بارت من

رواية ضلالات الحب -17

رواية ضلالات الحب - غرام

رواية ضلالات الحب -17

أن تعيش لوحدك عذاب، الوحدة كريهة، قاتلة، تُصيبك بالجنون، لا تجد من يخاطبك، يفهمك أو يسمعك، بإختصار أنا تائهة، تائهة في حنايا الزمن المر....
أُرسل "أحمد" إلى المدرسة في الصباح الباكر، وأبقى لوحدي في البيت، أصادف "محمد" أحياناً، بات نحيلاً وقد دكن لونه، عيناه تأفلان بسرعة، كجحوظ الشمس في لحظة الغروب....
لم يتبق شئ في البيت إلا أخذه ليشتري لنفسه سماً...
الشئ الوحيد الذي قاتلت من أجله هو تلفاز غرفة الجلوس التي بتُ أقضي فيها جلّ وقتي، خفت أن يسرقه فلا يتبق لي غير الجدران أخاطبها!!!!
اعتزلت الآخرين وهم أعتزلوني، أصبحنا كالعيب، الكل يخجل منا، لم تعد تؤثر فيّ نظراتهم أو كلماتهم التي يلقونها بقصد أو دون قصد...
كل همي هو "أحمد"، أجل "أحمد" أخاف أن يجرحه أحدهم بكلمة، وأنا لا أحتمل نظرة ألم في عينيه، تقتلني، تصيرني إلى هشيم..
الأيام تمضي بطيئة، مملة تُكرر نفسها، لم أعتد على سيمفونيتها بعد، اشتقتُ للجامعة، لكتبي، لبحوثي على الأقل كنتُ أسلي نفسي بها....
أما صديقاتي..هه صديقات؟!! كلهن تلاشين، لم يعد أحد يتصل بي منهن الآن، كلهن كذابات، غشاشات، زائفات كفقاعات الصابون..
صديقي الوحيد هو كتابي، ما أوفاه!!! لازلت أُعيد قراءة رواية "بداية ونهاية"، نهايتها تعجبني وتخنقني!!! ما أروعك يا محفوظ.....
أرقب الآن عودة "أحمد" بفارغ الصبر، ليحدثني عن مدرسته، لأساعده في حل واجباته، لأفعل له أي شئ، أي شئ قبل أن يصيبني الجنون...
قد تتساءلون كيف نعيش دون مورد مالي!!
الفضل كلّه لله الذي لا ينسى عباده ثم لجارتنا "أم محمود" التي لا تفتأ تُحضر لنا ما نحتاجه كما لو كنا...كنا فقراء!!!!!
تطلعت إلى يدها التي ترك الحرق أثراً بسيطاً عليها وهمست:
"رحمك الله يا والدي، تركتنا للفقر والذل ومنِّ الناس".......
-
قلتُ لكِ لا..
- ما ذنبها إن كان أخوتها هكذا، هي شئ آخر..
- التفاحة الفاسدة تُفسد ما في الصندوق..
- هذا حكمٌ جائر، الإنسان يُقاس بأفعاله، لا بأفعال الآخرين.
صمت "خالد" ولم ينبس ببنت شفه، لمست كتفه وهي تنظر له بتوسل:
- أرجوك يا "خالد"، لقد تركت الجامعة، لم أعد أراها، لم تتوانى قط عن مساعدتي يوماً، والآن أخذلها؟!!
- تركت الجامعة!! منذُ متى؟!
ردت بإنفعال وكأنها وجدت بصيص أمل:
- منذُ..منذُ، تذكر ليلة خطبنا "فرح"، كان ذلك آخر عهدها بالجامعة.
أخرج علبة السجائر من جيب بنطاله، أشعل واحدةً وهو شارد الذهن..
- ها ماذا قلت؟!
- هي نصف ساعة فقط لتزوريها وتعودي فوراً.
ودون حتى أن تسمع نهاية عبارته، هرعت تخطف عباءتها وحجابها، وأنطلقت مع السائق إلى هناك.
- لا تذهب، لاتذهب، لاتتركني لوحدي.
- ماذا تريدين أن أفعل؟
قالها بملل وهو يحك ما بين أنفه.
- أبقى معي، لا أحد هنا وأنا أخاف.
- آسف، لدي موعد مع أصدقاء.
- أنا أختك، أختك، حرااام...
وانتحبت بمرارة وهي تُمسك بتلابيب قميصه لتمنعه من الخروج، أبعد يديها بعنف وهو يشرع بإكمال طريقه.
"- محمد"، لاتذهب، سأعطيك ما تُريد فقط أبقى معي، أبقى معي...
وتوقف وقد انتقلت الحكة إلى صدره، نظر لها بلؤم وهو يسأل:
- ماذا ستعطيني؟
وكأنها وجدت في سؤاله بصيص أمل، بلعت ريقها بإزدراد وهي تردف:
- لدي 30 درهم، هذا ما تبقى عندي. قالتها بإستعطاف.
- أجلبيهم.
- حسناً..حسناً. انتظرني لثوانٍ فقط، لا تذهب.
وجرت لغرفتها بسرعة وهي تتلفت خلفها كي لا يغيب عن مرمى عينيها، فتشت درج خزانتها بجنون، عادت إليه وهي تمسك الأوراق النقدية.
تناولها وهو يعدها، حك أنفه من جديد، ووضع الأوراق في جيبه، تأملها لثوانٍ، أشار لعنقها وهو يردف:
- أعطني هذه أيضاً.
نظرت إلى حيثُ أشار، قبضت على قلادتها الفضية بيأس ويدها ترتجف:
- لا إلا هذه، إنها هدية من أمي، من أمنا في عيد ميلادي. قالت بإستعطاف.
- أعطنيها وإلا خرجت.
فتحت فمها لتقول شيئاً ما لكنها أحجمت، تأملت قلادتها، كانت على هيئة قلب صغير، في داخله آية "الكرسي"، تطلعت لأخيها وهي تهز رأسها بتوسل، بإستعطاف، بذل لكن أنى للصخر أن يتحرك!!!
مدت يديها خلف شعرها، فكت عقدة القلادة، وكأنها تفك خيوط حياتها، جذورها، حيثُ نفحة الغالية، حيثُ ذكرى والدتها في عيد ميلادها السادس عشر، في آخر عام كانت معهم فيه....
اهتزت يدها، لكأنها تستنكر هذا الفعل المشين، انساب العقد بين أصابعها، فتحت القلب، واستخرجت الآية المقدسة، ضمتها بيدها اليمنى، وناولتهُ قلادتها بيدها الأخرى التي لا تكف عن الاهتزاز......
توسلته بعينيها الدامعتين للمرة الأخيرة، وضعها في جيبه هي الأخرى دون أن يبالي بحديث عينيها....
وسار!!!!!!!!
فتحت عينيها على أشدهما، وهي تعض على شفتها اليسرى، أفلتتها و صرخت بقهر، بألم، بلوعة و بأعلى صوتها:
- محمدددددددددددددد..
لكنهُ كان قد ارتحل، تركها وهي تتأوه، تنشج على الأرض كنشيج الميازيب في مواسم المطر.....
خذلها، أخوها خذلها، من سيبقى لها الآن؟!!
لا يوجد أحد، لا أحد...
نظرت إلى السقف وشهقاتها تتصاعد، ويدها تعبث حيثُ انتُشلت القلادة، ودت أن تخترقه، أن تصل إلى فوق، إلى أبعد نقطة، لعلها تلحق بأمها وأبيها، حيثُ الكرامة، حيثُ لا ذل، حيثُ الأحد!!!!
عادت لتتلمس جيدها الذي بات خالياً، وخزات متلاحقة تصيبها في الأعماق كسهام عمياء، نكست رأسها تبكي على حالها بصمت كما أعتادت دوماً....
تناهى إلى مسمعها دق الباب، أرتاعت في جلستها وهي تلتفت حولها بذعر، الدقات ترتفع وهي تتراجع إلى الوراء بخوف، كانت تريد أن تعدو لغرفتها وتوصدها عليها بالمفتاح لكن الخوف شل من حركتها، لم يسمح لها بما تُريد...
من القادم الآن في عزّ الظهيرة؟!
انفتح الباب، وولجت إلى الداخل بتردد.....
تطلعت إلى الوالجة بذهول، ترمقها بتعجب، لكأنها آخر شخص تتوقع أن تراه...
اقتربت منها "أمل"، ارتمت في حضنها وهي واقفة دون استجابة، تأملت حنايا وجهها الوله، يسبقها الشوق، يرفُل بأعذب آيات المحبة.....
لحظة هذه أخته، أختُ ذلك القاسي، ذلك المجرم، ذلك ال.....
أخفضت من بصرها، عينيها باتتا أصغر حجماً من كثرة النياح، بدت لها رفيقتها ضبابية.....
- لماذا جأتِ الآن؟! قالت وكأنها تخاطب شخصاً من بعيد.
- مريم أنا...
- أنتِ السبب، أنتِ السبب...
لفت وجهها إلى الجانب الآخر، لم تفهم "أمل" شيئاً، وكيف لها أن تفهم؟! مستحيل أن يتفوه ذلك الحقير بشئ..
صدت لها، تنظر إليها بعينين غشتهما دموع أزلية:
- جأتِ لتشمتي بي..لتخبري الفتيات بحالتي، أليس كذلك؟
- مريم ماذا تقولين؟!
- قولي للجميع أني بخير، بأفضل حال من دونهم.
- أنا جأتُ من أجلك، لأنكِ صديقتي، أروع صديقة أكتسبتها في حياتي.
- وإن كنتُ قد تأخرت لزيارتك فلظروف..ظروف خاصة.
- لا يريدونك أن تزوري واحدة مثلي، أخوها مدمن مخدرات وأختها.....
لم تكمل، خنقتها الغصة، ألجمت كلماتها، أجهشت بالبكاء، دموعها باتت رفيقتها اللجوجة، لاتفتأ أن تصاحبها كل حين...
- أنا أمقتكم جميعاً، أخرجوا جميعاً ومن حياتي إلى الأبد..
- مريم أرجوكِ....
- انسي أنكِ تعرفين واحدة بهذا الإسم، انسها ووفري عليّ وعلى نفسك المشقة.
- هذا غير ممكن، غير ممكن البتة، لا ترمي بصداقتنا عرض الحائط.
"صداقتنا ماتت بسببه، ألستِ أخته، ألستِ تشبهينه، دماءه تسري في جسدك، كلكم متشابهون، كلكم".
أبعدتها عنها وهي توقف سيل دموعها:
- لا تعودي إلى هنا مرةً أخرى، وبلغيهم أنّ مريم لن تذل نفسها لأحد بعد اليوم، أبداً، أبداً...
هزت "أمل" رأسها بأسى، دارت لتواري دمعةً تسللت في الخفاء وتراجعت خطوة....
مدت "مريم" لها يدها بجزع، لكنها انتبهت لنفسها ولمت ذراعها.
- انتبهي لنفسك، وتأكدي إن أحتجتِ يوماً لأحد، فأنا موجودة دوماً....
وشرعت بالتحرك، ستذهب هي أيضاً، كلهم يذهبون و..يتركوني!!!
"- أمل" انتظري...
وهرعت إليها لتحتضنها بقوة، لعلها تمدها بالأمان، بالدفئ والحنان في أيام تبدو قاسية جداً....
بكت كلتاهما على كل شئ ولا شئ، على الأيام، على الفراق، على الزمن...
أخ ما أقسى الزمن!!!!
- سلمي لي على سلمى ومنى وك...وكل البنات.
- إن شاء الله.
- وكلما أنهيتي كتاباً أحضريه لي لأسلي به نفسي، وإذا لم تستطيعي القدوم أبعثيه مع السائق.
- ألن تعودي إلى الجامعة؟!
- لاأقدر، لا أقدر، ليس بمقدوري، لاأدري، لا أدري..ليس الآن.
- لاتبكي يا عزيزتي، كوني قوية كما عهدتك.
- سأحاول..أتمنى ذلك. رددت بيأس.
وما نيلُ المطالب بالتمني
ولكن تؤخذُ الدنيا غلابا......
- مع السلامة.
- ستذهبين الآن؟! سألت بألم.
هزت رأسها بإيجاب وهي تؤكد:
- لا تقلقي سأزورك بين الحين والآخر.
- مريم لن أنساكِ أبداً..أبداً.
حضنتها من جديد وهي لاتود إفلاتها، نزعت نفسها غصباً وهي تودعها:
- هيا أذهبي، لقد تأخرتِ عن العودة.
- أعتبر نفسي مطرودة.
- نعم. ابتسمت مريم ابتسامة باهتة.
- مع السلامة.
- مع السلامة.
انصرفت وروحها متعلقة بالواقفة هناك، لحقتها مريم حتى الباب، تحركت السيارة، تابعتها ورأسها يشرأب كل حين..
توارت مع غبار السيارة، التحمت مع حافة الباب، أغمضت عينيها وهي تشهق، عضت على نواجذها وهي تأخذ شهيقاً بطيئاً...
لابد أن تمسح دموعها، فبعد قليل سيصل "أحمد" وهي لا تريده أن يرى دموعها، لا تريد أن تزيد من آلامه، يكفيها سؤاله الدائم عن "ليلى".....
"ليلى، يا ترى أين أنتِ أين؟!"...
وكأنها ارتاعت من وقفتها بالخارج، فدخلت وأغلقت الباب خلفها تنتظر دقات القادم بعد قليل...
كان ينتظرها بفارغ الصبر، قتلهُ الانتظار، وعصفت به خواطره، أفكاره وظنونه كأمواج البحر، تطفو حيناً وتغزر حيناً آخر، لا قرار لها....
لاحت سيارة العائلة السوداء، تنحى عن الباب وهو يوسع الخطى إلى هناك، فتح باب السيارة قبل أن تفتحه، عاجلها بالسؤال:
- ها كيف حالها؟! سأل بلهفة.
لم تجبه فوراً، ترجلت من مقعدها، وجهها يرفُل بآيات الحزن، العينان منطفئتان والوجه ساهم وقد علقت بقايا دموع في حناياه.
- كيف حالها؟! كرر بدون صبر.
- بخير. ردت بإختناق.
تنهد بإرتياح وإن كان صوتها لم يرحه، تطلع لها بتساؤل وهو يرى الدموع تنساب من المحجرين، أمسك يدها بقوة وهو يقول:
- أنتِ تخفين شيئاً، قولي ماذا بها؟! أجيبي...
- إنها..إنها...
- إنها ماذا؟! أجيبي.. سأل بخوف.
- لا أدري، لا أدري.

وأجهشت بالبكاء، أدخلها للداخل، وقلبه يدق بقوة كطبول مجنونة، أجلسها على الكرسي لتهدأ، أخذ نفساً عميقاً وهو يكمل سيل أسئلته:
- ماذا تقصدين بكلامك، أفصحي..
- لو رأيت حالتها، كيف تعيش، لاشئ في البيت، البيت خالي إلا من الجدران، أتصدق كانت لوحدها، لوحدها في البيت.
شهقت وقد منعتها الغصة من أن تكمل، أما هو فتقطع قطعاً صغيرة، انقبضت عروقه وبدا كل شئ ضبابياً بالنسبة إليه..
- كيف لوحدها؟! وأخوها!!
- حين وصلت هناك، كان قد خرج، خرج ذلك المجرم وتركها لوحدها..
"مجرم!! ليس هو فقط، لو تدرين ماذا فعلتُ بها!!".
أطرق برهة، ومئات الخواطر تتقاذف بذهنه، تعتصره عصراً، تقذف به إلى القاع، أكون أو لا أكون..تلك هي المشكلة!!!
تطلع لأخته، لازالت تبكي، أحس بالشفقة لها ولنفسه ولتلك القابعة ليس ببعيدٍ عن هنا....
جفل من نغمة هاتفه، قطع عليه تأملاته السرمدية ورثاءه لنفسه...
نظر للرقم الذي يتوسط الشاشة، كان غريباً، ضغط الزر وأنساب الصوت:
- آلو.
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- السيد خالد ال...؟!
- نعم.
- معاك مستشفى (....) قسم الحوادث.
- أنت معي؟!
- ن..عم. ردّ بتقطع وقد جفّ حلقه.
"- فيصل ال..." سعودي الجنسية، تعرفه؟!
- أجل. هوى قلبه للأعماق.
- لقد أصيب بحادث سيارة، أرجو أن تحضر فوراً.
أغلق السماعة، لم يسمع كل ما قاله الرجل، بدأت الدنيا تدور وتدور كداومة مجنونة، والصفعات لا تتوقف، أينما استدرت انهالت عليك، وتستمر الدوامة في الدوران...

الساعة الآن الواحدة والنصف، و "أحمد" لم يعد بعد، دارت حول الصالة بتوتر، تتطلع إلى الساعة كل حين وتهرع إلى الباب حين تسمع بوق سيارة، أو خطوات إنسان أو حتى دبيب نملة!!!
الساعة قاربت الثانية، أين هو يا ترى؟!
ارتعدت فرائصها..أحدث له مكروه؟!!
شعرت بالجزع، وضعت أصابعها بين شفتيها المرتجفتين، ماذا تفعل الآن..أجيبوني؟!
أبوها ليس هنا...."ليلى" ليست هنا...."محمد" ليس هنا...لا أحد هنا، فقط هي وهذه الجدران التي تخاطبها بجنون...
من سيساعدها، من سيبحث عن "أحمد"...لا أحد، أقول لكم لا أحد...
لا بل يوجد أحد.
يوجد الله ثم .......
هرعت إلى الشماعة، سحبت عباءتها، وانطلقت خارجاً، كادت تتعثر، وصلت لبيت "أم محمود"، جارتها، دقت الجرس بقوة دون أن تتركه ثانية واحدة، أطلّ "محمود" بوجهه، سألته بلهفة:
- أمك موجودة؟!
- أجل، هنا..تفضلي.
- لا، قل لها أريدها فوراً.
حضرت المرأة مسرعةً وهي تعدل من وضع وشاحها:
- ماذا بكِ يا ابنتي؟!
"- أحمد" أخي، لم يعد بعد من المدرسة و...
- اهدأي، اهدأي ربما يلعب مع الأطفال والآن سيعود.
- كلا كلا، إنه لا يتأخر أبداً. "لا يريد أن يتركني لوحدي، يفهمني هذا الصغير".
- طيب، ارتاحي أنتِ وسنبحث عنه.
يتبع ,,,,
👇👇👇
تعليقات