رواية الملعونة -10
أمطرت سماء عينيها العسليتين وهي مستلقية على سريرها وناصر بجانبها . نام بعد أن أرهبها بصراخه واتهاماته بأنها السبب في فشله ، وتجرأ وضربها هذه المرة . بكت بمرارة وتذكرت عماد وقسوته عليها يوم ذهبت لزيارته . ليتها لم تذهب ولم تذل نفسها أمامه .أحست بالندم والألم وهو يأكل روحها ويتعبها وأثر الضربة القوية التي وجهها ناصر تؤلم كتفها تمنت لو تخنقه وهو نائم وتتخلص منه لكنها لم ترد ارتباك حماقة فخرجت من الغرفة بدموعها وبكائها . جلست على إحدى الكنبات تعبث بجهاز الكمبيوتر المحمول الذي تستخدمه نادرا وهي تفكر بترك المنزل بعدما حدث والذهاب لمنزل والديها ولكنها أيقنت بأن والدها سيعيدها رغما عنها . لم تكن تذهب لمنزل والدها كثيرا لإحساسها بأنه خرجت منه بإذلال وذهبت لتعيش مع ناصر رغما عنها . شعرت بكآبة وحزن عميقين ، وفكرت بزيارة طبيب نفسي أو استخدام أي دواء قد يريحها مما تعانيه وأخيرا غفت على الكنبة بعد أن قضت ليلة حزينة واستيقظت وهي تفكر به .
كان عماد يقود سيارته متوجها لمزرعته بعد عودته من الشركة مباشرة فزوجته ستبقى في المستشفى مناوبة لأربع وعشرون ساعة ، كان يسير بسيارته بمحاذاة شاطئ الخليج في سيهات يستمع لفيروز تغني ...
" ع هدير البوسطة الكانت ناقلتنا
من ضيعة حملايا على ضيعة تنورين
تذكرتك يا عليا وتذكرت عيونك
يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين "
وصل إلى القطيف وسلك الطريق المؤدية إلى المزرعة بسمائها الصافية التي تزينها الطيور البرية . دخل إلى الاستراحة بدل ملابسه ووضع القبعة على رأسه واتجه مباشرة إلى إسطبل الخيول . سرج خيله وركبها وراح يمشي ببطء ونسمات الهواء الجافة تداعبه والشمس توشك على الغروب لتأذن بحلول الظلام . صلى المغرب واستلقى على الأرض وهو يشعر بالراحة لوجوده وحده ، لا يعكر صفوه أحد وهو في حالة هدوء وتصالح مع نفسه ، وعندما اتصلت به ريم لم يجبها رغم اتصالها المتكرر .
عادت ريم من المستشفى صباح اليوم التالي منهكة بعد انتهاء مناوبتها الحافلة بالكثير من العمل وعدد كبير من الولادات في الليل . لم تجد عماد في البيت ولا نائما في سريره ، فاستحمت واتصلت به عدة مرات لم يرد عليها . شعرت بالغضب فهي لا تعرف عنه شيئا منذ الأمس وإحساسها يخبرها بأنه يتعمد تجاهلها . ارتدت عباءتها وأمرت السائق بالتوجه لمنزل والديها . ذهبت بدموعها وغضبها واستياءها من زوجها الذي لا يهتم بها وهم في الأشهر الأولى لزواجهما ، كم هي بداية تنبئها بحياة باردة وتعيسة وخالية من الحب والعاطفة . تمنت لو تعرف ما الذي يشغله عنها ولماذا يتجاهلها . لم تعلم بأنه يعيش بأفكاره وذكرياته مع امرأة أخرى . لم تتمنى شيئا كما تمنت أن تفتح قلبه وترى ما فيه فربما تفهم أسباب بعده وبروده . لو فتحت قلبه لوجدت كاميليا مستلقية بأريحية وهدوء . وكما هي تعيش في عذاب من جراء تجاهل زوجها فحبيبته تعيش عذاب أيضا . هم الثلاثة يشتركون في عذاب واحد . وجدت أمها في المطبخ ، وسرعان ما هبت لها عندما رأتها تدخل بدموعها . بكت على كتف أمها بحرقة وهي تقول :
- لا أعرف عنه شيئا منذ الأمس .. هو لا يهتم لأمري ولا يحبني .. اتصلت به عدة مرات ولم يكلف نفسه عناء الإجابة علي كما أنه نام خارج المنزل .
- ألم تتحسن طريقته في التعامل معك .
- هو لا يعرف عني شيئا .. نحن نعيش كغرباء في بيت واحد .. ولا يتذكرني إلا في غرفة النوم .
رن هاتفها الجوال كان المتصل عماد فآثرت عدم الرد عليه لكن أمها طلبت منها إجابته ، فردت على مضض :
- آلو .. أين كنت منذ الأمس .. ولماذا لا ترد على اتصالاتي ؟
- أنا في المزرعة وسأعود بعد آذان المغرب .. هل عدت من المستشفى ؟
- عدت قبل قليل وأنا في منزل والدي .. وعندما تعود من المزرعة تعال هنا لنتفاهم .
أغلقت الهاتف وراحت تمسح دموعها وهي تقول لأمها :
- لماذا تزوجني إذا كان لا يريدني ؟ .. أنا السبب رفضت الذي يحبني وتزوجت من لا يحبني .
اقترحت عليها أمها الذهاب لامرأة مكشوف عنها الحجاب لتعرف سبب جفاء زوجها ، فقالت لها :
- لن أذاهب لأي مكان فهذا ما كان ينقصني .. أذهب للمشعوذين ليحلوا مشاكلي الزوجية .
- أم يوسف ليست مشعوذة .. هي ستقرأ القرآن الكريم وستقول لنا عن السبب الذي يجعل عماد بعيدا عنها .
شعورها باليأس جعلها تردد فقالت :
- أنا الدكتورة ريم أذهب للمشعوذات وأرى لماذا زوجي لا يحبني .
وافقت ريم بعد أن أقنعتها أمها بأنها لن تخسر شيئا ولن يتعرف عليها أحد ، وذهبت معها بالسيارة إلى المنزل تلك المرأة الكائن في أحد أحياء " حلة محيش " القديمة والمتهالكة . توقفت السيارة في بداية الشارع الضيق ومشيا بسرعة متجهين لمنزل أم يوسف . كانت ريم خائفة وهي تنظر إلى البيت القديم الذي توقفت أمها عند بابه ، بدا مخيفا ورائحة كريهة تنبعث منه . رفضت الدخول وأرادت العودة إلى السيارة لكن أمها أمسكت يدها بقوة ودخلت بصحبتها . جلسا في الصالة حيث تجلس عدد من النسوة المنقبات ، وكل واحدة تدخل لغرفة أم يوسف حسب دورها . تفاجئت ريم من وجود عدد من الفتيات الصغيرات يخرجن من غرفة أم يوسف . وجاء دور ريم فدخلت مع أمها إلى الغرفة ووجدت أم يوسف مختلفة عن الصورة التي رسمتها لها . وجدتها امرأة تبدو في الأربعين من العمر ، وتجلس على مكتب وأمامها مصحف كبير وعدد من الأوراق البيضاء ودفتر صغير وجهاز كمبيوتر . قالت أم يوسف :
- أنا لا أستقبل سوى الحالات الطارئة يومي الخميس والجمعة .. من منكما بحاجة للمساعدة .
أجابت أم عصام :
- ابنتي .. تزوجت من قريبها منذ عدة أشهر لكنه لا يهتم بها ويتجاهلها .. هو بعيد عنها ويعيشان كغريبين في بيت واحد .
- ما هو أسم ابنتك ؟.
- ريم بنت نورة .. وزوجها عماد ابن سميرة .
كتبت المرأة الأسماء على الورقة وفتحت القرآن الكريم وقالت :
- سورة الطور .
وسكتت للحظات ومن ثم سألت ريم :
- هل كنت تريدين الزواج بآخر ؟.. أو مترددة بينه وبين آخر .
سكتت ريم مندهشة من الكلام المرآة وأجابت أمها نيابة عنها :
- تقدم لها عماد وشخص آخر في الوقت ذاته .. وابنتي ترددت ومن ثم اختارت عماد .. وهي تشكو من تجاهله لها من خطوبتها وحتى الآن وهو لم يتغير .
- يبدو لي بأن فتاة من عائلة زوجك تريد الزواج به ولذا عملت له عملا ليصده عنك ، وأسمها من أربعة أحرف.
أجابت أم عصام :
- من أين جاءت هذه الفتاة .. في عائلته لا توجد بها فتاة غير متزوجة سوى أخته .
أطرقت المرآة مفكرة ثم قالت :
- إذا عماد يعرف امرأة من خارج البلاد وهي من عملت له العمل .. ولدي علاج مناسب لمثل هذه الحالة .. والعلاج يبدأ بألف وخمسمائة ريال .
أخرجت نورة من حقيبتها ثلاثمائة ريال وأعطتهم للمرأة وعادتا إلى المنزل جلستا في الصالة وقالت ريم لأمها :
- إنها كاذبة .. وغير موضوع ترددي بين عماد وعادل لم تنطق بكلمة صحيحة .. وأي فتاة هذه التي تريد الزواج بعماد؟. كما أنه لا يسافر إلى الخارج وحده .. هذه المرأة محتالة .. كيف وافقتك على الذهاب لها .
بقيت ريم مع أمها تنتظر عودة عماد لترى ما ستفعله معه . أقنعتها أمها أن لا تتحدث معه إلا في بيتهما ، وعندما جاء أصطحبها إلى المنزل وهو يعرف بأن شجارا ينتظره . جلسا في الزاوية الفرنسية . ظلت ريم صامتة ومستاءة وهو لا يعرف كيف يبدأ بالحديث معها ، فقال لها بأنه قضى وقتا ممتعا في المزرعة ودعاها للذهاب عصر الغد ، فردت عليه بحدة بأنها لا تريد الذهاب معه لأي مكان . وسألها ببرود :
- ولماذا أنت غاضبة ؟
اقتربت نحوه وأجابته وقد أغاظتها لا مبالاته :
- لأنك ذهبت إلى المزرعة ونمت هناك ولم تكلف نفسك عناء إخباري .. كنت أتصل بك ولا تجيبني . تأفف وقال لها بضيق :
- لديك مناوبة في المستشفى فماذا تريد مني ؟
فاجأته بسؤالها والدموع أندت عينيها :
- لماذا تزوجتني يا عماد ؟
كررت عليه السؤال مرة أخرى وسكت وهو يتأمل وجهها وهو يحمر . بلع ريقه وقال لها بهدوء محاولا التملص من الإجابة :
- ولماذا يتزوج الناس ؟!
كانت على وشك البكاء عندما صرخت :
- يتزوجون ليحبوا بعضهم ويعيشوا بهناء واستقرار ويكونوا عائلة جديدة .. لا ليتجاهل الزوج زوجته ويدير لها ظهره .. لم أتخيل بأني سأعيش معك حياة زوجية تعيسة كحياتي هذه .
كان مصدوما من كلامها فسألها :
- وهل أنت تعيسة معي ؟
- نعم .. وهذا البيت الكبير ولوحات الرسام الإيطالي الذي أعطيته الآلاف لا تعنيني .. أنا أحب الرفاهية لكني أفضل السعادة عليها .. منذ خطوبتنا وأنا لأشعر بغير الغم والكآبة .
وبكت بقوة وهي تقول له :
- لماذا تتجاهلني .. ولماذا تزوجتني إذا كنت لا تريدني ؟.. لو تزوجت بابن عمي عادل الذي يحبني بصدق لحاول أن يسعدني بأي ثمن .
نهض من مقعده وقال لها بدهشة :
- وهل أنت نادمة على زواجك بي ؟
- الناس يحسدوني على زواجي بك وهم لا يعرفون طبيعة الحياة التي أعيشها معك .
فرك جبينه بأصبعه وقال :
- كلامك قاس جدا .
- وأنا تعبت منك يا عماد .. أنا لا أفهمك أبدا ..أنت دائما ..
أرادت أن تكمل فأشار لها بيده وطلب منها أن تتوقف عن الكلام فيكفيه ما سمعه . صرخت في وجهه مجددا مستنكرة رفضه للحوار معها ، فهو لا يريد مواجهتها أو مصارحتها .. أخذ مفاتيح سيارته وخرج .. تركها تبكي وتندب حظها الذي جعلها تترك عادل الذي تعرف بأنه يحبها منذ سنوات وتحمل رفضها وطلبها للزواج عدة مرات .
أوقف عماد سيارته أمام منزل والديه ، ودخل بخطى بطيئة والتقى بأمه عند الباب وهي بكامل زينتها ، سألها:
- هل أنت خارجة ؟
- نعم سأذهب لاصطحاب ندى وزوجة عمك وسنذهب إلى حفل زواج في الدمام .
قال لها بأنه جاء لرؤية نسرين فأخبرته بأنها خرجت مع صديقاتها . سألها :
- إلى أين ؟
- السوق ثم المطعم ولا أعرف أين ستنتهي سهرتهن .. ربما في منزل عمتك .
تنهد بصمت فسألته :
- ما بك ؟.. هل تشاجرت مع زوجتك ؟
لم يتجرأ على إخبار أمه بحقيقة شجاره مع ريم لأنها ستلقي عليه محاضرة لا يود أن يسمعها ، فكذب وأخبرها بأنها خرجت للقاء صديقتها . عرض عليها أن يوصلها لمكان الحفل لكنها فضلت الذهاب مع سائقها . ركب سيارته مجددا وهو ما يزال يشعر بضيق مما قالته ريم ، وتساءل بداخله هل كانت تقصد الكلام الذي قالته أو دفعها الغضب لذلك ؟ ألم تكن تدري قسوة كلماتها لكونها منفعلة وغاضبة وقالت كل الذي تخبئه في قلبها ؟
اتصل بماجد وأخبره بأنه قادم لزيارته في بيته . جلس معه في مجلسه وأخبره بكل ما جرى بينه وبين زوجته، فوبخه :
- ماذا تظن نفسك يا صديقي ؟ .. لن تتحملك المرأة وأنت بهذه الطباع السيئة .. يجب أن تكون لطيفا معها .
مرر أصابعه في شعره الأسود وقال :
- لست سيئا لهذه الدرجة .
- النساء بحاجة إلى الحب والحنان والاهتمام .. لا إلى التجاهل والسرحان .. أقولها لك للمرة الألف .. المرأة عاطفية بطبعها .
تأفف وقال :
- وماذا أفعل ؟..أنا لا أستطيع أن أحبها كما لا أستطيع نسيان كاميليا فأنا مازلت أفكر بها .. هي تتملكني ومازلت أحبها حتى هذه اللحظة .
سكت ماجد من هول دهشته وهو يرى صاحبه يضع رأسه بين يديه ويتنهد بعد اعترافه ، فسأله :
- ومن تكون كاميليا هذه ؟ .. هل تعرف إحداهن غير زوجتك ؟
تنهد بقوة وأجابه :
- أعرفها منذ سنوات وقبل زواجي .. هي من غيرت رأيي بالزواج وجعلتني أبني المنزل من أجلها على الطريقة التي أرادتها .. ثم كافأتني وتزوجت بآخر .. تزوجت ومازلت تقف عائقا بيني وبين السعادة والراحة ..أنا أحبها من كل قلبي يا ماجد ..أحبها .
سأله ماجد عن هوية كاميليا وكيف عرفها ، فتملص من إجابته :
- وماذا تريد منها الآن .. دعها وشأنها فهي تزوجت وأنا تزوجت وانتهى كل شيء .
هز ماجد كتفه وخاطبه بحدة :
- كلا لم ينتهي الأمر .
وأكمل توبيخه ووضح له بأن تفكيره بها خيانة في حق زوجته ، وأنهى حديثه :
- ما تفعله لا يجوز يا صديقي فزوجتك قريبتك وهي إنسانة محترمة .. يقول الأمام الشافعي .. عفو تعف نسائكم .
قال له بحدة وهو يتذكر ما حدث بينهما الليلة :
- وماذا أفعل معها ؟.. لا أحبها وأعرف نفسي .. تركتها تبكي في المنزل .. زواجي منها كان خاطئا .. ظلمت نفسي وظلمتها معي .
قال ماجد بلين محاولا إقناعه بإخراج كاميليا من فكرة :
- أنسى تلك المرأة التي تركتك وتزوجت بآخر هذه واحدة ممن قال الإمام علي عنهن قبل أربعة عشر قرنا ..
" دع ذكرهن فما لهن وفاء ريح الصبا وعهودهن سواء
يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه وقلوبهن من الوفاء خلاء "
سكتت للحظات وهو مغمض العينين فأبيات الشعر تنطبق على كاميليا ثم قال :
- لو يرجع الزمن إلى الوراء لما اندفعت نحوها بجنون .. لقد اندفعت نحوها وأحببتها كالأبله .
دعاه ليكون لطيفا وودودا مع زوجته ، وعرض عليه أن يسافر معها أي مكان فهو لم يسافر معها منذ زواجهما . وأنهى كلامه باقتراح :
- أذهب إلى شرم الشيخ أو دبي فهذا أضعف الإيمان .. دعها تأخذ إجازة من عملها وسافرا ليومين أو ثلاثة .
عادت كاميليا إلى منزلها بعد نهار قضته مع صديقتها في التسوق والعشاء خارجا عن منزلها ومشاكله . أمضت وقتا ممتعا معهما خاصة بعد أن أخبرها ناصر بأن سيسهر مع أصحابه ولن يعود مبكرا . كانت تعرف بأنه لن يعود قبل شروق الشمس كعادته كل ليلة جمعة فهو يجتمع مع أصدقاءه في الخبر كما يخبرها ، وفي الشقة المشبوهة كما أخبرتها ناهد . يقضي وقته معهم في لعب الورق والشرب الذي يصل إلى السكر أحيانا .توجهت مباشرة إلى المطبخ وأخرجت من حقيبتها الدواء العشبي الذي أشترته لمعالجة الكآبة وابتلعت حبة وشربت رشفة من الماء .سكبت لها كأسا من الكولا ووضعت به عدد من مكعبات الثلج وهمت بالخروج عندما سمعت صوت ناصر وهو يضحك بصوت مرتفع وغرفة الخادمة هي مصدر الصوت . شعرت بقلبها ينقبض بقوة فخرجت من المطبخ بخفة وأطلت من النافذة لتتحقق من وجود سيارته ، فوجدتها قابعة تحت المظلة فهي لم تنتبه لوجودها عندما دخلت .عادت إلى المطبخ مرة أخرى ووضعت يدها على مقبض الباب بتردد ، وعندما فتحته وجدت ناصر مستلقي على بطنه والخادمة تدلك ظهره العاري . شهقت ونهض هو أمامها ، ظلت ساكتة للحظات ..ثم بصقت في وجهه وخرجت ودموعها تسيل بحرارة على خديها . لحق بها وهي تستعد للخروج ، أمسك بيدها وقال :
- دعيني أشرح لك ما حدث
صرخت فيه :
- وماذا تشرح ؟ .. رأيتك بعيني ولم يخبرني أحد ..أيها السافل ..أنت لا تتوب ولا يمكن أن تتغير .. لن أبقى في هذا المنزل دقيقة واحدة .. وستطلقني رغما عنك يا نذل يا منحط .
ضحك وقال :
- قبل أن تخرجي عليك أن تعرفي بأني رجل .. وفشلت معك أنت فقط لأنك باردة وحتى العلاج لا ينفع معك .. لكني نجحت مع الخادمة عدة مرات .
بصقت في وجهه وخرجت من المنزل . كانت تبكي وتنتحب بقوة والسائق يتوجه إلى منزل والديها في منتصف الليل . طرقت الباب ودخلت ببكائها ودموعها وصدمتها . ألقت بنفسها بين ذراعي أمها أمام استغراب والدها وأختيها . بكت كما لم تبك من قبل ، كانت تحس بالذل والمهانة رغم كرهها لزوجها الذي تزوجته رغما عنها ، إلا أ الخيانة جارحة . سقطت أرضا وغابت عن الوعي بدون أن يعرف والديها سبب حالتها المريعة .
استفاقت وهي على سرير الطوارئ بالمستشفى . كانت شاحبة ومتعبة والمحلول السائل مغروز في وريدها ، تشعر بالألم من وخز الإبر المهدئة . وجدت والديها حولها يسألانها عما حصل وخصوصا أن ناصر لم يجب عندما حاول والدها الاتصال به . بكت بمرارة أحرقت قلب أمها ، وقالت بألم وانكسار وعينيها تائهتين لا تنظران لشيء :
- هذا من أرغمتني على الزواج به يا أبي .. وجدته عاريا في غرفة الخادمة وهي تدلك ظهره .. وأخبرني بنفسه بأنه أقام علاقة معها عدة مرات .
وانتحبت مجددا وأمها تشاركها دموعها ، فقبلت جبينها وطلبت منها أن تهدأ حتى يجدوا حلا مع ناصر . قالت لوالدها بصوت متهدج معاتبة :
- هذا الذي سيصونني وسيحافظ علي .. لن أرجع إليه وأريده أن يطلقني .
- لا تتعبي نفسك .. فوراءك رجال ليأخذوا حقك .. كوني هادئة وأنا سأتفاهم معه .
عادت كاميليا بصحبة والديها من المستشفى فجرا واستلقت على سريرها الخالي في غرفتها الزهرية ، وأحسته مشتاقا لها ولأحلامها ولذكرياتها . ظلت تبكي بصمت وذكريات الأيام الحزينة التي قضتها في هذه الغرفة تطفو على سطح ذاكرتها . تذكرت كيف اعتصمت عدة أيام لا تخرج ولا تأكل لتعبر عن موقفها من هذا الزواج ، وكيف طرأت فكرة الهروب والاختفاء لثلاثة أيام على بالها وذهبت لعماد وأخبرته ، وكيف أهانها وأذلها وطردها من بيته . تنهدت بحرقة وألم وهي تفكر به .
استيقظت ظهر الجمعة وهي تشعر بوهن وألم في رأسها وعينيها من كثرة البكاء . طلبت من أختها كوبا من الشاي ، فأحضرته لها مع ساندويتشا وطلبت منها أن تأكله . قضمت قضمة صغيرة بلا شهية وشربت الشاي ، جاءت أمها وضمتها إليها وقالت له بحنان بالغ :
- جاء ناصر قبل قليل وهو في المجلس يتحدث مع والدك .. عليك إخباري بكل شيء لأذهب وأواجهه أمام والدك .
التفتت كاميليا لأختها شذى ، فطلبت منها أمها الخروج وبقيتا لوحدهما وقالت بألم ودموعها تسبقها :
- أخبرتني الخادمة مرة أنه طلب الجلوس معها للحديث وهي رفضت .. والبارحة سمعت صوت ضحكاته وفاجأته في غرفتها .. بعدها قال لي بأنه أقام معها علاقة عدة مرات وكان ناجحا .. كما أنني السبب فشله معي واتهمني بالبرود .
- ولماذا يتهمك بالبرود .. ألم يدخل بك منذ زواجكما ؟
هزت رأسها بخجل وقالت :
- لا .. كان يفشل دائما في ..
كانت محرجة فهي لم تتكلم مع أمها في هذه الموضوعات يوما وسكتت للحظات ثم قالت :
- كان يوبخني ويسخر مني كل مرة .. وهددني بأن يقطع لساني إذا تكلمت لأحد .. كنت فرحة بهذا واشكر ربي فأنا أبغضه بشدة .. وفي الآونة الأخير صار يغضب ويعنفني بقسوة وتجرأ وضربني في آخر مرة .. وأنا أتحمل لأني لا أريده أن يمسني .
طرق الباب وكان والدها هو الآتي . دخل وأقفل الباب وقال لزوجته بأن ناصر خرج فسألته بحدة :
- وماذا يريد ؟
- يشرح سوء الفهم الذي حصل بينه وبين كاميليا .. وهو يقول أن الأمر لم يتجاوز تدليك الظهر .. وأنه حاول إغاظة كاميليا فقط بكلامه .
قالت كاميليا لوالدها ودموعها تتدفق بغزارة من عينيها وتغرق وجهها :
- لا أريده وعليه أن يطلقني ... يكفي ما عانيته معه خلال الأشهر الماضية .
أنتفض الأب وقال :
- الطلاق أبغض الحلال وهو ليس حلا أبدا .. أتريدين أن تصبحي مثل ابنة خالك التي تطلقت وها هي تدور على حلّ شعرها .
تهدج صوتها وهي تقول :
- لن أرجع إليه بعد الذي فعله .. أم أنك ترى ما فعله قليل بحقي ؟
- هو لم يرتكب كبيرة ... وبالنسبة للخادمة طلبت منه أن يسفرها .. وعليك أن تسامحي زوجك إذا أخطأ .
ترجته أن لا يجبرها على العودة إليه وأن لا يظلمها مرة أخرى . فخفف من حدة كلامه وقال :
- وهل تعتقدين بأني أقبل بظلمك .. سأجعل ناصر يعتذر منك أمامي وأمام أبوه أيضا .
أجهشت بالبكاء وخبأت رأسها بين ذراعي أمها وهي تقول :
- أريد الطلاق .. لن أرجع إلى ذلك البيت المشئوم .
غضب والدها من تكرارها طلب الطلاق فقال لها بصوت مرتفع :
- الطلاق طعن لنا ولشرفنا ولسمعتنا .. هل ترضين لنا ذلك ؟.. كوني عاقلة وأنا سآخذ منه تعهدا بعدم إغضابك والحياة الزوجية تحتاج إلى الكثير من الصبر .
وتدخلت الأم قائلة :
- وأي علاقة زوجية هذه التي تتحدث عنها .. هو لم يتمكن من الدخول بها حتى الآن .. لا بد أنه مريض .. دعهما يطلقان بالمعروف وكفى ما حصل .
- لا تحلمي بالطلاق مادمت حيا .. لقد قال لي بأنها دلكت ظهره فقط ولم يتطور الأمر .. وسأدعه يعتذر منك وانتهينا وكفى تضخيما للأمور .. وعلى المرأة أن تصبر على زوجها .
الفصل 29
أقلعت الطائرة من مطار دبي مساء الأحد عائدة إلى الدمام . أطفأت الأنوار وأمسك عماد بيد ريم الجالسة بجوار النافذة ومسندة رأسها على كتفه ، قال لها بلطف وهي تتفحص وجهه :
- أتمنى أن تكون هذه الرحلة القصيرة أسعدتك .
ابتسمت وهمست له بأن اهتمامه بها هو ما يسعدها ، فابتسم ووعدها بأن يكرر الرحلة بين وقت وأخر ليشاهدا الأفلام ويتنزها ويتسوقا كما فعلا هذه المرة . وصلا إلى القطيف قبل أن ينتصف الليل . كانت ريم سعيدة لأنها قضت يومين كاملين بصحبة زوجها ، وسرعان ما بدلت ملابسها وارتدت قميص نوم جديد أشترته من دبي ونامت بين ذراعيه .
ذهبت إلى مستشفى القطيف المركزي حيث تعمل وهي ممتلئة بالنشاط والحيوية وتوجهت مباشرة لغرفة الولادة فأخبرتها رئيسة الممرضات بعدم وجود أي مريضة بعد . تناولت إفطارها في الكافتيريا بسرعة ، ثم توجهت للمختبر لإجراء تحليلا لكشف الحمل . كانت متشوقة لتصبح حاملا بسرعة خاصة بعد أن انتظمت علاقتها بزوجها مؤخرا فأصبحت تجري التحليل دوريا . ربطت الممرضة الرباط المطاط حول يدها ومسحت المنطقة بمسحة طبية وغرزت أبرتها في وريدها وملأتها بالدم وطلبت من ريم العودة بعد نصف ساعة لمعرفة النتيجة . وعندما انتهى دوامها الذي أحسته طويلا عادت للبيت تنتظر زوجها على أحر من الجمر .
بدل عماد ملابسه بعد عودته من الشركة وتوجه إلى الصالة مباشرة بناء على طلب ريم ، فهي تريد أن تخبره أمرا هاما . وجدها واقفة أمام الجدار المغطى بالمرايا تنظر لنفسها والابتسامة تعلو وجهها . وضعت يدها على بطنها وقالت والسعادة تغمرها :
- أنا حامل .. لقد أجريت الاختبار اليوم والنتيجة إيجابية .. وسأحجز لي موعدا مع طبيبة مختصة تعمل في مستشفى خاص لأتابع معها .
سكت مندهشا وأصابعه تفرك جبينه ، لم يكن متوقعا بأن اليوم الذي يصبح فيه أبا سيأتي . سيصبح أبا وكاميليا التي حلم بها أما لأولاده ليست أم هذا الطفل ، قال لها بجمود ضايقها :
- مبروك .. لا تجهدي نفسك في العمل .
جلس على أول كنبة صادفته وأمسك الجريدة ليغطي بها وجهه المرتسمة عليه ملامح الصدمة . كان مذهولا ومشتتا بسبب خبر قدوم طفله إلى الحياة . لم يكن مستوعبا للمرحلة القادمة ، فهو سيصبح أبا ومسئولا عن زوجة وطفل . قرأ عناوين الصفحة الرئيسية والسياسية والمحلية ، ووصل إلى الصفحة الثقافية . أحس بألم يعتصر قلبه عندما رأى زاوية همسات من قلبي موجودة هذا الأسبوع ..
" أتذكر ..أتذكر عندما كان الهوى في القلب سلطاناوأنا في قلبك الملكة ولا أرضى عن نبضك مكاناأتذكر . .عندما كنا نتقاسم الأحلامووعدتني لن تفرق بيننا الأيامأتذكر عندما كانت أمواج عينيك تغرقنيأتذكر عندما كنت بالهمستحدثني .. تقبلني .. تعانقنيأتذكر أننا يوما تعاهدنافأين العهد ؟و توجتني على قلبك الملكةفأين التاج ؟.. وأين العرش ؟أين الحب والأحلام ؟!ووعود الهوى والكلام ؟أم أنك لم تعد تذكر ..
كاميليا الناصر
الرسالة الثانية .. والباقية تأتي
****
وقفت كاميليا أمام زوجها والديها بجانبها وعمها جالس يراقب ما يحدث بصمت . كانت تبكي ورأسها منكسة بانكسار وذل . أرغمها والدها على العودة إليه كما أرغمها على الزواج به ، لم ينفعها بكاؤها ولا دموعها ولا اعتراضها . لم يشأ والدها أن تصبح مطلقة الآن وتسيء إلى شرف عائلته . فشرف العائلة بالنسبة له أهم بكثير من سعادة أو شقاء ابنته . اقترب منها ناصر وقبل رأسها واعتذر منها أمام الجميع . قال لها وهي واقفة والدموع تفيض من عينيها :
- أنا آسف .. وأعدك بأن لا يبدر مني ما يزعجك .. دعينا نعود لمنزلنا .
قالت بقهر :
- سأذهب معك مجبرة كما كنت مجبرة على الزواج بك .
خرجت معه وإحساس بالكراهية يعصر قلبها ، تكره نفسها وزوجها والدها الذي يجبرها على الرجوع إليه برغم ما بدر منه وبرغم ما أخبرته عن تصرفاته المشينة . شعورها بالكراهية لنفسها جعلها تعد نفسها أن لا تعود لمنزل والدها مهما حصل بينها وبين ناصر فلن تتحمل الإهانة المريرة كما تتحمل الآن ووالدها يعيدها لناصر ليفعل بها ما يشاء بدون أن يرحمها .
خرج عماد من الشركة عائدا لمنزله ولكن اتصال والده جعله يغير مساره فذهب لرؤيته في مكتبه ، وتفاجأ عندما وجد عمه وفيصل موجودين أيضا فهم معتادين على التجمع ليلا . قال له عمه بأنهم يجتمعون من أجل مناقشة انتخابات المجلس البلدي التي ستتم للمرة الأولى في المملكة ، ووجود أحد أفراد عائلة الغانم في المجلس أمر مهم يخدم مصالح العائلة ويحمي وجاهتها . عرض أمر الترشيح على فيصل ورفضه في دورته الأولى وأبدى موافقته للترشيح في دورات قادمة تكون فيها مهام المجلس قد اتضحت قليلا . تفاجأ عماد كثيرا عندما أخبره عمه بأنهم يروه المرشح الأنسب لخوض غمار الانتخابات رغم عدم اختلاطه بالناس ، إلا إنهم سيدعمونه بجميع الوسائل ، فاسم العائلة كفيل بتسهيل نصف المهمة كما أنهم سيعدون له حملة دعائية كبيرة وبرنامج فعال يشرف عليه مسئول مختص .
- لن أترشح في هذه الانتخابات الكوميدية .
رفض عماد فكرة الانتخابات جملة وتفصيلا . لم يكن يريد دخول البيت السياسي رغم اقتناعه بأن مجلس البلدي عتبة خارجية فقط . فند لأبيه وعمه الأسباب التي تمنعه ، فهو لن يترشح مادام التصويت مقتصرا على الرجال ولا أحقية للنساء وكأنهن مواطنات من الدرجة الثانية فهذا به طعن لثقافته التي يفتخر بأنه أسسها ونسجها بطريقة الخاصة ، إضافة لأسباب أخرى بينها حصر صلاحيات المجلس ، الذي سيعين أعضائه والرجال وحدهم سينتخبون النصف الآخر .
يتبع ,,,,
👇👇👇
اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ,,, اضف تعليقك