بارت من

رواية ضلالات الحب -16

رواية ضلالات الحب - غرام

رواية ضلالات الحب -16

ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
نهضت، ارتحلت مع جُنة الليل، تلاشى خيالها النحيل بين عينيه، بدا كنقطة بعيدة تنبضُ من بعيد....
نظر إلى السماء وهو يتنهد....
كانت قريبة منك يا "خالد" قريبة إلى حد الجنون!! أمسكتها بيديك هاتين، كادت تتحطم عظامها الرقيقة بقبضتك، شممت رائحة شعرها، شعرها كان النقطة القاضية، كاد يقصمك، وتضيع هي إلى الأبد، إلى الأبد..
ماذا كنت ستفعل يا "خالد"، ماذا كنت ستفعل؟!
تأمل يديه، لازال يشعر بجسدها بين راحتيه، كانت ترتجف وهي تحاول أن تتملص منك، بكت وتوسلت لكن ذلك لم يزدك إلا إصراراً، نشوة الصياد في أن يرى فريسته تتعذب أمام عينيه...
لم تركتها إذن؟! أجب نفسك بصدق....
ربما لأنها ذكرت اسم أخيها "أحمد"، لا تنكر أنك تحبه، أليس يحمل من روحها الشئ الكثير، يحمل براءتها وشقاوتها، في عينيه الصغيرتين تتجسد صورتها، صورتها التي باتت لا تفارق مخيلتك يا "خالد" كيف ستنتزعها الآن، كيف؟!!
كلا كلا ليس هذا فقط، بل لأنها قالت شيئاً آخر، قالت أنها لن تعود، يا تُرى ماذا كانت تقصد؟! لم أفهمها تلك اللحظة، لكنني شعرت بخوفٍ فظيع، خفتُ أن أفقدها، خفت أن تضيع، وأنت ماذا كنت ستفعل بها غير ذلك؟!
كل هذا بسببك يا "فيصل" أنت ومفاتيحك اللعينة، أنت من أدخلت أفكارك القذرة في ذهني، جعلتني أخالها لقمة سائغة مثل أختها ربما..
ولكن هل يرقى الثرى مع الثُريا؟!!
لا أبداً....
يا تُرى ماذا تفعل الآن..كيف هي حالتها؟!!
عاد ليتأمل يديه من جديد، ضمها إلى صدره بقوة وصورتها تتجمع بين عينيه من جديد....
أأنت نادم يا "خالد" على ما فعلتهُ بها؟!

لم أسمع، فقد همس للنجوم بالإجابة!! وأين نحنُ وأين النجوم....
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه ودلف للبيت، مرّ على غرفة الجلوس، توقف أمام الباب برهة لكأنه خشى أن يفتحه فيلوح له طيفها الذي عذبه، حينها لن يتركها أبداً، لن يتركها!!!!
أكمل طريقه لغرفته لعله يجد في عينيه طريقاً إلى النوم...
ماذا كنت ستفعل يا "خالد" ماذا كنت ستفعل؟!!
=============
قلوبٌ تتلوى، والعين تأبى أن يفارقها السُهاد.....
بين الضلوع أُمنية وفي المحجرين دمعة....
آهات متقطعة، متكسرة، تجتاح أروقة أبطالنا...
تنثر الشوك والورود في كل مكان....
مريم..خالد...ليلى... والبقية تأتي.....
يا ربُّ أنت الراحم الغفورُ
وما جرى في جبعتي محفورُ
كان الفراقُ عاصفاً وخافقي
مولاي في عصف النوى عصفورُ
فاجعل جميل الصبر لي مرافقاً
كي لا يضل خطوتي النفورُ

(21)
- أرجوك ابتعد عني، اتركني، أتوسل إليك، لالالالالالالالالالالالالا.
فزت من رقادها، وعرقٌ يتصفد بجبينها، كانت تتنفس بسرعة، وجهها مبلل، ودموعٌ مالحة تجد سبيلاً إلى فمها المرتعش..
أخذت تنتفض، وحرارة مشبوبة تلفُ جسدها، ضمت ركبتيها إلى صدرها وهي تأن بصوت متقطع...
نامت البارحة على الأرض، في حجرة والدها التي أحتلها "أحمد"، والأخير لازال في سباتٍ عميق، لم يسمع أناتها، دموعها، شهقاتها التي لم تتوقف طيلة المساء...
غرزت أصابعها في ثنايا شعرها بقوة، لعلها توقف الطبول المجنونة التي لا تلبث أن تدق رأسها......
صداع، صداع قوي يطفحُ بخلاياها، لا يترك لها المجال لتلتقط أنفاسها، يدوي كل حين....
انسابت الدموع برقة على جيدها، أثارت ملوحتها تلك الجروح التي خدشت بها نفسها، مسحتها بيدها، رفعت رأسها لأعلى قليلاً، تطالع المكان بعينيها المتقرحتين....
لاحت لها صورته بين غلالة دموعها، يتهادى في وقفته بوجهه الأسمر، أغمضت عينيها بقوة لعلها تجعل من جفنيها ستاراً يحجب صورته، عادت لتفحتهما ببطء وتردد، كان قد اختفى لحظتها.....
ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!
ارتكزت بكفيها على الأرض، تحاول أن تدفع نفسها لعلها تنهض، ترنحت في وقفتها، أحست بطيفه يضمها، يمسكها من كتفيها بقوة ويعود ليهمس في أذنيها بتلك الكلمات....
ارتاعت وهي تنكمش، ارتمت على حافة السرير وهي تحمي نفسها من سطوته بإرتجاف....
لكن لا أحد، كانت تتخيل من جديد، ضمت نفسها، وصدرها يعلو ويهبط بفزع كلما تذكرت تلك الليلة التي غاب عنها القمر....
لفّت لأحمد وعيناها مغرورقتان بالدموع....
يداه الصغيرتان توسدتا رأسه، بدا في نومه كالملائكة، دثرته جيداً بما أستطاعت به قوتها المعطلة....
انتبهت لصوت هاتفها الجوال، وهو يُصدر نغمة الرسائل، فتحت حقيبتها وانتشلته...
10 رسائل!!! وكلها من من؟!!
من "أمل"!!!!
الجزء [8] من قصة ضلالات الحب
"مريم، أعتذر لكِ لن أكون موجودة هذا المساء، أتذكرين المفاجأة التي أخبرتك عنها، عن راشد!! تصوري سيقترن بابنة عمي بدلاً من "خالد"، كم أنا سعيدة، باي، وأكرر اعتذاري".
"مريووووم، هل أنتِ غاضبة، ردي عليّ برسالة".
"لا تقلقي سنعود غداً إلى البيت، سأنتظرك مساء الغد"..
ألقت "مريم" هاتفها دون أن تكمل قراءة بقية الرسائل...
أعود!! تريدني أن أعود بعد كل ما حدث؟! كنتُ سأضيع بسببك..لمَ لم تخبريني من قبل لم؟!!
وعادت لتنتحب من جديد بصمت، تقلب "أحمد" في فراشه، فقامت بهدوء....
توجهت إلى الحمام، والدوار يرنحها كل حين....
"إذا كنتُ سأعيش فمن أجلك يا "أحمد"، أما أنت يا "خالد" فلن أسامحك أبداً، أبداً"
وسالت دمعة جديدة على الوجه المتعب، هزت رأسها بقوة لتغتسل من الأدران، أدران الحياة كلها، لعل حرارتها تخفت وتخفت النار التي تلسع صدرها.....
كانت قابعة على مائدة الإفطار، تكونت طبقة متماهية على الشاي، أصبح بارداً لا طعم له كحياتها ربما....
ترفع رأسها لأدنى حركة، لأقل نسمة تجولُ المكان، صوبت ناظريها إلى غرفة والدها، تنتظر أن تخرج...
تُريد أن تراها، لم تنم البارحة أبداً، سمعت صرير الباب، أطلت "مريم" بعينيها الحمراوتين، رمقتها من علو، ثم جرّت يد "أحمد" الذي كان يكابد النوم.
"لم تُلقي حتى التحية!!"
ترك "أحمد" يدها ليتناول الطعام مع أخته، صرخت فيه بقوة أخافته:
- لا تلمس شيئاً، سأصنع لك فطوراً آخر، لا تدري أي يدٍ قذرة صنعته!!
تطلع لها "أحمد" بتساؤل دون أن يفهم شيئاً، أما "ليلى" فنكست رأسها ودموع تأبى التوقف تملأ وجهها، أرادت "مريم" أن تضيف شيئاً آخر لكنها أمتنعت، نظرت لها ببرود واستحقار ودلفت إلى المطبخ..
وما أن وصلت إلى الباب حتى أغلقته خلفها وأجهشت بالبكاء، تهاوت كما تتهاوى الورقة قُبيل الخريف، وتظل الرياح تعبث بها لكأنها لا تدري في أي بقعة تُلقيها، وتدور وتدور في كل مكان، وحين تقع، تتفتت، تتفتت هكذا إلى ذرات، فلا تعرف من أي شئٍ تكونت أو ما هي ما هيتها بالضبط، أكانت ورقة أم ذرات غبار!!!!
لم تدري كم بقت على هذه الحالة، قامت عندما سمعت صوت "أحمد" يناديها، مسحت وجهها بسرعة، واتجهت للموقد، خاطبها "أحمد" من خلف:
"- مريوووم" أنا جائع...تأخرت عن المدرسة.
- انتظر دقائق.
- ليلى ذهبت وهي تبكي..
- أحسن.
- لماذا كانت تبكي؟!
- اسألها.. " إذا كانت تقدر أن تُجيبك".
- طيب سآكل شطيرة من تلك التي أعدتها.
- قلتُ لك لا... "كل ما تمسكه بيديها يتلوث!!".
- لماذا؟!
- لا تكثر من الأسئلة.
وأخذت تسكب الشاي الساخن في "الدلة" وهي تحاول أن تركز.
- لماذا؟!
طالعته بغضب وهي تصرُّ على أسنانها بغيظ:
- أصمت.
- دائماً تصرخون علي. قالها بتباكٍ.

…………………-
- أنا لا أحبكم لا أحبكم.
…………………..-
- لو كان والدي هنا لما...
ولم يكمل، فقد ندت من فمها صرخة ....
كانت مياه الشاي قد انسكبت على يدها دون رحمة، اتحدت مع الجلد، عضت على شفتيها وهي تتلوى على الأرض التي فاض منها الدخان.....
دفنت جبهتها بأرضية المطبخ، اقترب منها "أحمد" بخوف وبكاءه يرتفع، هزّ كتفيها لكنها لم تستجب:
"- مريووم" قومي..آنا آسف.
…………………-
- لن أتكلم مرة أخرى والكعبة الشريفة.
…………………-
- لالا، والله العظيم....مريوووم....لا تموتي...مريووووووم.
وركض كالمجنون إلى "ليلى" تسبقه دموعه وإحساس بالذنب يعتصر روحه، لا يريد أن يفقدها، لا يريد، يكفي أمه، يكفي أبوه، إلا هي، كلهم إلا هي..إلا هي..إلا هي...
- ل..ي..ل..ى، مريووم..مريووم.
أنفاسه تتقطع وغصة تمنع حروفه من الخروج بوضوح، شدّ ثوب "ليلى" التي كانت ذاهلة، غائبة في عالم آخر.
- ق..ومي، مريوم..مريوم..ستموووت.
أفاقت "ليلى" من استغراقها اللامرئي.."ستموت"، تطلعت إليه وكأنها انتبهت إلى وجوده هنا للمرة الأولى.
- ها، ماذا تقول؟!
- قومييييييي.
شدها وهي تسير خلفه كالمسحورة حيثُ المطبخ...
لازال رأسها يلامس الأرض، وقد انتثر شعرها ليخفي معالم وجهها، كانت ساكنة ما خلا من حركة تنفسها الضعيفة....
- ماتت...ماتت. ردد "أحمد" بذهول وهو ينقل بصره بينها وبين "ليلى".
لم تحر "ليلى" جواباً، لازالت فاقدة الحس بكل ما حولها، لكأنها في حالة تأمل صوفية لكل شئ إلا هي!! تطلع لها بفزع لكأن صمتها يؤكد ما كان يردده.
ارتجف فكه بقوة، اقترب من "مريم" جثا بجانبها، لازالت ساكنة في وضعيتها.
- قومي..مريوم.
…………………-
- لالالالالالالا. صرخ بهستيرية.

تعفر على الأرض، ركل بقدميه كل شئ ولا شئ، أخذ يضرب الهواء بيديه وهو ينشج بإختناق......
انتبهت "ليلى" لما يدور حولها، فزت من وقفتها وهي تهرع لأخيها الذي يبدو وكأنّ مسّاً أصابه...
في تلك اللحظة رفعت "مريم" رأسها بضعف وقد أبيضّ وجهها من الألم، بدت عيناها صغيرتان، صغيرتان جداً..
تطلعت "ليلى" إلى حيث تعتصر يدها اليمنى وقد طفح الإحمرار بجلدها، تلاقت عيناهما، أشاحت "مريم" ودوار ساخن يعصف بها...
أستلقت ببطء على الأرض من جديد، لكأنّ أرضيته تخدرها، تحسسها بالأمان، ودت أن تغفو، منذُ زمن لم يداعب النوم جفنيها، وهي متعبة، متعبة وتريد أن تنام، أن تنام فقط.....
لكنّ صراخ "أحمد" أفسد عليها هذا الحلم..ومنذُ متى تتحقق الأحلام؟!!
نادتهُ بصوتٍ ضعيف، تكابد الألم، تكابد الحريق الذي بيدها وتلك المستعرّة بقلبها...
- أ..حمد.
لم يكن يسمع، صوتها أضعف من أن يصل إليه في هذه المعمعة، عادت لتغفو من جديد، جفناها ثقيلان، يتكاسلان حين تهم بفتحهما..
جثت "ليلى" بجانبها بوجل، وهي تشير لأحمد بأن يصمت، سكت وهو يرى تحرك رأس أخته لكأنها تجاهد النهوض..
"لم تمت!!".
- أحمد أسرع وأحضر ضمادة لف ومرهم الحروق بسرعة..هيا.
ركض "أحمد" وكأن الحياة عادت إليه من جديد وقد أقسم مع نفسه ألا يُغضب أخته مرة أخرى، سيطيعها ولن يرفض لها أمراً قط، كلهم إلا هي، إلا هي!!!
عاد بكل شئ، ترددت "ليلى" بإمساك يدها، قالت "لا تلمسيني..يدي قذرة وأنا أصيبها بالنجاسة!!!".
ارتجفت يدها حتى قبل أن تمسكها، كانت الأخيرة تهذي بصوتٍ خافت، لم تكن تحس بشئ من حولها في تلك اللحظة، ما خلا اسماً لا يفتأ أن يلهج به لسانها كل حين....
وكان خالداً!!!!!
البيت هادئ هدوء الأموات، ذهب الأحباب من غير عودة، ذهب والدي و فرّت "ليلى" !!!!
أجل، لا تنظروا لي بغرابة، ارتحلت مع جنة الليل، إلى أين؟! لا تسألوني لأني لا أعلم...
تركت رسالة صغيرة بجانب المرآة كتبت فيها:
"لن أعود، لا تبحثوا عني!!".
ذهبت هي الأخرى، ذهبت مع الريح!!!
كان هذا منذُ شهر تقريباً على مرور الحادثة....
لم يتبق إلا أنا و صغيري ومحمد، الذي يعتقد أن بيتنا فندق يأوي إليه متى يشاء دون أن يدرك بأننا بحاجة لرجل يحمينا...
أنام الآن مع "أحمد"، نغلق الأبواب والنوافذ حين يحل الغروب، نلتصق، ونرتجف عند أقل نسمة تدقُّ بابنا..
يتبع ,,,,
👇👇👇
تعليقات