها بعينِه : ما أشتهيت
مرَّت حصَة من عندهم لتتجه لغرفتها بعدما رأتهما يتحدثَان معًا، تحاول أن تفتعل الإنشغال فقط لتُحضِّر لهم الأوقات التي يختلُون بها مع بعضهم البعض، سلطان يستحق والجوهرة أيضًا تستحق، أشعرُ بانه أبنِي وأشعر أيضًا بأن الجوهرة إبنتي، لا أحد يُسعدني غيرهما في وقتٍ هجرتني به إبنةُ بطني.
سلطان يُثبت أنظاره على إرتعاشِ شفتيْها، يتأملُ ملابسها التي تبدُو وكأنها مُتجمدة رُغم الجو الحار بنظره : ليه لابسة كذا ؟
الجوهرة : بردانة
سلطان : بس ؟
الجوهرة تفهم ما يُريد أن يصِل إليْه : إيه
سلطان دفع كُرسيه للخلف ليتركها، بلعت ريقها تخشى أن تنهار ببكائها، أريد أن أفهم هو يخافُ عليّ ام يُشفق أم يحاول أن يسأل بـ روتينٍ مُعتاد؟ تنهَّدت لتقف مُتجهة للمغاسِل المُطلة على الصالة والخاصة للضيوف بينما تنتهي بحمامٍ في الزاويـة، نظرت إليْه وهو يتوضأ، أخذت نفسًا عميقًا وهي تُغسل يديْها، رُغم أنه ليس وقت صلاة ولكن تُلاحظ وضوءه المتكرر في كل مرة يدخل بها الحمام. أذكر عمي عبدالرحمن كان يتوضأ ايضًا في كل مرة يدخل بها الحمام أو يمُر ناحية المغاسل.
سحب بُضع مناديل ليمسح ذراعيْه المُبللة ووجهه، ينظرُ إليْها ويُطيل النظر، مسكَت نفسها ولكن معدتُها تهيجُ عليها اليوم لتنحني مرةً أخرى وتتقيأ، أقترب منها وهو يضع يدِه خلف ظهرها : وش صاير لك اليوم ؟
الجُوهرة بدأت تسترجعُ ذاكرتها، كانت تتقيأُ كثيرًا كُلما أقترب تُركي منها ولكن لا مقارنة بين تركي وسلطان.
الجوهرة التي تعرفُ سبب تقيؤها، إهمالها لتغذيتها تجعلُ معدتها تثُور في اليوم مئة مرَّة : سوء تغذية وبس!!
سلطان يسحبُ لها المناديل دُون أن يمده لها، هو بنفسه من قام بمسح ملامحها، وضعت يدها عليه محاولةً إبعاده ولم تتوقع أن تتورط به، بلعت ريقها الجاف بعد أن أرتجفت أصابعها بلمستِه، سحبت كفَّها لتتدافع دموعها عند حافة محاجرها.
سلطان يرمي المناديل في الحاوية الصغيرة ليتكأ على المغسلة بمُقابلها : إذا تعبانة من شي قولي
الجُوهرة بتشتيت نظراتها وصوتُها المبحوح يُؤلمها، وضعت يدها على بطنها الذي يتقلص ويتمدد بوَجَع : قلت ولا شي ..
كلمتُها الأخيرة التي أتت مُرتجفة كانت كفيلة بأن تُسقط دمعها الذي كابرت به كثيرًا.
سلطان تنهَّد وبصيغة حادة : ليه تبكين ؟
الجوهرة أبتعدت بخطواته لتتجه ناحية الدرج ولكن وقف أمامها بغضب : أنا ما أسأل جدار! لو منتِ تعبانة كان علمتِك كيف تديرين ظهرك وتروحين
هذا التوبيخ يزيدُ من بكائها، أردفت ببحة : طيب أنت قلتها! تعبانة وأعصابي بعد تعبانة .. ولا حتى بالبكي بتحاسبني
سلطان : ما حاسبتك! أنا سألتك
الجوهرة ببحتها الموجعة : وأنا جاوبتك .. قلت لك تعبانة ... ممكن أصعد فوق ؟
سلطان أبتعد عن طريقها بهدُوء دون أن ينطق بكلمة.
،
يوقِّع على بعض الأوراق الخاصَة بعمله الشخصي، ينظرُ للساعة يترقبُ بشوق موعدٍ مع صوته الذِي يُحب ويشتاق له، هو الحياة في كل شيء، هو الوطن حين أحتاج للإنتماء، جهَّز نفسه لموضوع الملكة، يُفكِر بطلب رؤيتها ولكنه منحرج من اشقائِها، وصفُ والدته لا بأس به ولكن أشعرُ بمبالغتها، أحتاج أن أراها. سمَع صوت ريف ليتجه نحو الصالة العلويَة : يسعدلي مساك
والدته : ومساك يارب ، فصول حبيبي وش رايك تنام وتريِّح عينك عشان يكون وجهك منور بكرا
ضحك ليُردف : ليه وجهي مبيِّن تعبان ؟
والدته : مررة يا بعد قلبي
أبتسم : يمه عادِي أطلب شوفتها ؟
والدته : إيه عادِي وش فيها من حقك
فيصَل : بس مستحي من يوسف ومنصور .. مدري أحس صعب الموضوع
والدته : لآ تستحي ولا شي .. قل لهم بشوفها ولا خل عمك ضاري يجيب لك راسهم
فيصَل أتسعت إبتسامته لحضُور إسم عمه الذِي دائِمًا " يجيب العيد " : تبيني أنفضح
والدته : لا تنفضح ولا شي .. قوله وبيضبط
فيصل : طيب يمه في حال ما عجبتني وش أسوي ؟
والدته بسخرية : سو نفسك ميِّت
قبل أن يُعلق عليها أندفعت بكلماته : بتعجبك ونص .. لا تفشلنا مع أهلها ، البنت كاملة والكامل الله
فيصل : يمه أنتِ عندك كل بنات الرياض كاملين
والدته : حرام عليك ما عُمري مدحت لك وحدة .. و هيفاء تهبِّل ماشاء الله تبارك الرحمن .. ثقل ورزانة وسنع وعقل .. وش تبي أكثر ؟
فيصل : خوفي أنصدم فيها
والدته : منت مصدم أقولك البنت تهبِّل .. وعليها رقص ماشاء الله عيني عليها باردة
فيصل : هههههه وأنا أبيها ترقص!! أنا أبي وحدة تكون ..
قاطعته : تكون ذكية وتهتم في شغلك وتحاول تساعدك ويكون عقلها متفتح ومتعلمة .. كل هالمواصفات في إنسانة وحدة إسمها هيفـــــــــــــاء *مدَّت بإسمها حتى تضع له حدًا في تردده*
فيصل : يمه والله خايف يكون ذوقك شين لأني مقد جربته
والدته : يا قليل الخاتمة أقولك البنت قمر تهبل ماشاء الله! وأنت شايف أخوانها مزايين يعني ماراح تطلع غير عنهم
فيصل : يا كثر البنات الشيون وأخوانهم مزايين .. ماهي قاعدة ذي
والدته : الحين تبي الجمال ولا لأ ؟
فيصل : أبي شخصية بالمقام الأول وشكل يفتح النفس بالمقام الثاني
والدته : شكل يفتح النفس فهذا الشي منتهين منه والله لا تخلي نهارك ليل وليلك نهار من تأملك فيها
فيصل أتسعت محاجره بدهشة من وصف أمه التي تُشعره بأنها ملاكًا على الأرض : هههه والله يا يمه تراك بتؤثمين إذا كنتِ تبالغين
والدته : رجعنا لموضوعنا القديم! أقولك البنت قمر يا ولدي ليه ما تصدقني .. قلت لك تشبه يوسف وأنت شايف يوسف ماشاء الله تبارك الرحمن زينه محدن يختلف عليه .. وفيها شبه من منصور بعد .. البنت مزيونة
فيصل : مقياس الجمال يختلف ممكن أنتِ تشوفينها مزيونة لكن أنا ما أشوفها شي
والدته : فيصل دبلت كبدِي أقولك كذا تقولي كذا !! تعبتني .. هيفاء تناسبك خذها مني وتوكل على الله
،
يوقِّع على بعض الأوراق التي تدرج تحت إسم " مركز إعادة التأهيل في ولاية يوتا – أمريكا – " ، ليجلس بالقُرب منه، يُبلغه الخبر الأسوأ على الإطلاق ولا طاقة له للرفض، بصوتٍ يشتدُ إتزانًا : هناك بتلقى واحد سعودي وبيساعدك،
صمَت قليلاً ليُكمل : ماراح أعتذر لك يا تركي على اللي أسويه لك الحين، عشت طول عمرك حر تطلع متى ماتبي وتدخل ماتبي ، ما حاسبتك على شي .. ولا شيء حاسبتك عليه ولا رفضت لك طلب، لكن الحين منت حرّ .. بتجلس في المصحة هناك لين ترجع تركي اللي نعرفه ذيك الساعة أبعد وكوِّن حياتك بعيد عنَّا ..... تعرف شي؟ أني متسامح كثير والغلط يتصلح ونغفره لك .. لكن الخيانة يا تركي صعبة! تخوني في بنتي هذي اللي مقدر أسامحك عليها ...... روح واجه الحياة بروحك .. حسّ بالنعمة اللي كنت فيها، هذا إذا قدرت تواجه الحياة .. هذا إذا قدرت تنام وأنت مرتاح الضمير .... يا هي قوية يا تركي كيف قدرت تنام طول هالسنين وكيف قدرت تطالعني وتحط عينك في عيني وأنت تغدرني في اليوم مليون مرررة ... *أردف كلماته الأخيرة بضغطِه الشديد على أسنانه وكأنه سيقتله الآن بنظراته* ...... بس لو أعرف كيف ... ضرب بكفِّه على الطاولة بغضب ليقف : الله لا يسامحك .. الله لا يسامحك ........... وخرج بخطواتٍ تحشرُ أصابعها بحُزنٍ عميق.
وضع يداه على أذنيه وملامِحه يتدفقُ منها الحزن/البكاء، تم الحُكم عليه بسجن جسدِه في مصحَةٍ لا يعرفُ عنها شيء سوَى أنها ستُحاصره وتمنعه من العيش، كان يجب أن نُفكر قبل أن نرتكب أخطائنا بعواقبِ ما نفعل.
،
تتراجع خطوتيْن للخلف لينجذب سمعُها لكلماتِه الخافتة اللاذعة و الساخرة، بلعت ريقها بصعُوبَة ما تسمَع.
بضحكَة : أنتظرها تولد آخذ ولدِي وأطيِّرها لأهلها
هيفاء : هههه تذكرت جدِّي الله يرحمه .. ماشاء الله عليه ما خلاّ وحدة من القبيلة الا ما تزوَّجها .. كثَّر نسله على الفاضي أستغفر الله
يوسف يصخبُ بضحكتِه : هذي حوبة حريمه كلهم ماتوا صغار ... لا يجي الحين أبوي ويعطيك محاضرة في إحترام الأموات
هيفاء : فديت طارِي جدي الله يرحمه ويغفر له
يوسف: آمين
أخذت نفسًا عميقًا لتدخل : السلام عليكم
: وعليكم السلام
يُوسف بإبتسامة : زين نزلتي .. تعالي
بهدُوء جلست بجانبه دُون أن تنطق كلمَة أو حرف،
هيفاء نظرت لجوِّها المشحون لتنسحب بهدُوء وتتركهم ، ألتفت عليها : وش فيك ؟
مُهرة دُون أن تنظر إليه لفظت بغضب : تعرف تستغل الظروف لصالحك
يُوسف رفع حاجبه : أيّ ظروف ؟
مُهرة بحدة ألتفتت عليه و لا يفصلُ بينهما سوَى بعضُ الهواء العابر : تتفاخر عند أختك بكل شيء سخيف تسويه بحقي !!
يُوسف عقد حاجبيْه : وش اللي تفاخرت فيه ؟
مُهرة بقهر تنظرُ له : لا تحاول تستغفلني!! أنا بنفسي سمعت .. كذِّب أذني بعد!
يوسف : وش سمعتِ ؟ فهميني عشان أعرف وش الخرابيط اللي تقولينها
مُهرة وقفت ولكن يد يوسف شدًّ على معصمها حتى لوَى كفَّها وبغضب : ماني أصغر عيالك!! أنتبهي لكلامك معي
سحبت كفَّها وهي تُدافع عن الغصات الي تتراكم في جوفها : أنا بطير لأهلي قبل لا تطيِّرني
تنهَّد بعد أن فهَم ما سمِعت : غبية!! حتى المزح تآخذينه بجد ..
وبعصبية أردف : الله والنفسية الزبالة يوم تآخذين المزح كذا !!
مُهرة بمثل عصبيته : ولا أنا أصغر عيالك عشان تكلمني بهالطريقة!! وش المزح في الموضوع !!!!! ولا هالكلام فيه مزح بعد
يوسف : روحي أسألي هيفا عن وش كنا نتكلم! بس أنتِ تنهبلين لو جاء يوم و ما نكدتِّي عليّ فيه ... وتركها خارجًا.
،
تجاهل كلماتِهم وتوصياتِهم، عقلُه لا يسيطر عليه إلا فكرة واحِدة، فِكرة " غادة " فقط، يسيرُ متجهًا لشقتِه بعد أن دخل منطقتهم الصاخبة، نظَر لغُرفته الشديدة الترتيب ، وضعَ حقيبته على الأرض ونزع قميصه المُتسِخ بقطراتِ الدماء، أرتدى على عجل وهو يسابق عقربُ الثواني، أخذ معطفه وخرج ليتصل على الرقم الذِي أعطاهُ إياه فيصل : السلام عليكم
وليد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ناصر : وليد ؟
،
السادسَة التي تمرُ على سماء باريس كتوقيتٍ للعصر، تنهَّد بعُمق وهو يشعرُ بأنَّ نبضاته تقترب للنفاذ، هزّ قدمِه اليمنى كثيرًا لا يستطيع أن يُخفي توتره وترقُبه لمجيئه.
محمد الذِي ألتقط حضُوره على بُعدِ أمتار، همس : جا .. خلك ثقيل ولا ترتبك
وقف فارس معَه ليبتسم عبدالرحمن مُسلمًا عليهُما.
محمد : بشِّرنا عن حالك عساه تمام ؟
عبدالرحمن : الحمدلله بخير
محمد : معك محمد إبراهيم وولدي مشعل
عبدالرحمن : والنعم والله..
أقترب النادِل الفرنسِي ليُضيِّفهُما بالقهوة العربيَة في صالة الفُندق المخصصة لكبار الشخصيات.
محمد : ماعليك زود،

يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات