بارت من

رواية ضلالات الحب -10

رواية ضلالات الحب - غرام

رواية ضلالات الحب -10

- مريم، أنا أكلمك ، لم لا ترفعين رأسك؟
لم تستجب، لا تريد لوجهها أن يفضح مشاعرها تجاهه، أن تذل نفسها لإنسان لا يستحق هو آخر ما تريدُ فعله.
- لقد اشتقت لرؤيتك ورؤية وجهك!! (قالها بحرارة.(
تجرأت ورفعت رأسها وقد عمّ الاحمرار جميع قسمات وجهها، رمشت عينيها بخجل، لكنها لم تقوى على النظر إليه هكذا..مباشرةً، غضت طرفها وأطرقت رأسها من جديد، رفعت رأسها فجأة وكأنها انتبهت لنفسها، كيف تسمح له بأن يكلمها هكذا دون حدود؟! ثم أليس سيتزوج قريبا!! لم هذه التمثيلية إذن؟!
دائماً تخونه مشاعره أمامها، كلما حاول أن يتمالك نفسه، كان شيئاً أقوى منه يشده، يجعلهُ ضعيفاً أمامها..يدفعه لأن يعترف بأشياء لا يريدُ الاعتراف بها حتى لنفسه!!!
- مريم أنا..
- أنت ماذا؟! (صاحت فيه بإنفعال.(
- أنا...أنتِ أريد أن أقول..أقصد لاشئ..لاشئ!!
هزّ رأسه نافياً وكأنهُ غير رأيه في اللحظة الأخيرة.
"تريد أن تقول أنك ستتزوج، اطمأن فأنا أعرف، أصبح خبراً قديماً..". كانت الغصة أقوى منها، أقوى من أن تتمالك أعصابها المرهفة..أتعرفون إلى أي مدى يقودنا اليأس؟!
- لماذا تفعل بي هكذا؟! (سألته بتباكٍ).
- حرام عليك حرام..
- مريم أنا...
- يكفي، أنا لا أريد أن أسمع شيئاً منك، أرجوك فقط ابتعد عن وجهي لا أريدُ أن أراك.
وأردفت وهي تريد أن تؤلمه، أن تؤذيه كما آذاها في قلبها..في الصميم:
- أنت شخص كريه، غشاش لا تُطاق..أنت لا شئ بالنسبة لي، لا شئ أتفهم، لذا أرجوك لا تتعب نفسك وتحادثني للأنني لن أهتم لشخصك أبداً.
دارت بغضب، الكلام معه لن يُجدي أبداً، كيف لمثله أن يشعر، وكيف لها أن تُحب شخصاً مثله!! أما هو فقد جرحتهُ كلماتها، الكلمات أقسى من الفعل أحياناً، اسمعت أيها الأحمق ماذا قالت وأنت كنت وبكل غباء ستعترفُ لها بحبك الأرعن مثلك!!!
أعماهُ الغضب، لا بل كلماتها هي من أعمته، أمسك ذراعها من الخلف بعنف وأدارها أمامه:
- ماذا تفعل، أترك يدي...هل أنت مجنون؟!
لازال قابضاً عليها بقوة وآلاف الشياطين تتراقص أمام عينيه...
- لا تمسكني هكذا أمام الناس، إنهم ينظرون إلينا. (صاحت فيه وهي تحاول جاهدة أن تسحب يدها من قبضته.(
صرخ فيها بوحشية:
- أتريدين أن أمسك بكِ في مكان آخر، بعيداً عنهم؟!!!!
و لا زالت الضلالات مستمرة....
يا تُرى من الشخص الذي رأته ليلى؟!!
وماذا عن مريم وخالد..أين سينتهي بهما المطاف...
أحداث كثيرة تنتظر أبطالنا في المهرجان..
أسينتهي ذلك اليوم حقاً على خير؟!
(16)
اقتربت منه، كان مُديراً ظهره لها، ينظر دون هدف، أجاء هنا لوحده...أم؟!!
- س..سلمان.
لم يسمع، رفعت من طبقة صوتها قليلاً بتردد.
- سلمااان.
والتف إلى صاحبة الصوت، فتح عينيه بدهشة ممزوجة بالفرح:
- من؟! ليلى..معقول!!
وابتسمت، بل ضحكت بحبور في وجهه، تقدم منها أكثر حتى بات يواجهها تماماً:
- كيف حالكم، وكيف حال الوالد ومحمد؟!
- بخير، كلنا بخير والحمد لله!!!!
- وأنتِ ما هي أخبارك؟
- ب..بخير، لا زلنا أحياء في هذه الدنيا..
وحل الصمت، كلاهما يفكر بجملة..بسؤال..بأي شئ!!!
- أأتيت هنا للسياحة؟!
- كلا، أنا أعمل هنا منذُ مدة، عقدي سينتهي بعد شهر وسأعود حينها للبلاد.
…………….-
- أين تقطنون،أ..ربما أزور "محمد"، اشتقت له كثيراً.
قالها وهو ينظر لها بحنو، بحسرة من أضاع شيئاً..شيئاً كان يوماً نفيساً بالنسبة إليه.
"لا تنظر إليّ هكذا، لم أعد أنفعُ بشئ، لم أعد ليلى، لم أعد أعرف حتى نفسي!!!".
- نسكنُ في "......."، سأعطيك رقم هاتف المنزل إذا أضعت يوماً..
سجل رقم الهاتف، أخذت ترمقه، كم تغير كثيراً، بات أكثر صحة، حتى أن جسده اكتسب بضعة أرطال..كانت أيام!!!
- طيب، عليّ أن أعود الآن، استودعك الله.
- مع السلامة.
لوح لها مبتعداً وهو يبتسم، عادت لها كآبتها من جديد...سلمان..لماذا الآن..لماذا!!!
كان جارهم، وصديق أخيها "محمد" منذُ الطفولة، يتردد كثيراً لمنزلهم، جعلت منهُ فارسها وهو أيضاً كان يبادلها نفس الشعور وربما أكثر، لكنّ ملازمته لمحمد جعلتهُ مدمناً مثله، وكأنه طبق المثل القائل: الصاحب ساحب!!!!
ولكلٌُّ إرادة متباينة، ولصاحبنا هذا إرادة من حديد، لكنها لم تشفع له!!! فقد تعالج في إحدى عيادات الإدمان وحين تقدم للزواج منها والدها رفضه!! رفضه لأنه لا يرتضي لإبنته أن تأخذ مدمن مخدرات حتى ولو كان يحمل لقب (سابقاً)، ما أدراها ربما يعود مرةً أخرى للإدمان، دمهُ ليس نظيفاً مائة بالمائة، له قابلية للإنجذاب لأقل شئ، لمجرد الإسم فقط، رفتيل..لبتيل..تبتيزل..ال.اس.دي، هيروين..كوكايين والبقية تأتي !!!
"لم لم تعطه فرصة يا والدي، لو تراه كم تغير، بات شخصاً أفضل، كل إنسان يخطأ، فإذا كان ربُّ السماء يرحم ويسامح، فلم لا نسامح ونحن عبيده..مجرد عبيد..
سامحك الله، ظننت أنك أخرجتني من ورطة، فوقعتُ في "أبو محمد" !!!!
هزت رأسها بتهكم ساخر، ودلفت لتبحث عن أختها وأخيها...
"-خالد" دع أختي، لا تضربها، أنا لا أحبك، لن أكلمك بعد الآن.
تطلع إلى الصغير، ثم تطلع لأخته، تلك التي تثير جنونه، يود أن يضربها أحياناً فعلاً!!!
ترك يدها بإزدراء وكأنها لا شئ، كانت طوال الوقت صامتة تتطلع له بعجب وكأنّ لوثةً أصابتها!! تحاول أن تحلل جملته الأخيرة في ذهنها لكنها لا تجدُ لها معنى أو تفسير!!
وحين تركها، أفاقت من شرودها الذاهل، وابتعدت عنه بخطوات بعيدة إلى الوراء، إلى حيثُ ينتصب عمود الإنارة، لكنها لم تصطدم به بل أصطدمت بجسد أختها العائدة للتو.
- ماذا جرى لكِ، كيف تمشين للخلف هكذا كالحمقى!!
لم تجب، لازلت تنظرُ إليه، على وجهها تساؤلات كثيرة وفي عينيه إجابات مغلقة لا تقدر أن تفك شفرتها.
تطلعت "ليلى" إلى حيث يقف أخاها وبجانبه ذلك الشخص، نقلت بصرها بين الاثنين تريدُ أن تفهم..لكن لا حياة لمن تنادي..
- لقد اتصلتُ بوالدي عدة مرات لكنهُ لا يرد.
- سنذهب لنبحث عنه في الموقف.
وأشارت ل"أحمد" فهرع إليها وهو متضايق من الموقف برمته، لا يريد أن يخسر صديقه الجديد ولا أن يُغضب أخته التي ستضبُّ جام غضبها عليه بعد قليل وكأنهُ السبب في ما حصل!!
لكنها لم تكن غاضبة، كانت حزينة أو بالأحرى لا تستطيع أن تحلل مشاعرها إلى حقيقتها تلك اللحظة..
ساروا ثلاثتهم بصمت، كلٌُّ سارح بخواطره، ليلى وسلمان، ومريم وذلك المتعجرف، وأحمد والألعاب التي لم يشبع منها بعد!!
شدتهم الفوضى، رفعوا رؤوسهم دفعةً واحدة، حيثُ يتجمهر الناس في موقف سيارات الأجرة، توقفت "مريم" وهي تشدُ على يد "أحمد"، وتبادلت وأختها النظرات، هزت تلك الأخيرة رأسها بنفي وأنطلقت إلى هناك..
وتسارعت النبضات بين خافقيها دون أن تدري سبباً لذلك، كانت تشعرُ بالجزع، بشعورٍ سئ، لا تريد أن تذهب إلى هناك وترى ما يحدث، لا تريد وكفى!!!
وتهالكت على الرصيف، تسمع توسلات "أحمد" ليلحق بأخته، تطلعت إليه لثوانٍ ثم نظرت إلى السماء، بدت النجومُ فيها قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد، عادت تنظر بزيغ إلى "أحمد"، وتعاودُ الدعاء..
- هل انتهى الفيلم الهندي!!
- وددتُ أن أصوركما بكاميرة جوالي، لكني خفتُ أن تذوب العدسة!!!
- تذوبُ من ماذا؟ (سألهُ بحنق.(
- من حرارة المشاعر!! منذُ زمن لم أشاهد أفلاماً هندية، ذكرتني بأيام "أميتاب بشان وسرديفي" الله يذكرك بالخير!!! (وضحك مقهقهاً.(
- لو تعرف كم أنت سخيف..(قالها وقد علقت ابتسامة خفيفة على شفتيه).
- وما دمت يا أخي تحبها لهذه الدرجة، أخطبها وارح نفسك.
- وهل قلتُ لك أني أحبها يااااا "أبو العريف"، إنها لا تعني لي شيئاً، تلك المغرورة بلا شئ.
- لستَ بحاجة لأن تقول ذلك، تصرفاتك البلهاء تفضحك.
- أنت الأبله بشاربك هذا.
- ابتدأ موّال الغيرة.
- وبالإضافة إلى كوني لا أحبها، فهي لا تصلح لي كزوجة أبداً.
- لماذا؟
- كم مرّة أعدتُّ عليك قائمة مزاياها.
- هذا ليس سبباً كافياً، أنت ستأخذُ الفتاة لشخصها وليس لحسبها ونسبها وما شابه. (قال بحدة استغرب منها خالد.(
- حين تأخذ فتاة ما لن تأخذها وحدها فقط، بل ستحمل معها اسمها واسم عائلتها، فإذا كانت عالية رفعتك إلى فوق، وإن شابتها شائبة مرّغت رأسك في الطين!!
- وما أدراك أنّ صاحبة الرصيد الكامل من النسب والحسب والمقام كما تزعم، لن تمرغ رأسك في الوحل، أتحسب كل من تعيش في بيت أهلها معززة مكرمة هي فتاة شريفة؟!! اسألني أنا، كل من أعرفهن بنات عائلات والله لا يساوون ظفر أنملة من هذه الفتاة.
- ما دامت تعجبك هكذا لم لا تتزوجها أنت إذن؟) صاح فيه بغضب.(
- لا فائدة منك، لن تتغير أبداً، هذا الأنف المتكبر لا يعرف الإنحناء.
- صه، انظر لهذه الجمهرة من الناس، يبدو أنّ حادثاً حصل.
نظر "فيصل" إلى حيث يشير "خالد" وسارا معاً ليرا ما هناك....
ألم تتأخر "ليلى"؟!
يكفي، ما عاد بي قدرة على التحمل، لم يعد بي قدرة على النهوض، لا بد أنّ ما أتخيله حقيقه، وساوسي حقيقة وأحلامي سراب..سراب...
سار عنها "أحمد"، لم تستطع أن توقفه، بل لم تنتبه لفراره، تخاطبُ نفسها وتدعو في سرها أنّ ما يدور في ذهنها هو من وحي تهيؤاتها فقط، فليتحقق هذا الأمل فقط وبعده لا يهم، لا يهم....
انتشلت نفسها، لقد تأخروا كثيراً، تسحبُ نفسها ببطء، تمشي بعينين نصف مغمضتين، لا تُريد أن تُصدم فجأة، ها هي تفتحها، وتغلقها حيناً حين تقترب، يالله يا لأعداد الناس الغفيرة، لكأنهم في حفل!!
اشرأبت عنقها وهي تحاول أن تقف على رؤوس أصابعها، لعلها ترى شيئاً من بين تلك الظلال البشرية، ولمحتها..
كانت جاثية على ذلك الجسد، تلمهُ بما استطاعت به أن تلمه وثلةٌ من النساء يحاولن أن يبعدنها لكنها لازالت متشبثة بذلك الجسد الذاوي.
ردت بصرها إلى الخلف بسرعة، ثم عادت لتنظر إلى الطريح على الأرض، كررت هذه الحركة عدة مرات، كانت تسمع أصوات...همسات تناديها "م..ر..ي..م" ثم تليها ضحكات مجنونة، لتعود تناديها مرةً أخرى بذلك الصوت الهامس "م..ر..ي..م".
ابتعدت عن الأشجار وهي ترتجف، لا بد أنّ حفيفها هو من يصورُ لها تلك الأصوات، اقتربت أكثر، همهمات كثيرة طغت حول المكان:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
"ليرحمه الله كان رجلاً طيباً"
"مسكين، مات في الغربة، ليساعد الله عياله".
لم تصغ السمع أكثر، أذناها ترفضان استقبال هذه الكلمات، أرادت أن تدخل بينهم، أن تشارك في المعمعة، أن تغوص مع تلك الأمواج البشرية، لكنهم لم يسمحوا لها، الكل يتسابق لتصوير الحدث بالعين مباشرةً.
" ابتعدوا أرجوكم، هذا الجسد أعرفه، وتلك الفتاة التي تبكي أختي و.....أين أحمد؟!!"
رددت في نفسها بذهول السكران، عادت لتجلس على أي شئ، تديرُ رأسها حول المكان ببله، تناهى إلى مسمعها صوت سيارة إسعاف، أصوات كثيرة مزعجة، لكنها لا زالت تبحث عنه بعينيها، عيناها هما الوحيدتان اللتان تتحركا، أطرافها خدُرت، ترفض أن تُطيع وتتحرك..
شعرت بالصداع يعودُ إليها من جديد، أراحت رأسها في حجرها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة..
اقتربا، الصور تتضح والموقف المتماهي يتضح شيئاً فشيئاً، في زاويةٍ ما كان مختبئاً، يعضُّ على يده بقوه وجسد الصغير ينشج بصمت كنشيج الميازيب في مواسم المطر، ميّزهُ "خالد" فأسرع إليه...كيف لا؟! أليست أخته!!
"- أحمد".
وخرجت من فمه الصغير شهقة مكتومة، عاد ليكمم فمه بيده من جديد وجسده يرسل اهتزازات عنيفة...
- ماذا بك، لم تبكي؟!
- ماذا حصل؟ سأله بخوف.
لا زال يبكي دون أن يحر أي إجابة، أبعد "خالد" يده و هو ينزل بمحاذاته:
- أبي..................... م..ا...ت.
وارتمى في حضنه، بهت "خالد" في مكانه، صمت لبضع لحظات، كان يضغط رأسه على صدرة بقوة لكأنهُ يودُّ اختراقه. ربت عليه وهو يفكر بالأخرى..تُرى كيف حالها الآن؟! نهض من على الأرض بعد أن هدأت شهقاته، لمّهُ بجانبه وهو يسير معه إلى هناك و"فيصل" يتبعهما، كان يزدادُ إنكماشاً كلما اقتربوا، أحسّ به "خالد" فغير رأيه، نادى "فيصل" وطلب منه أن يبتعد به قليلاً ويشتري له أي شئ ليهدئه...
أخذ يجول بين عينيه بين الحضور، أتت سيارة الإسعاف، لقد تلاشى الرمق من ذلك الجسد...
لا زالت دافنةً رأسها، تحاول أن تتجاهل كل ما يجري، أن تعزل أذنيها عن كل الأصوات النشاز، لا تريد أن تصدق ما يجري.. "أريدُ أن أعود للبيت لأرى كل شئ كما كان، كما في السابق" أخذت تخاطب نفسها، رفعت رأسها ببطء وكأنها انتبهت لشئٍ ما، شئ نسته، شئ غاب عن ذهنها للحظات..
"أحمد..."
تطلعت إلى حيثُ الناس، إلى تلك البقعة، لقد نقلوه!!! أحست بلوعة، بغثيان، برغبة في التقيؤ، دمعتها لم تحدر بعد، لم تجد لها مرسى، لازالت تائهة، ضائعة مثلها هي....
أخذت شهيقاً بطيئاً وهي مغمضة عينيها، زفرت الهواء المحبوس في رئتيها بقوة، بقوة وهي تتقرح...أمسكت معدتها وهي تشعر بشئ حارق، يغلي بداخلها، يخنقها ويحيلها إلى هشيم...
كل هذا يحدث أمامه وهو يقف ساكناً لا يجرؤ على التقدُّم، منظرها يقطعه، يفتته إلى لاشئ..
ارتكزت بباطن كفيها على الأرض، دفعت نفسها لتنهض، وبصعوبة وقفت..
تلفتت حولها، تفرقت الجموع قليلاً واتضحت الرؤية، النساء لازلن يحطن بليلى، يحاولن أن يسكتنها وصوت عويلها يخترقُ السماء، تبكي روحاً عرجت إلى الملكوت منذُ قليل...
تريدُ أن تبكي، أن تصرخ مثلها، لكن هدوءاً عجيباً يهدرُ بداخلها، يرخي أحبالها الصوتية، يمنع حنجرتها من التعبير، الحزنُ هو من يغلفها، يطوقها بتلابيبه، يعصرها عصراً ويعطل طاقتها، لا يترك لها المجال للتفكير حتى..
نادت بهمس- هذا ما استطاعته- ليلى..أنا لا أرى أحمد، أين ذهب؟!
لكنَّ الأخيرة في خبر كان!!! لم تكن تسمعها أو تراها حتى، كانت في عالم آخر، عالم بعيد، هناك حيثُ انتُشل الجسد..
رآها تحرك شفتيها في الهواء، تخاطبُ نفسها كما لو كانت مجنونة، اقترب، لم يصبر..شئٌ أقوى منه يشده، انتبهت لخطواته فاستدارت ناحيته وهي تحملق فيه دون استيعاب، عاد فكها ليتحرك من جديد وبنفس الهمس سألت:
- أرأيت أحمد أخي؟!
منظرها الذاهل ألجمه، قطع نياط قلبه، تكلمه وكأنها من عالم آخر:
- بحثتُ عنه لكنني لم أره، ضاع مرةً أخرى.
ثم وضعت أصبعها بسرعة على فمها وكأنها تنفي:
- هو من تركني هذه المرة، لم أتركه أقسم بالله..أسأل حتى ليلى!!
حركت يديها في الهواء وهي تشير إلى "ليلى" بيأس، أردفت بإختناق:
- أكلمها منذُ مدة لكنها لا تسمعني...
…………….-
- أ..أ..أب..أبي ينتظرنا ونحنُ لم نصلي بعد!! أبي...رددتها بشرود وهي تنظر إلى البقعة من جديد.
……………..-
- لكنهُ ذهب صح؟! ذهب؟! ها أجبني؟! ذهب أم لم يذهب؟!
…………….-
- أتعتقد أنهُ سيلتقي بأمي هناك؟!
……………..-
- كلهم يذهبون أنا أعرف، كل من أحبهم يذهبون.... ردت بصوتٍ مبحوح.
وضعت يديها على رأسها وهي تهزه، لكأنها تريد أن تبعد خواطرها، تقذفها إلى حيثُ النجوم, إلى البعيد...
عادت من هذيانها، يتأملها بعجز، تبدو كورقة خريفية تقصفت عروقها للتو، فقدت ما تستندُ إليه، فتخلل فُتاتها بين الأصابع، ارتحل مع هبّات الرياح، إلى مكان آخر..أين..لا أدري!!
أردفت بلوعة وهي تأن:
- وأحمد..أين هو..ذهب أيضاً؟!
- أحمد معي، لا تخافي. أجاب بصوت أجش.
- أين؟!
- مع صديقٍ لي الآن، اهدأي قليلاً.
- لن أرتاح قبل أن أراه. "ألا تعرف أنهُ وصية من أمي، و...أبي قبل أن يرتحل".
أراد أن يعود ليرجع بأخيها، لكنّ قلبه لم يطعه أن يتركها في هذه الحالية المزرية، وقف متردداً في اتخاذ القرار ربما لأول مرة في حياته..
أخيراً أمسك بهاتفه، واتصل بفيصل طالباً منهُ أن يحضر مع الصغير..
عاد ليختلس النظر إليها، كانت واقفة بحيرة، بعودها النحيل، ورغم شحوبها إلا أنها بدت جميلة، جميلة رغم كل شئ..
حضروا، أحمد يزدادُ انكماشاً، يمشي بتردد، مدت لهُ يدها بإرتجاف وتقطعت تلك الخيوط الواهنة التي كانت تلمُّ بها نفسها المبعثرة..
الليل يزدادُ حلكة، كل شئ ساكن، ماعدا تلك النهنهات المنبعثة من تلك القلوب المفجوعة....
يتبع ,,,,,
👇👇👇
تعليقات