بارت من

رواية الملعونة -3

رواية الملعونة - غرام

رواية الملعونة -3

الفصل الخامس
( ما به هذا الرقم يتكرر في هاتفي ..من يتصل بي؟ ..سأرد عليه هذه المرة ) ، هذا ما كنت تفكر به كاميليا وهي جالسة في غرفتها وممسكة بهاتفها تنظر إلى الرقم المجهول في قائمة المكالمات التي لم يرد عليها .فكرت بإخبار أختها فذهبت إليها وعلامات الحيرة ترتسم على وجهها ،قالت لها:
- لدي رقم يتكرر منذ ثلاثة أيام ..نفس الرقم ونفس الوقت .. في التاسعة مساءا
- قد يكون خطأ ..احقريه .
هزت كتفيها بلامبالاة لكنها التفتت بسرعة إلى هاتفها الذي رن يعلمها باستلام رسالة نصية ، وقرأتها فضول ..( مساء الخير كاميليا ..اتصلت بك عدة مرات ولسوء الحظ لم تجيبني ..أود الحديث معك بأمر هام وسأتصل في تمام العاشرة .. شكرا) .وضعت يدها على فمها وقالت لأختها باستغراب :
- إنه يعرف اسمي ..لقد أرسل رسالة هذه المرة ..من يكون يا ربي ؟
أخذت شذى الهاتف وقرأت الرسالة وقالت لأختها :
-الساعة الآن تشير إلى التاسعة والربع ..بقي خمس وأربعون دقيقة ..أجيبي لنعرف من المتصل .
مرت خمس وأربعون دقيقة وكأنها خمس وأربعون سنة ،مرت بثقلها وطول شهورها وأيامها السوداء والبيضاء والملونة . كانت تنظر إلى الساعة كل حين وتمنت لو كانت لها سلطة على الوقت لأجبرته على المرور بمشيئتها ، وعلى هذا الحال مرت الدقائق والساعة الآن تشير إلى تمام العاشرة . اقتربت شذى من أختها وظلتا تترقبان الاتصال ورن الهاتف وظهر الرقم المجهول على الشاشة . ترددت كاميليا في الإجابة وتحت إصرار أختها أجابت :
- آلو
- مساء الخير كاميليا .. ألف مبروك لنجاحك ونيلك شهادة الثانوية . بلعت ريقها وهي تفكر بهذا الصوت الذي سمعته قبل الآن سألته بتحفظ شديد عن هويته فقال:
- عذرا .. نسيت أن أعرفك بنفسي ..أنا عماد الغانم .. شقيق نسرين. سكتت وكأن أحد سكب عليها ماءا باردا ، كانت مندهشة وعينيها الواسعتين تدلان على ذلك . ظلت صامتة وعماد ساكت أيضا ثم قالت له بعد لحظات :
- وماذا تريد ؟ ..لماذا تتصل بي؟
اعتذر على جرأته بالاتصال بها وقال :
- صدقيني رقم هاتفك بحوزتي منذ مدة وأنا متردد في الاتصال .. أخشى فهمك الخاطئ لي .
وبنبرة غاضبة سألته :
- من أعطاك رقم هاتفي ؟.. ولماذا تتصل بي ؟
سكت مترددا ثم قال :
- أخذت الرقم من هاتف أختي دون أن تدري .. أنا لست عابثا ومن حقي أن أتكلم ويجب أن تصغي لي.
ظلت كاميليا ساكتة وعماد مسترسل في الكلام :
- لقد سمعت صوتك صدفة عبر الهاتف .. وصدقني بأني لم أنم ليلتها ونغمة صوتك ترن في أذني .. تعمدت الذهاب لمنزل عمي عندما عرفت بذهابك ..أردت أن أرى صاحبة الصوت الذي تغلغل في أعماق روحي .. ومنذ ذلك اليوم وأنا مشدود لك بقوة لا أجد لها تفسيرا .. سكنتِ في أيامي وأصبحت حياتي جميلة .
تنهد وظلت ساكتة ومذهولة ولا تعرف ما الذي تقوله أمام كلماته التي تسللت إلى قلبها بدون ممانعة . أحست بصدقه ولم تجد خيارا سوى ذلك ، لكنها قالت :
- وما الذي تريده مني الآن ؟
- أنا عازم على إخبار والدي بالأمر لكي أتقدم لخطبتك ..وآثرت الاتصال بك أولا فربما تكونين مرتبطة أو لك رأي آخر..كما أن فارق السن أقلقني ..أرجوك أجيبيني وأعلمي بأن هذا الحديث الذي دار بيننا لن يعرف به مخلوق .. نحن على أبواب الألفين وليس من المعقول أن أذهب لخطبة فتاة كما خطب جدي جدتي .
ظلت ساكتة للحظات فسألها :
- هل أنتِ مرتبطة ؟
لم تتمكن من الكلام وقلبها يدق بقوة عجيبة ، وبصعوبة نطقت وأخبرته بأنها غير مرتبطة ، وبسرعة لا مت نفسها لأنها تجيب على سؤال رجل أتصل وقال لها بأنه مشدود لها ويريد الزواج منها وهي صدقته . لكنها أحست بسعادة وهو يقول :
- هذا من حسن حظي .
لم تنطق بكلمة فتابع حديثه بثقة :
- ستجدين فيّ كل ما تتمنيه .. لن تجدي من يحبك مثلي .. أنا الصديق الذي ستجدين معه نفسك كلما احتجت إليه والذي سيقف بجانبك دائما ..والحبيب الذي ستشعرين بعاطفته وحبه وتعتمدين عليه في كل الأحوال .
ترددت ثم قالت له رغم فرحتها باتصاله :
- أنت تتكلم بثقة ..هل أنا مضطرة لتصديقك ؟
استغرب كلامها فقال لها بانفعال حاول أن يخفيه :
- قلبي دلني عليك وأظنه صادق ..لا تستغربي اندفاعي نحوك فأنا لا أعرف ما الذي يحدث لي ..إنه النصيب .
لم تعرف ماذا تقول أمام كلماته التي اخترقت أذنيها ووصلت لقبلها مباشرة ، لكنها آثرت صده حتى لا يظنها فتاة خفيفة تذوب أمام أول كلمة تسمعها من شاب . قالت له باختصار :
- لست مضطرة لأن اصدق كلامك .. اعذرني علي أن أنهي المكالمة .
تنهد بغضب لصدها ثم قال :
- لن أخبركِ بأني صادق فهذا يجب أن تكشفيه بنفسك ..آسف لإزعاجك وسامحيني على اتصالي .. مع السلامة .

شعرت بأنها خائرة القوى وكأنها ريشة أو ورقة تحركها الرياح في كل الاتجاهات . رمت نفسها على السرير وهي تقول لأختها بأنها لا تصدق ما يحصل لها فلابد أن تعيش في حلم . قرصت شذى خذها وسألتها عما يريده عماد منها فأجابتها :
- لست مجنونة ولا مهووسة ولا موهومة .. لم أكن وحدي مشغولة الفكر .
سألتها أختها عما قاله لها فقالت :
- حصل على رقم هاتفي من جوال نسرين وبقي مترددا لفترة .. هذا فقط .
أمسكت شذى بيد أختها بقوة وقالت :
- هل بدأت تخفين عني أمورك؟ مضت أكثر من ربع ساعة وأنتِ ممسكة بالجوال وهذا ما قاله فقط ..؟
- قال بأنه يريد أن يمضي عمره معي .. ويريد أن يتقدم لخطبتي .
سألتها إذا ما كانت أخته تعرف بالأمر فقالت :
- لا أظن ذلك فلقد وعدني بأن مخلوقا لن يعرف بحديثنا .. لا أريد أن يسيء أحد التفكير بي حتى أنني أخبرته بأني لست مضطرة لصديق كلامه.
حذرتها أختها فقد يكون متلاعبا ، وسجل مكالمتها ليقوم بأمر ما في نفسه ، فهي لا تستبعد شيئا عن أولاد إبليس ، لكن كاميليا دافعت عنه فهي تعرف بأنه مختلف عن الجميع .
-عماد غير .. هو عاقل ورزين .
قالت ذلك دون أن تخفي حماسها لمعرفته عن قرب، لتعرف ماذا في قلبه وعقله وأفكاره فلن تكتفي بحب عينيه . تخيلت نفسها تعيش قصة حب معه . كانت متلهفة لمعرفته أكثر ، بيد أن لهفتها لم تبدد خوفها من أن تكون واحدة ممن يتحدث عنهم الناس ، كم هو بشع أن تصبح فتاة حديث المجتمع والناس في القطيف . سيروون قصتها مع حبيبها وسيحرفونها وسيغيرونها وسيضيفون عليها أحداثا لم تحدث . تخاف أن تعرف صديقتها بذلك وينتقدانها كما ينتقدن سماح التي تعرفت على خطيبها في إحدى منتديات الانترنت ومن ثم قابلته عدة مرات وهما الآن خطيبين وسيتزوجان قريبا وسينجبان طفلهما الأول.
ظلت كاميليا تتحدث مع أختها بشأن عماد واتصاله المفاجئ حتى جاءت أمهما تدعوها لتناول العشاء وتتذمر من جلوسهما في غرفهما معظم الوقت وأردفت :
- هيا تعالا معي لتناول العشاء فوالدكما وعمكما ينتظران .
قالت شذى بتذمر :
- أف .. عمي عبد العزيز هنا .
حذرتها أمها :
- أحفظي لسانك يا ابنتي وهذا عمك الكبير والوحيد ..وكوني لبقة في الحديث عنه حتى لا يغضب والدك منا
تبادلت كاميليا وشذى النظرات وتبعتا أمهما التي توجهت إلى المطبخ لتساعداها . وضعت كاميليا الأطباق على طاولة التقديم وبدأت تدفعها إلى غرفة الطعام وشذى تتبعها ، رتبتا الأطباق وبعدها ذهبت الأم تدعو زوجها الجالس مع أخيه يتحدثان بموضوعات تتعلق بعملها . تفادت كاميليا النظر لوالدها الآتي بصحبة عمها وشقيقها الصغيرة (هديل ) وسلمت على عمها وتبعتها شذى أيضا . رحبت بهما العم عبد العزيز بابتسامة:
- أهلا بابنتي أخي ..وزوجتيّ ولديّ أيضا
وألفت عبد العزيز لأخيه وأكمل يقول :
- ها يا أحمد ماذا تقول ؟ .. كاميليا زوجة لناصر وشذى زوجة لرائد .. بنات العائلة لا يخرجن من العائلة أبدا .
ضحك الأخوين بسعادة ، لكن أحمد دعاه للجلوس على المائدة وقال له بأنه موافق شريطة أن يتم الزواج بعد أن تنهي كاميليا دراستها الجامعية بنجاح وتتخرج وكذلك شذى أيضا.قال العم لأخيه :
- وما رأيك بالخطوبة إذن الزواج حالما تنتهي كاميليا من دراستها . فابني ناصر سيسافر أخيرا لينال الماجستير في أمريكا بعد أشهر .. أنت تعرف بأنه طموح وقد عرضت عليه الشركة السفر للدراسة منذ السنوات لكنه رفض .. والآن غير رأيه والنجاح لا يكتمل بدون الدراسة لذا سيسافر وأنا شجعته على ذلك.
هز رأسه وقال :
- لكل حادث حديث .
- أخشى أن تخطب كاميليا لشخص أخر أثناء غياب ولدي .. فالكلام قد يتغير لاحقا.
وعده بأن كاميليا ستكون لناصر مهما طال غيابه ، وضحكا بسعادة وكأنهما قد أنجزا الاتفاق على صفقة رابحة. تضايقت كاميليا من كلام والدها وعمها وبان الضيق على ملامح وجهها وهي تراهما يأكلان بسعادة . ظلت ساكتة وهي ممسكة بالملعقة تفكر في سرها ولا تعرف ماذا تفعل (ما هذا الذي يحدث لي يا ربي ؟ .. يتصل بي عماد ويخبرني بمشاعره نحوي وبأنه يريد الزواج مني وفي الليلة ذاتها يتفق والدي وعمي على بيعي وشرائي ولكن بالدافع المؤجل .. وبدون أي اعتبار لي وكأن ليست لي أي علاقة بالموضوع). رمت الملعقة على الصحن الفارغ بقوة فأحدثت صوتا ونهضت بسرعة وسط اندهاش الجميع ، ولحقت بها شذى .

جلست على سريرها والدموع تفيض من عينيها ، قالت لشذى بانفعال :
- يتفقان على كل شيء وبدون أن يسألاني رأيي بالأمر .. لماذا يحدث لي هذا في اليوم الذي يتصل بي عماد ويخبرني بأنه يريد الزواج بي ؟.. يريدان تزويجي بالمنحط ناصر .
جاءت الأم فسكتت كاميليا لكن الدموع استمرت في التدفق من عينيها العسليتين ، احتضنتها وطمأنتها بهدوء :
- لا أحد يستطيع أن يزوجكِ رغما عنك يا حبيبتي .. كما أن والدك قال لعمك بأنه لا زواج ولا خطوبة قبل أن تنهي دراستك .. وهذا الكلام سابق لأوانه .
قالت لأمها وهي تبكي بأنها لن تتزوج من ناصر لا الآن ، ولا بعد ألف سنة فهو يكبرها بأربعة عشر عاما وسبق له الزواج مرتين وعندما تنهي دراستها سيكون قد بلغ الأربعين . ضمتها أمها لصدها ومسحت دموعها وطلبت منها أن تتصرف وكأن شيئا لم يحدث ، وخرجت .
مسحت كاميليا دموعها وبدأت تعدل الكحل الذي خربته الدموع ، وقالت شذى :
-ماذا أقول لعماد لو أتصل بي .. فهو سيخبر أمه وسيطلب منها التقدم لخطبتي بأسرع وقت .. وماذا سيرد عليه أبي ؟ .. وربما يرفضه .
- أطلبي منه أن ينتظر .. وإذا كان من الذين يقولون كلاما لمجرد الكلام فليذهب بألف سلامة .
تنهدت وهي تفكر بعماد . هل سينتظرها أربع أو خمس سنوات فخلال أيام تتغير أمور كثيرة في حياة الإنسان وقلبه ..فماذا يحدث خلال سنوات ؟.
قالت لها شذى بأن هذا أكبر اختبار لصدقه وحسن نواياه واقتنعت بذلك .

الفصل السادس

( لا أحد أتحدث معه ولا أحد أبوح له بما أفكر .. لماذا لا أستطيع إخبار ماجد أو فيصل باني وجدتها .. ما الذي يمنعني ؟ .. هل أخبر أمي وأختي ؟.. هما لن تعودا قبل الفجر فهذا حالهما منذ أن بدأت الإجازة ...سأخبرها بأني أريد الزواج .. متى تعود أمي لأخبرها فهذا ما تتمناه وستفرح بكل تأكيد ).
هذا ما كان يفكر به عماد وهو مستلق ِ على سريره ، أدار التلفزيون وبدأ يقلب المحطات بحثا عما يشاهده ، لكن عبثا فالليل قد أنتصف ولا شيء يبث غير الأخبار والأغاني والبرامج المملة . أطفأ التلفزيون وقام يبحث بين أسطوانات فيروز التي يرتبها في حامل اسطوانات أنيق ويحتفظ ببعضها في سيارته .أدار الجهاز واستلقى على سريره وبدأ يستمع ..
نحنا والقمر جيران بيتو خلف تلالنا
بيطلع من قبالنا يسمع الألحان ..
نحنا والقمر جيران عارف مواعدنا
وتارك بقرميدنا أجمل الألوان..
فتح عينيه في الرابعة فجرا وأمه تربت على كتفه وتوقظه ، فلقد نام بمبلابسه والغرفة مضاءة ومشغل الاسطوانات مازال يصدح بصوت جارة القمر . أخبرها بأنه ينتظرها ولم يخبرها بالسبب . وبعد أن صلى الفجر استلقى على سريره وهو يفكر كاميليا وكيف سيفاتح أمه بموضوع خطبتها ، لابد أنها ستسأله لماذا أختارها بالذات ، حتى نسرين وأمل ستستغربان ذلك . فكر بإجابة يقولها لهن ، سيقول بأنه يريد الزواج بإحدى صديقات نسرين وعندما تعدد له نسرين صديقتها سيختار كاميليا من بينهن ليوهمن بأنه لا يعرفها قبلا . نام على أفكاره لكن الوقت قصير جدا فسرعان ما رن الجوال يعلمه بضرورة الاستيقاظ للعمل .
أخبره فيصل بأنه تحدث مع الدكتور عبد الكريم ، ووعد بمساعدته في تسهيل قبول نسرين وأمل ، فطلب من ابن عمه الانتظار فلديه شخص يعزه ويود مساعدته في تسجيل أخته . مضت ساعات الدوام مثقلة بالعمل والمواعيد وهو مشغول البال يفكر ويخطط . كيف سيخر والديه ، ومتى يحدد موعد الزواج ويفكر في السكن وبناء الأرض التي يمتلكها . خرج من الشركة عائدا إلى المنزل وفي الطريق خطرت بباله فكرة الاتصال بكاميليا ليسألها عن التخصص الذي تريده برغم الغضب الذي اعتراه في الحديث اليتيم الذي جرى بينهما عندما قالت له بأنها ليست مضطرة لتصديقه . عذرها فهي لا تستطيع أن تظهر له تجاوبها وانجذابها له في هذا المجتمع الفضائحي المحافظ . فكر بأن اتصاله بها سيثبت لها جديته وحسن نواياه . ازدادت دقات قلبه وهو يستمع لرنة الهاتف .. الأولى والثانية والثالثة . كان خائفا من أن لا ترد عليه لكنها أجابته :
-آلو .
تنفس الصعداء وهو يسمع صوتها ، فسألها بلهفة ممتزجة بالحذر :
- مرحبا .. كيف حالك كاميليا .
أجابت باقتضاب :
-بخير والحمد الله .
لم يحبذ إخبارها عن مشاعره وعن الغضب الذي يعتريه كلما تذكر ما قالته ، فقد كانت أول مرة يتصل بفتاة أنجذب لها وتصده. قال لها بتحفظ :
- اعذريني على الإزعاج .. ولكن ..
بلع ريقه وسكت ، شعر بأنه غير قادر على الكلام أمام صمتها فتنفس بعمق واستجمع جرأته وسألها :
- أريد معرفة التخصص الذي ترغبين بدراسته ؟
سألته باستغراب :
- ولماذا ؟
- تعرفين بأن القبول في جامعة الملك فيصل ليس سهلا .. لذا نحن سنتدخل في إتمام الأمر والباقي على الله ..أود أن أحقق لك أمنية تحملين بها فما يسعدك يسعدني بكل تأكيد .
- شكرا .. لدى والدي واسطة جيدة .
- زيادة الخير خيرين .
اضطرت لإخباره بأنها تريد دراسة المختبرات الطبية وسكتت ، لكنه لم يستطيع لجم عنان مشاعره فقال لها بنبره مفعمه بالشوق والصدق :
-ربما لاتشعرين بما يشتعل في قلبي من عاطفة أشعر بها للمرة الأولى في حياتي .. لا أعرف سببها وإلى ما تهدف .. إلى إني سعيد جدا
لم يرد أن يقول لها بأنه يحبها رغم إيمانه العميق بذلك ، فكلمة الحب لها وقت وزمان وظروف معينة لم تأت بعد ، تذكر كلام ماجد بأن الاعتراف بالحب يحتاج إلى معاملة ( حكومية طويلة ومعقدة ) . سكتت كاميليا والدهشة من كلام عماد منعتها من التنفس براحة فبدا نفسها مضطربا وهي تستمع لحديثه المسترسل :
- كنت أفكر بك البارحة طوال الليل وظلت أنتظر والدتي حتى تعود من حفل الزواج الذي تحضره وغفوت قبل وصولها .. سأخبرها اليوم .
ظلت كاميليا ساكتة وهي ترتعش رعشة غريبة ، ليست رعشة خوف أو برد إنما رعشة مختلفة ، فباغتها بسؤاله :
- كاميليا .. هل تسمعينني ؟
- نعم بالتأكيد .. ولكن ..
أحس بارتباكها فقال :
- ولكن ماذا ؟!
- لا تتقدم لخطبتي الآن .. دعنا نؤجل الأمر قليلا.
أنتفض وقال بخوف :
- ولماذا .. ما الذي حدث ؟
أحس بأنه مشتت بين ما تقوله وبين قيادة فأوقف سيارته في جانب الطريق . قالت له:
- والدي يرفض فكرة الزواج قبل إنهاء دراستي الجامعية .. وهذا مبدأ عنده ولا يمكن أن يغير رأيه .. هو يرفض الخطوبة أيضا فلقد رفض خطوبتي لابن عمي رغم اقتناعه به كزوج مثالي لي .
حاول أن يقنعها بأن رفض والدها لابن عمها لا يمنعه من المحاولة ، ولكنها فضلت أن لا تعرضه لموقف محرج . سكت للحظات ثم سألها :
- وأنا .. ماذا عليّ أن أفعل ؟
أخبرته بالحقيقة التي ستفيدها لتتيقن من صدق نواياه :
- سأقول لك ما قاله والدي لعمي .. انتظرني حتى أتخرج من الجامعة .. صدقني هذا أفضل .
- أنتظرك !؟ .. ولكن .. من هو ابن عمك ؟
- لا عليك منه .. عليك من المبدأ نفسه ووالدي لن يغير كلامه .
سادت لحظات صمت بدت طويلة قطعته تنهيدة خيبة أطلقها من صدره وتابع الصمت حتى قالت كاميليا :
- أنا لا أجبرك على انتظاري فالأمر يعود لك.
ارتفع صوته وهو يرى المرور تقترب منه :
- بالطبع سأنتظرك .. أنا لم أصدق بأنني وجدت الفتاة التي أريدها شريكة لحياتي وهذا لم أحصل عليه بسهولة .
طلب منها أن يظلا على اتصال، فهو يريد سماع صوتها وأخبارها والاقتراب منها والتعرف على شخصيتها فهما قد زرعا نبتة صغيرة في تربة صالحة وهذه النبتة تحتاج إلى العناية والماء والغذاء ، وختم كلامه :
- دعيني أتعرف عليك أكثر .
أعجبها كلامه فلطالما كانت قضية اختيار الشريك المناسب قضيتها وتأثرت بها وتبنتها منذ طلاق ناهد .
تأفف وهو يفكر بالسنوات التي ستفصله عن كاميليا ، أربع سنوات بكامل شهورها وأيامها وساعاتها ودقائقها وثوانيها . فرك جبينه بإصبعه وفكرة أنها تكذب بشأن ابن عمها تنخر في عقله .لكنه تراجع عن ذلك بسرعة فلو أنها لا تريده فلا داعي لتجيب على اتصاله . وفجأة توقف عن التفكير لأن باب غرفته يطرق . دخلت أمه وهي ممسكة بكأس من الماء ، جلست بجانبه وقالت له :
- أخبرني والدك بأن فيصل تحدث مع أحد معارفه من أجل التحاق نسرين وأمل بالجامعة .
هز رأسه وطمأنها بثقة بأن كل شيء سيكون على ما يرام فالرجل نافذ وواسطته جيدة . شربت سميرة رشفة من الماء ووضعت الكأس جانبا وقالت :
- إذا ظهرت النتيجة والتحقت نسرين بكلية الطب سأقيم حفلة كبيرة
كان ذهنه مشغول بكاميليا وأمر تأجيل الخطوبة فلوى فمه وقال :
- جيد
عضت سميرة على شفتيها وقالت لابنها بحنق :
- ولماذا تتكلم معي بدون نفس ؟
أومأ رأسه نافيا ذلك ، فسألته إذا كان سيخرج مع ماجد الليلة فهي تعرف بأنه لا يحب الذهاب لمكتب والده كثيرا . تنهد بقوة وأجابها :
- مزاجي سيء ولا يسمح لي برؤية أحد .
رمت أمه بكأس الماء الذي بيدها وتساقط على رخام الغرفة وتحول إلى شظايا متناثرة وقالت لابنها بغضب :
- ولماذا لا يسمح لك مزاجك؟ ..أنت لا تعجبني أبدا وتتصرف وكأنك مريض نفسيا.
تنهدت وأردفت والدموع تملأ عينيها :
- أنا تجاوزت أكبر معضلة صادفتني في حياتي كلها .. عندما قتل علاء أحسست بأن الدنيا بالنسبة لي انتهت وبأني لن أرى يوما سعيدا لبقية عمري ..ظلت خمس سنوات وأنا أتعذب وعندما أعدم ذلك البائس أحسست بالراحة وتجاوزت هذه المحنة بقوتي وصمودي .. عشر سنوات مضت وأنا مازالت أتذكر كل شيء وكأنه حدث البارحة لكني يجب أن استمر في الحياة من أجل أولادي وزوجي ..وهذا لا يمنعني من تذكر علاء والبكاء عليه يوما ..وأنت مازلت مكتئبا لانفصالك عن امرأة ستتزوج بعد مدة وجيزه.

لم يتمكن من الرد على كلام أمه فظل ساكتا وهو يرى دموعها بدأت تترقرق من عينيها السوداويين التي ورث سوداهما عنها ، وأكملت تقول :
- لا تحاول إيهامي بأن انفصالك عن سوسن ليس سببا لحالتك هذه
أقترب منها وضمها إليه وهي تبكي على صدره ، فقال لها متأثرا :
- كوني متأكدة بأن سوسن لا تعنيني البتة .
مسح دموعها بيديه وقال لها مطمئنا :
- لا تقلقي عليّ وسأتزوج بفتاة أفضل منها ولكن ليس الآن ..سأبدأ ببناء المنزل وسأؤثثه ومن ثم سأخطب الفتاة المناسبة ونتزوج بدون تأخير .
زمت شفتيها وسألته:
- ومتى ؟
ابتسم وقال :
-ربما أحتاج لأربع سنوات ليكون كل شيء جاهزا .
- أنت تستطيع أن تنتهي من ذلك قبل أربع سنوات ..فلما الانتظار ؟
قبل يدها وأجابها :
- وهل تظنين بأني سأبني منزلا عاديا ؟!.. سيكون منزلي تحفة فنية تخطف الأنظار ..أريده أجمل بيوت القطيف لذا يحتاج وقت طويل .
هزت رأسها وأخبرته بأنها ستخرج مع زوجة عمه وستطلب من الخادمة أن تأتي لتنظيف الزجاج المتناثر . خرجت أمه فأقفل الباب وأمسك بهاتفه ليتحدث مع كاميليا ولكنها لم ترد ، فبقي يتساءل ..لمذا لا ترد ؟ ومع من كانت تتحدث قبل قليل ؟ .. هل تشعر بالذي يشعر به وهو جالس لا يعرف ماذا يفعل ؟
نالت كاميليا مباركة ناهد التي تلت عليها ما قاله جبران خليل جبران (إذا أومأ الحب إليكم فاتبعوه ، وان كان وعر المسالك ، زلق المنحدر . وإذا بسط عليكم جناحه فاسلموا له القياد ، وان جرحكم سيفه المستور بين قوادمه ) . فكرت بعماد وبالسنوات التي ستفصلهما ، وتخشى أن تأخذه هذه السنوات بعيدا عنها فليس بينهما رابط أو وعد ، فهي سمعت عن الكثير من العلاقات التي دامت أقواها سنة . ودائما ما تكون علاقة عبثية قائمة على التسلية والفراغ القاتل لفتاة وشاب لا يجدا ما يفعلاه في حياتهما . لم تسمع بعلاقة حب حقيقة . علاقة صادقة بين قلبي عاشقين تحلم بها أي فتاة وتعرف بأنها لن تجدها وفي الآخر ستزوج بطريقة تقليدية بكل تأكيد . لم تكن مدركة لما تشعر به ولا التفكير الذي يسيطر عليها ليلا ونهارا . وفجأة فكرت بوالدها العصبي المزاج الذي يخفي طيبته عنهم . ماذا لو عرف بأنها تتحدث مع شاب فماذا ستكون ردة فعله . لو عرف أن بنات القطيف اللاتي لهن علاقات مع شباب ازددن واحدة . لم ترد أن تتخيل ما الذي يمكن أن يفعله بها وتوقفت عن التفكير عندما وصلت نسرين وخرجت معها .
قضت وقتا طويلا مع أمل ونسرين في التسوق ولم تذهب سماح المتأزمة بسبب موقف عائلتها وأخوتها من حملها . عادت إلى المنزل قبل أن ينتصف الليل فغدا ستذهب إلى الجامعة للتسجيل وسيصطحبها والدها بنفسه .جلست في غرفتها الزهرية اللون كأحلامها التي اصطبغت باللون ذاته عندما رأت عماد لأول مرة ، قالت لأختها وهي ترتب أوراقها في ملف أخضر :
- لقد أخبرت عماد بأن والدي رفض خطوبتي بابن عمي قبل أن أنهي دراستي الجامعية .. وعليه أن ينتظرني إذا كان جادا فيما يقول .
تنهدت وأردفت:
- أنا لاأعرف ماذا أفعل ؟..بقيت أفكر به وأنا مع نسرين وأمل ..صورته لا تفارق مخيلتي ..ماذا لو عرفت نسرين بما بيننا ؟

اقتربت شذى منها وحذرتها من إخبارهما فهما ستنتقدانها بكل تأكيد فدائما ما كانتا توبخان سماح لعدم تحفظها في علاقتها مع خطيبها . حتى كاميليا كانت مثلهما بالأمس القريب ولكن عماد غيّر كل أفكارها . رتبت أوراقها وكتبت موافقة ولي الأمر مطلوبة ووقعتها نيابة عن والدها وهي تشعر بالسخافة . رن هاتفها وكان عماد هو المتصل ، كانت متلهفة على الرد، فردت:
-آلو
جاءها صوته مفعما باللهفة والقلق فلقد اتصل بها مرتين ولم تجبه ، قال لها :
- أين كنت يا كاميليا؟
ابتسمت وهي تستشعر قلقه عليها ، فسكت للحظة ومن ثم قال :
-هل تفكرين بي كم أفكر بك؟..لا أعرف ما الذي يحصل لي منذ ذلك اليوم الذي سمعت فيه صوتك بالصدفة . لا بد أنني موعود بك.
كانت تصغي له وهو مسترسل في الكلام :
- سأنتظرك حتى تنهي دراستك ..ولن أضيع الوقت فلدي قطعة أرض قريبة من منزل والدي و سأبدأ بالتخطيط لبنائها ومن ثم تأثيثها لتكون جاهزة ونتزوج بعد تخرجك مباشرة .. هل أنتِ موافقة ؟
وافقته وهي تتذكر ناهد عندما قالت لها ( عيشي لك يومين حلوين ) ، وبتردد طلبت منه أن لا يخبر أحد بشأنها وأن تبقى سرا في حياته لا يعلم به أحد ، وسكتت للحظة ومن ثم قالت له بأنها تقصد نسرين وأمل .
-آه..عماد غير..كامل والصلاة على محمد.
تنهدت وقالت ذلك لأختها بعد أن أنهت حديثهما معه ، فسألتها شذى :
- ليش غير ؟
راحت تشرح لأختها ما تقصده ، فسألتها بفذلكة :
- ما هي طموحات أي شاب قطيفي ؟
- فلوس ..سيارة..مغازلة البنات ..والزواج من قطة مغمضة تطيعه حتى لو طلب منها أن ترمي نفسها في البحر .
وافقتها وزادت على ذلك بأن الشاب أيا كان ، يقضي فترة المغازلة في القطيف وضواحيها إذا كان فقيرا ، وإذا ظروفه أحسن بقليل تجده يتأبط ذراع الروسيات في البحرين ودبي ، ويمشي بثوبه وغترته ومعه شقراء بتنورة قصيرة تشاركه العشاء والسهرة والفراش . وتجدينهم في القاهرة والمغرب ودمشق وبيروت أيضا وإذا كان ثريا فيسافر إلى لندن و(ادجوار رود ) يغص بهم ، إلى أن وصل الإيدز القطيف ببركتهم . أغمضت شذى عينيها وقالت بقرف:
- وع .. الله يغربلهم .
- لهذا أنا أحب عماد ومتمسكة به .. نبيل ونظيف ورومانسي..وأنا أستحق واحد مثله .
إذا الرجل المطوّع أفضل ؟
- كلا .. فهذا يعرف الكثيرات ولكن بزواج المتعة ..تجدينه يتنقل من امرأة مطلقة لأخرى أرملة بموجب ورقة يكتبها له شيخ ..وآه من الشيوخ ومن ورائهم .
قاطعتها بانفعال : - لا الصايعين ولا المطوعين .. والحل ؟
- أن نتعرف على النصف الآخر جيدا قبل الارتباط به..أعرفيه وأفهميه وأحبيه .. علمونا أن الرجل هو العدو علينا الابتعاد عنه وهنا مربط الفرس.
كانت كاميليا مقتنعة بأن سياسة الفصل التام بين الجنسين المفروضة هي سبب المشاكل العائلية والزوجية والحياة العامة . فالرجل لا يعرف بمن سيتزوج سوى صورة عارضة أزياء جميلة رآها قبل عقد قرآن . والمرأة تتزوج برجل بمواصفات عنترة بن شداد وتكتشف لاحقا أن قلبه قلب بعوضة . لقد أبعدوا المرأة وهمشوها وظلموها عندما قرروا أن يكون صوتها ووجهها واسمها وعملها ووجودها في الحياة العامة عورة .
يتبع ,,,,

👇👇👇
تعليقات