عادت لتضع أصبعها المرتجف بجنون على شفتيها كما هي عادتها في القسم، رددت بصوت مبحوح:
- أقسم..أقسم لك..والله..والله العظيم لن أعود إلى هنا..لن أُريك وجهي..فقط دعني أذهب.
أبعد يديه ببطء، احتواها بعينيه وهو يقول بتشفٍ وبرود:
- تذكرين ذلك اليوم، أعطيتك خياراً آخر لكنكِ رفضته.
صاح بجفاف:
- أنا مريض..ألم تقولي ذلك؟! والمثل يقول: داوي نفسك بالتي هي الداءُ!!!
حركت يديها المنكمشتين في الهواء بذعر وهي تنفي:
- أنا لم أقصد..لم أقصد شيئاً، سامحني..
- تأخرتِ كثيراً...
ترى صورتها المنعكسة في عينيه، تهتز كذُبالة شموع الأمس، حين تمر عليها هبات النسيم، ويخفت الضوء شيئاً فشيئاً ولا يتبقى إلا الظلام، الظلام الأعمى فقط...
لفت وجهها للجدار تماماً وأجهشت بالبكاء من جديد، تطلع لها بشفقة وهو يراقب اهتزازها...
" أنا لا أملك الخيار، لا بد أن أمسح صورتك من ذهني، يجب...هذا هو الحل الأخير وبعدها ينتهي كل شئ!!!!"
قالت من بين شهقاتها، بإستعطاف، بذلٍ مرير:
- تريدني أن أبتعد عن أختك، سأفعل، فقط..أنا..أتوسل إليك..
- أنتِ لا تفهمين شيئاً..لا تفهمين.
وضرب بقبضته على الحائط بقوة، أجفلت و هوت عند قدميه وهي تنتفض...
كان يريد أن يُطلق كل انفعالاته الهوجاء، يترك لها العنان، صرخ بقوة ليُغطي على الصوت الصغير بداخله، ذلك الذي لا يفتأ أن يحتج على كل شئ وهو يحاول إخراسه للأبد:
- كفي عن البكااء!!
تطلعت إليه من علو، عيناها الدامعتان تتوسلانه، ترجوانه بصمت، تطلبان منه الرحمة، الرحمة فقط....
أدار وجهه ناحية الغرب، يلمُّ قبضته بتوتر..
"لا فائدة..لا فائدة!!"
نكست رأسها، دموعها تتساقط على قدميه بيأس بائسٍ مثلها...
دموعها الحارة أيقظته من سرحانه، تطلع لها وآلاف المشاعر تتقاذف في صدره، لا يستطيع أن يحللها، عاجز عن فهمها تلك اللحظة...
السكون بينهما قد خيم وكأنّ على رؤوسهم الطير، لازال يتأملها وهي مطرقة، لو كان بيدها لدفنت نفسها الآن في الأرض، أسفل سافلين!!!
قالت له بصوتٍ خافت، كأنهُ قادم من بعيد:
- أحمد..أحمد أخي..
- ماذا به؟
- من سيبقى له؟!
- أنتِ..
- كلا....
وعادت لصراخها الهستيري و هي تهزُّ رأسها:
- أنا حين أخرج من هنا لن أعود إلى هناك أبداً..أبداً..
- ماذا تعنين؟! سألها بخوف.
نظرت إلى الجانب الآخر وهي تضمُّ يديها بقوة إلى صدرها وفمها يتجعد من جديد:
- أريدهُ أن يربى نظيفاً، لا أريده أن يعيش مع القذارة بعد اليوم...
نظر لها بصدمة يحاول أن يستشف مغزى كلامها!!!
صدرها يعلو ويهبط في حركات متتالية، نكست رأسها أكثر وهي ترتعش، تنتظر مصيرها، ومصيرها بيد جلادها!!
تذكرت الدجاجة التي اصطادتها مع أخيها "أحمد" ذلك اليوم البعيد القريب كالأمس، وجاء اليوم فغدت هي تلك الدجاجة، تلتفت يميناً وشمالاً، تحاول أن تجد لها مفراً ولكن هيهات...
رفعت رأسها لجلادها تلك اللحظة، أتُراه سيقضي على حياتها؟!!
"باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!"
تحرك بعيداً، بعيداً بما يسمح لها أن تتنفس بحرية، دون وجود جزيئات أخرى تشاركها الغلاف الجوي....
فتح الباب دون أن يلتفت، مرّ وقت طويل قبل أن يقول:
- اخرجي بسرعة قبل أن أغير رأيي...
وانصرف من غرفة الجلوس وهو يصفق الباب خلفة بقوة!!
أما هي فقد تهاوت كلياً على الأرض، انزلقت ببطء تُريح أطرافها الممزقة، تستمدُّ منها الأمان، تحضن نفسها غير مصدقة نجاتها...
تنفست ببطء وعيناها مغمضتان، تلهج بالحمد بلسانها مراراً وتكراراً...
وكأنها ارتاعت من جلستها في هذا المكان المشؤوم، قفزت من مكانها وكأن أفعى لسعتها، وبالرغم من الثقل الذي برجلها إلا أنها انطلقت كالمجنونة وهي تلهث، تلتفت خلفها كل حين وكأنّ شبحاً يجري خلفها!!!!!!!!!
مريم يا دمعةً في الخد...سيري...
برعاية الرب سيري....
لم أشأ ولم تشأ حروفي....
لكنها قسوة الأيام..قسوة الزمن الغادر...
زمن حين لا أم ولا أب و لا أحد.....
زمن حين تتراقص الفراشات حول فوهة البركان دون هُدى....
آه، ما أقسى الزمن!!!
أعلم أنّ اعتذاري لن يكفيك ولكن كلي أمل أن تسامحيني يوماً.....
في السماء نجوم تهوي...
وفي الأرض زهور تتفتح!!!!
ولاندري ماذا يُخفي الليل في جلبابه...
مداد حبري قارب على النفاد....
وضلالات الحب كادت تصل....
وللقصة بقية فانتظروها......
كان ما شئناهُ وانتهينا....
فهل أرحنا خافقاً وعينا؟!
(20)
قدماها لازالتا تتراقصان من الخوف، تنفست بقوة وهي تستند بضعف على الباب، غطت وجهها بيدها اليسرى لعلها تُبعد صورته، لمسته، همسته التي لا تفتأ تدوي في أذنيها بطنين مجنون..
أكملت وهي تجر نفسها لعلها تصل إلى غرفتها، توقفت هنيهة وغصة في الداخل تمزقها تمزيقاً، أحنت رأسها وهي تمسك بعنقها وتعود لتقبض على صدغها ورغبة بالغثيان تعتريها كل حين....
رنت ضحكة ماجنة في الغرفة المقابلة، اعتدلت في وقفتها تصيغ السمع، كل ما تراه يبدو هلامياً، غير حقيقي، هل أنا أنا وهل نحنُ نحن؟!!
"في أي عالمٍ نعيش..أخبروني؟!!"
فتحت الباب دون أن تطرقه، كانت مستلقية وهي تعبث بخصلةٍ ناشزة من شعرها ويدها الأخرى ممسكة بالجوال..
رفعت "ليلى" وجهها للقادمة وكأنها آتية من سفرٍ بعيد، تراتيل الرحيل أزفت، رسمت سطورها في حنايا الوجه النحيل، في العينين ذبول وعتاب، عتاب طويل بطول الليل، بطول أروقة العذاب ومتاهات الزمن....
أخ ما أقسى الزمن.....
أغلقت "ليلى" هاتفها، وهي تنظر بخوف وقلق لأختها، لازالت تنظر إليها بألم، أما تراه الآن دموع تهطل من عينيها السوداوين؟!!!
اقتربت منها والأخيرة تصارع لتقف بإعتدال وقدميها تخوناها، لا تفتأ أن تنثني والرغبة بالتقيؤ تتزايد كألسنة اللهب، لتحرق كل شئ، كل شئ.....
لمست "ليلى" كتفها فأجفلت، رفعت رأسها وهي تنظر لها بشزر، أبعدت يدها عنها وهي تصرخ بصوتٍ مبحوح عُيّل من كثرة الصراخ:
- لا تلمسيني..
رفعت "ليلى" حاجبيها دهشةً، أكملت ويدها تقبض على عنقها من جديد:
- قذرة مثلك تصيبني بالنجاسة.
ارتفع صدرها بقوة مرةً واحدة وتوقف، آلاف الكلمات تتصاعد في جوفها، لاتعرف ما تختار والأخيرة تنظر لها دون أن تستوعب شيئاً.
- لم أتوقعك بهذه الحقارة أبداً، أيتها...أيتها ال...
واحتقن وجهها من جديد، شدت حجابها بعنف وألقته، صدت لأختها التي كانت تتراجع إلى الوراء.....
كان وجهها ممتقعاً هي الأخرى، قالت بإنكسار وأطياف الحزن تتجمع من جديد لتخدش ما بقى في الصورة من لمعان:
- لماذا؟! لماذا؟! لماذا قولي لي...أجيبيني لماذا؟! أنتِ أنت يا بنت أمي أنتِ!!
ولطمت وجهها لعلها تفيق من هذا الكابوس، لعلها كانت تحلم وكل ما حدث هو من وحي الخيال فقط، فقط يا ليت.
بدأت حبات العقد تنفرط، تدحرجت إلى آخر بقعة، هناك في الزاوية....
تطلعت "ليلى" حولها بعين زائغة وقلبٍ راجف...أتراها عرفت؟! كيف؟!!
- ساقطة...ساقطة.. قال ساقطة...
هزت رأسها وهي تردد بهمس ذاهل وتُحرك أصابعها النحيلة في الهواء، وضعتهم على فمها المرتعش وهي تكررها بهمس دون تصديق، نظرت "للساقطة" وكأن مرآها أفاقها من ذهولها، تغضن وجهها وهي تنظر لها بقرف:
- كل شئ توقعته منكِ إلا هذا إلا هذا، لم لا تتكلمين ها؟! أم أن السفالة عقدت لسانك أيتها الفاسدة الحقيرة، أنت عار، كومة عار...
……………………-
- منذُ متى أجيبي؟! منذُ متى؟! لم تحترمي حتى أبي في قبره، لا سامحكِ الله لا سامحكِ لا سامحكِ الله.
ونشجت دون توقف كسيلٍ فوار ولكن في بركةٍ آسنة لا قرار لها...
……………………..-
- ماذا فعلتِ بنا أنا وأحمد..سودتِ وجوهنا، ألم يكفنا "محمد" لتكملي أنتِ؟؟!
الأظافر تخربش ذلك الجيد دون شعور، تسللت خطوط وردية بان سناها على صفحة الجلد الأبيض، تقدمت منها "ليلى" بوجل لتوقف عويلها، وما أن أمسكت يدها حتى أتحفتها بصفعة قوية على وجهها أودعت فيها تلك اللحظات، تلك الكلمات، ذلك الذل الذي عاشته بسببه وسببها..
تردد صدى الصفعة في أرجاء الحجرة الخالية من عروشها، وضعت باطن كفها على خدها وهي منكسة رأسها وعضلة صغيرة أسفل فمها تنبض بوضوح....
تطلعت "مريم" إلى يدها التي تهتز بتعجب وكأنها انتبهت أنها الصغرى وتلك أختها الكبرى، صدت لليلى، كانت تشهق بصوتٍ كتوم، لكن قلبها أقسى من أن يتأثر بدموعها..
ماذا بعد ذلك؟! لاشئ يهم..لاشئ...
- تبكين؟! الآن تبكين بعد فعلتك السوداء، مثلك لا يبكي، مثلكِ إن كان فيه ذرة دم، ذرة حياء باقية، يدفن نفسه..
تصاعدت شهقاتها هذه المرة بقوة، بصوتٍ مسموع، لم تبالي بها، لو بيدها لقتلتها، لاقتلعت وجودها للأبد، ألم تكن قاب قوسين أو أدنى من الهلاك بسببها، كان سيدمرها وتضيع في زمن لا يرحم، في زمن يوصد بابه للأبرياء ويفتح ذراعيه للقذرين أمثال تلك ال...
وعادت لها الذكرى المشؤومة، الصور لاتلبث أن تتراقص أمام عينيها، وطيفه الكريه يحيط بها، يُضيق الخناق عليها، لا تصدق أنهُ تركها، حياتها كانت ستنقلب على عقبيها، ستتدمر، كيف أحبته يوماً، ذلك الحقير..ّذلك القذر وهذه القذرة يناسبان بعضهما تماماً!!!!
تطلعت لها بإشمئزاز وكأنها تقيم بعوضة، لا أكثر أو أقل....
رفعت رأسها وهي تجهش بالبكاء، تنظر إليها بذنب، كتلميذة صغيرة تنتظر الرأفة بالحكم عليها، الرأفة فقط لا إلغاء القضاء..
:- مريم" أنا...
- اخرسي، لاتنطقي اسمي على لسانك القذر أبداً.
- أسمعيني أرجوكِ.
- أسمعُ ماذا؟ أسمع دناءتك؟
- أنا كنتُ متزوجة و....
وتوقفت "مريم" عن الحركة، جمدت في مكانها وقد أخرستها المفاجأة.
- تزوجتِ؟!!
- أجل من "أبو محمد".
- تزوجته؟!! تساءلت بذهول.
- أجل تزوجته..ع..عرفياً.
- عرفياً؟! منذُ متى؟
- منذُ...لا يهم.
…………………-
- مريم هو ......
قاطعتها وكأنها تخاطب نفسها:
- متزوجة وساقطة!! كيف!! ؟!
انتحبت "ليلى" وهي تصرخ:
- أرجوكِ لا تقوليها، لا تقوليها، أقبلها من الكل إلا منكِ.
- ساقطة ساقطة ساقطة.
كررتها وهي تصرخ بلارحمة، كانت تتقرح من الداخل، وخزات تنشبُ في صدرها، تدمي ذلك القلب الذي توسّد بين الضلوع...
تهاوت "ليلى" وهي تضرب على ركبتيها، وقد فرشت لها من الأرض دثاراً تنوح عليه، تنوح على ما آلت إليه حياتها، في السر نحنُ أفضل بكثير، لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئ أحداً أبداً....
- ماذا كان ينقصك حتى تسلكي هذا الطريق، أفهميني يا بنت أمي أفهميني؟!
قالت قليلاً وبكت كثيراً، تصمت لتمسح وجهها الذي أغرقه الدموع، وتلك الواقفة تسمع ولا تسمع....
الوحدة، الفقر، والحب..ثلاثي البؤس!!!
كانت تردد اسم "ٍسلمان" بذهول السكران، وكأنهُ السبب في كل ما حدث!! وتلك تحدجها بنظرات تتماوج بين الرثاء والكره!! والأخيرة تتمسح بأقدامها تطلب منها أن تفهمها، أن تقدر أسبابها، و"مريم" جامدة كصخرة..
لا تنحتي، ما عاد يُجدي النحت....
- كل هذا لا يشفع لكِ أبداً، أبداً، أتعرفين لماذا؟؟
نشجت "ليلى" من جديد وهي تتكور على نفسها.
- أسأليني لماذا؟! صرخت بحشرجة.
- لأنكِ ساقطة منذُ الأساس...
وارتفع صوت صياحها ليقطع سكون الفضاء، تأملتها "مريم" لدقائق ثم سحبت حقيبتها المُلقاة، ودثارها وشرعت لتخرج، انتهبت "ليلى" لحركتها، رفعت رأسها بذل وبعينين ذاويتين سألت:
- أين ستذهبين؟
- إلى جهنم، في أي مكان لا يحوي القذرين مثلك.
وصفقت الباب خلفها، ارتمت وجسدها يهتز بعنف، يرتج مع شهقاتها التي تلجم أنفاسها....
الليل طويل، وقد مدّ دثاره ليغطي على الجميع، ليُغلف خفايا الأنفس، يحجبها عن الآخرين، يحجب سوءاتهم، ولكن الأيام تأبى ذلك، لأنها ببساطة ترفض أن تخبئ أحداً، وقد حان الوقت لإقصاء كل شئ، كل شئ ما عدا الحقيقة!!!!!
يمشي ببطء ويتوقف ليمسك سياج المزرعة بقوة لكأنهُ يودّ تحطيمه، أبعد ذراعيه وضمهما إلى صدره، ذهنه شارد بالراحلة منذُ قليل، حين تركها توارى في المزرعة، راقبها وهي تتلفت خلفها برعب كل حين، أدمتهُ تلك الحركة، وحين سقطت على الأرض هوى قلبه إلى الأعماق، كاد أن يهرع لها لينهضها لكنهُ أمسك نفسه..
بقت على هذه الحالة لفترة طويلة خالها دهراً، كانت تلم نفسها بعجز وهي تغطي وجهها بكفيها وتبكي...
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك